يذهب بعض المؤرخين إلى أنّ الرسالة الطويلة التي كتبها الأستاذ أحمد محمد نعمان (النعمان)، وهو طالب أزهري في القاهرة، في العام 1938، لولي العهد في المملكة المتوكلية اليمنية أحمد بن يحيى حميد الدين، تعتبر من وثائق التأسيس الأولى للخطاب السياسي لحركة الأحرار اليمنيين التي كان الأستاذ النعمان أحد رجالاتها المؤثرين، وعرض فيها وبشكل جلي مشكلة الرعية الذين يسكنون المناطق الزراعية في مناطق اليمن الأسفل مع العسكر القادمين من جبال شمال اليمن الجرداء بوصفهم رمز السلطة الغاشم، والمعبرين عنها في تعدياتها المتعددة تجاه الفلاحين.
هنا نستعيد مقاربة لهذه الوثيقة بقلم نجل النعمان السفير مصطفى النعمان.
___________________________________________________________
في عام ١٩٣٨، كتب الأستاذ أحمد محمد النعمان خطابًا مفتوحًا إلى ولي العهد اليمني أحمد -الإمام بعدئذ- بعنوان (الأنة الأولى)، ليشرح له معاناة (الرعية) الذين يقطنون المناطق الزراعية جنوب البلاد، وكانت تعرف باليمن (الأسفل) تعبيرًا عن انخفاضها عن مستوى سطح البحر، على يد العسكر القادمين من المناطق الجبلية الجرداء في اليمن (الأعلى)، واستخدم فيه أرق العبارات محاولًا استمالة ولي العهد للتعاطف مع المأساة التي شكّلت الوعي السياسي لأبناء الرعية وترسخت في ذاكرتهم الجمعية على مدى عقود طويلة، وتركت آثارًا نراها تنبعث اليوم عنفًا وحقدًا.
بدأ النعمان خطابه: "فما أشدّ ألم رعيتكم، وما أعجزهم عن الشكوى، بل ما أخوفهم من الأنين والتوجُّع والتأوّه. هؤلاء رعيتكم يناشدونكم اللهَ العدل والإنصاف، فهل لكم أن تجعلوا حدًّا للمصائب النازلة بهم والمظالم التي أقضّت مضاجعهم وسلبت راحتهم وأقلقت بالهم، وكانت هي أكبر عامل في تفضيلهم البلاد الأجنبية على وطنهم والهجرة على الإقامة... وغدا كبار الموظفين عبارة عن مديري شركات تجارية والوظائف سلع تعرض للبيع والشراء، ومن ينكر اليوم أنّ عصي الجوع تسوق الرعية وسوط الظلم يشردهم وينفرهم. فهل من عطف وإشفاق؟".
عدّد النعمان المظالم التي دفعت الرعية للهجرة، وكانت تنهال عليهم، ووصفَها بدقة؛ ليمنح ولي العهد فرصة ادعاء عدم معرفته بها.
تمثّلت أسباب الهجرة، كما شرحها النعمان، في الآتي:
السبب الأول: الخطاط
احتلال العسكر لبيوت الرعية وتكليفهم بخدمتهم، بل وتحمل نفقاتهم.
السبب الثاني: التنفـيذ
هو ورقة تحرر بيد العسكري من الموظف المسؤول عن إدارة تلك الجهة، يأمر العامل (مدير الناحية) بقطع راتبه ونفقته اليومية؛ لأنّه سيكون ضيفًا على الفلاح، وفوق الضيافة له أجرة منه تقدر بطول المسافة وقصرها.
السبب الثالث: فداحة الضـرائب
(الزكاة) أو (الواجبات) أو (العُشر) أو (حق بيت المال) ألفاظ مترادفة ومعناها واحد، هو سلب الرعية بلا شفقة ولا رحمة ولا إنصاف ولا عدل ولا قياس ولا تقدير.
