أدرجت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم اليونسكو مدينة صنعاء القديمة في العام 1986، ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، بحسب معايير المنظمة الأممية، والتي منها أن يمثّل الموقع "تحفة عبقرية خلاقة من صُنع الإنسان". وقد تحولت المدينة في القرنين السابع والثامن الميلاديين إلى مركز مهم لنشر الإسلام، فحافظت على تراث ديني وسياسي يتجلى في 106 من المساجد.
ويعتبر مسجد النهرين من أقدم المساجد الأثرية في صنعاء القديمة، حيثُ يذكر مؤلف كتاب "مساجد صنعاء" الحاج محمد بن أحمد الحجري (1889-1962)، أنه "من المساجد العامرة غربي السائلة أسفل صنعاء"، وأنه "منسوب إلى الناحية التي عُمّر فيها، إذ هي مشهورة بهذا الاسم من صدور [صدر] الإسلام". ويضيف المؤلف: "كما حكى أهل التاريخ أنه وُجد قبر في النهرين أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه (روايات أخرى لم يتم التأكد من صحتها تقول إنه قبر سيف بن ذي يزن)، وقد زاد فيه وأصلحه [...] محمد بن علي، شريف من أشراف ذهبان [حي في منطقة جَدِر شمال صنعاء] في نحو نصف القرن الثالث عشر [الهجري]".
وكان يتم الدخول إلى المسجد من بابه الواقع في الواجهة الجنوبية ويفضي إلى الزاوية الجنوبية الغربية للبلاطة الشرقية، وكان يتكون من مساحة مستطيلة من الشرق إلى الغرب بطول (12.90 متر)، وعرض (6.65 متر) من الشمال إلى الجنوب.
ويرجّح الدكتور علي سعيد سيف، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة صنعاء، أن محراب مسجد النهرين كان يتوسط جدار القبلة، وأنه "لم يتبقَ من الجدار الشمالي الأصلي شيء"، حيث أزيل هذا الجدار عند توسعة المسجد من واجهته الشمالية.
تجديدات على مسجد النهرين
يوضح الدكتور سيف في حديثه لـ"خيوط"، أبرز التجديدات التي استحدثت في المسجد، حيث يبدأ من التجديد الأول الذي ذكره الحجري على يد "محمد بن علي، شريف من أشراف "ذَهبان"، لافتًا إلى أن هذا التجديد تمثّل في "بعض الإصلاحات في المسجد وزيادة مساحته". أما التجديد الثاني فكان عبارة عن توسيع وعمارة لـ"صَوْح" المسجد، على يد الحاج علي الوزان سنة 1311هـ/ 1893م، وهو ما يذكره الحجري ويضيف إليه سيف أن تلك التوسعة أجريت للصوح الجنوبي.
ويواصل أستاذ الآثار الإسلامية حديثه: "التجديد الثالث تم في سنة 1361هـ/ 1942م، حيث أُجريت إصلاحات على المسجد، بالإضافة إلى بناء "سبيل" (خزّان مياه عام) إلى الجنوب من المسجد على يسار الطريق المؤدي إلى قبة المتوكل على الله القاسم".
وكان التجديد الرابع "عبارة عن توسعة في مساحة المسجد، قام بـها عبدالله بن محمد الجوفي، في سنة 1389هـ/ 1969م، في الجهة الشمالية من المسجد الأصلي، ومساحة تلك التوسعة كانت أكبر من المسجد الأصلي". وفي سنة 1393هـ/ 1973م، قام محمد بن عبدالله بن محمد الجوفي، بتجديد خامس مماثل لسابقه، حيث أضيفت مساحة جديدة في الجهة الشرقية من المسجد الأصلي، ومساحة هذه التوسعة كانت أيضًا أكبر من مساحة المسجد الأصلي. ولاحقًا، قام المحسن نفسه- محمد بن عبدالله بن محمد الجوفي، وكان أحد تجّار صنعاء، بتجديد سادس تمثّل بإضافة منشأة جديدة إلى المسجد، وهي عبارة عن مسجد للنساء يقع أسفل الزاوية الشمالية الشرقية للمسجد الحالي.
التجديد السابع كان عبارة عن "ظلة"/ سقيفة من الخرسانة محمولة على دعامتين مربعتين لتغطية وتظليل المدخل الشرقي للمسجد، وكانت هذه الإضافة على نفقة العلّامة حمود بن عباس المؤيد، وقام بإنشاء المعمار الـحاج محسن الآنسي ما بين عامي (1975-1977م)، وتم جلب حجارة السقيفة من محاجر "ذهبان".
أما التجديد الثامن والأخير، فقد تم فيه هدم الملحقات الواقعة جنوب غرب المسجد- "المَطاهير" (أماكن الوضوء والاغتسال) ومنازل الطلبة، وأعيدت عمارتها من جديد بالأحجار والأسمنت، وهي عبارة عن حمامات سفلية يعلوها طابق ثاني، كما أصلحت مجاري المياه والحمامات التابعة للمسجد عام 2002.
محمد البكير، باحث في الآثار اليمنية القديمة، يقول لـ"خيوط"، إن مسجد النهرين "بحكم موقعه في صنعاء القديمة، فهو يعد مكتبة تاريخية"، لافتًا إلى أن "أهم المباني التاريخية في صنعاء، هي الجوامع التي تعاقب عليها الترميم والتوسعة"، وأن "كل فترة لها خصائص ومميزات بمثابة سجل تاريخي يستطيع الباحث من خلالها استنباط معلومات تاريخية مهمة".