السبب الرابع: التخمين، والمخامنة
يُعيّن المخامنة ويُبعثون إلى القرى لتقدير حاصلات المَزارع من الحبوب، التي لو نقصت فليس جزاء المخمن إلا البصق في وجهه واللعن والطرد، وتسجيل اسمه خائنًا وقليلَ دِين وساقطًا في نظر الحكومة.
السبب الخامس: الكشاف، والكشف
يبعث في إثر المخامنة (الكاشف) ليكتشف ما كتمه المخمن، ويمثّل الدور الذي مثّله سلفه، سواء بضيافة ثقيلة أو رشوة مضاعفة، وقد يضع تقديرًا لغلّات الأرض، وأعظم من تقدير المخمن لينال حظوةً عند الموظف الذي قلّده هذا المنصب.
السبب السادس: بيت المال، أو مصب دماء الرعـية
بعد التخمين والكشف يأتي دور (بيت المال)، الذي تُحوَّل إليه الحسابات ليقارنها الموظفون مع دفاتر العام الماضي، فإن كانت تحتوي على أكثر ممّا قدر في السنة السالفة عملوا بها، وإن احتوت على أقل من ذلك رفضوها وخاطبوا الرعية أن يسلموا ما دفعوه سابقًا.
السبب السابع: (المشـايخ) أو (العـرائف) أو (العقّـال) أو (السوسة التي تنخر في جسم الرعية)
عند انتهاء بيت المال من عمله وانقضاء مهمته، تُسلَّم الدفاتر إلى العرائف الذين استخلصهم العمّال لأنفسهم، فيخاطبون بما اشتملت عليه تلك الدفاتر؛ لأنّ ما سجله فيها هو القضاء المبرم الذي لا يجوز نقضه أبدًا ولا تخفيفه بحال من الأحوال.
السبب الثامن: المأمـور
هذا اللقب يُطلَق على محاسب وأعوان الموظفين الكبار أو أقاربهم، ومن يمت إليهم بصلة، أو يتكسب لهم، ولقبهم مؤقت وهو عند تقاضي الضرائب من الفلاحين، بدلًا عن العرائف.
السبب التاسع: البقية
هذه الكلمة تطلق على ما تدعي المالية بقاءه عند الفلاحين من الضرائب، ومعضلتها التي لم يُعرف لها حل ولا نهاية.
السبب العاشر: بقية الضرائب
المُخضر، والنحل، وزكاة الباطن، والمواشي، والفطرة، والتجارة
هذه بقية الضرائب، وهي تؤخذ باسم الزكاة، وتستوفى بواسطة المأمورين، أو العرائف، أو المالية رأسًا، والعسكر من وراء ذلك لهم دخل في كل شيء.
يختتم النعمان (الأنّة الأولى) مخاطبًا ولي العهد أحمد: "هذا قليلٌ من كثير، والمعوّل عليكم بإزالة هذه الأسباب التي شرحناها، وإذا عرفنا القضاء عليها رجعنا للعمل في بلادنا بجد ونشاط وهمة لا تعرف الملل".
عاش النعمان حياته مناضلًا لتخليص (الرعية) من جور (العسكري)، وكان ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢ يومًا بدأت فيه حركة التغيير الجذري التي لم تتمكن من استكمال دورتها الطبيعية؛ لأنّ التركيبة الاجتماعية، وإن تغيرت في ظاهرها، واجهت مقاومة مجتمعية مناطقية، كبحت من جماح انطلاقتها نحو فضاءات المدنية، وبقيت مكبلة بنفوذ حاملي السلاح التاريخيين.
حين تُوفي النعمان في ٢٧ سبتمبر ١٩٩٦، بعيدًا عن أهله ووطنه لم يكن يدرك أنّ ما بذل من أجله كلَّ حياته، سيواجه محاولات البعض إعادةَ عقارب الساعة إلى الوراء غير مدركين أن النجاح، وإن صادفهم، لن يطول وسيدفعون الثمن فادحًا ومعهم كل اليمنيين.
* عكاظ، ٢٩ أيلول/ سبتمبر ٢٠١٨.