روايات مختلفة لأسباب الهدم
قابلت "خيوط" عددًا من مسؤولي ومهندسي "الجهات المعنية" بهدم جامع النهرين.
نائب وزير الثقافة محمد حيدرة، قال إن هدم الجامع كان "نتيجة سوء التنسيق ما بين الهيئة العامة للأوقاف والهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية بشكل خاص، والهيئة العامة للآثار ووزارة الثقافة بشكل عام".
وفي حديث المهندس يحيى القحطاني، مدير عام المشاريع في هيئة الأوقاف حول قرار الهدم، قال إن الأمر بدأ بتكليف المهندس عبدالسلام المهدي من قبل مكتب الأمانة بالأوقاف، لترميم عدد من الجوامع داخل صنعاء القديمة، منها جامع قبة المهدي وجامع النهرين وجامع الجناح وجامع المذهب، إضافة إلى مباني الأوقاف بصنعاء القديمة التي تضررت من الأمطار في الصيف الماضي (2020)، مشيرًا إلى أنه "تم ترميم جامع النهرين من جميع الجهات".
ويروي القحطاني أنه "في أحد الأيام التي كان يخطب فيها المفتي شمس الدين شرف الدين في الجامع، وكان يومًا ممطرًا، نزل المطر من السقف، فقال المفتي: "كيف يحدث ترميم للجدار والسقف "بيشن"؟ (أي: يقطر منه ماء المطر)".
ياسين غالب: في 5 يناير 2021، مررنا بالصدفة من جوار جامع النهرين، فوجدنا عمالًا يقومون بإزالة سقف الجامع بالكامل، بدون الرجوع إلى الهيئة، وفي مخالفة للقانون
وحسب القحطاني، فقد تم بعد ذلك تكليف لجنة لمعاينة سقف الجامع، فظهر تضرره بشكل كامل، وإن ذلك استدعى إزالة السقف، من قبل مكتب الأمانة بالأوقاف، وليس عن طريق وزارة الأوقاف. تم هدم السقف ولم يبقَ إلا الخشب، لكن تبين أثناء الهدم أن السقف كان من الخرسانة "مسلّح"، وليس من مادة "القضاض". وحينها "خرجت لجنة من الأوقاف والآثار"، مهمتها الإشراف على جمع الأخشاب وإزالة السقف كاملًا، على أساس أن يتم إصلاحه.
عندما تم إصلاح السقف و"إزالة المسلحات"، والحديث لا يزال للقحطاني، تجمهر أهالي الحارة ليخبروا اللجنة المشتركة بأن اتجاه القبلة خطأ. يتابع: "لم نصدق في البداية، ثم تم تكليف مختص بتحديد القبلة، فوجدنا أنها منحرفة بشكل كبير (33.8) عن اتجاه الكعبة".
و"بما أن الجدار مخرَّب والسقف مخرَّب، إذًا لماذا لا يتم تصحيح القبلة؟"، قال المهندس القحطاني، لافتًا إلى أنه بعد أن لاقى هذا المقترح قبولًا، "تم تشكيل لجنة مع الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، واجتمعنا معهم، وخرجت اللجنة لمعاينة الموقع على مدى حوالي 10 أيام، للوصول إلى حلّ". نتيجة الأيام العشرة لمعاينة الموقع، أفرزت بدورها سؤال مشكلة جديدة: "كيف يتم تصحيح اتجاه القبلة في وجود العقود؟"، وبعد نقاش بين أعضاء اللجنة، توصلوا إلى أنه "لا يمكن تصحيح القبلة في الوضع السابق"، أي الوضع الذي كان قائمًا أثناء نقاش اللجنة. حينها، وبحسب القحطاني أيضًا، اتفق أعضاء اللجنة "بالإجماع" على أن يتم إعادة بناء الجامع بالكامل "بروح صنعاء القديمة"، ووقعوا محضرًا مكوّنًا من 12 بندًا.
بالمقابل، تحدث "لخيوط" المهندس ياسين غالب، عضو اللجنة المشتركة من جانب الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية. قال غالب: "في تاريخ 5/ 1 [يناير 2021]، مررنا بالصدفة من جوار جامع النهرين، فوجدنا أن هناك عمالًا يقومون بإزالة سقف الجامع بالكامل، بدون الرجوع إلى الهيئة، وفي مخالفة للقانون (16) لسنة 2013". في نفس اليوم رفع مهندسو الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية، تقريرًا إلى رئيسها، مع توصيات بإيقاف أعمال هدم السقف إلى أن يتم توثيق الجامع، واتخاذ الإجراءات التي ينص عليها قانون الحفاظ على المدن التاريخية، وتحويل الأمر للإدارة المختصة.
في 22 يناير/ كانون الثاني 2021، والحديث للمهندس غالب، انعقد اجتماع بين هيئة الأوقاف وهيئة الحفاظ على المدن التاريخية، التي طرح ممثلها في الاجتماع إعادة ترميم المسجد "وإصلاح ما يمكن إصلاحه". ويضيف غالب أنه لم يكن لدى الهيئة علم بأن الجامع "هُدم بأكمله" في 18 يناير نفسه، أي قبل أربعة أيام من الاجتماع، الذي اتفق المجتمعون في نهايته على إيقاف الهدم. ويتابع: "عملت الهيئة بنودًا مقيدة للأداء؛ أولها توثيق تفصيلي للجامع بكل مكوناته وحالاته وأضراره، بمادة رقم "5" في هذا الاتفاق، أي عدم الخراب".
في الاجتماع نفسه، اتفق المجتمعون على "رفع خراب السقف"، لكي يتمكن الموثقون من توثيق الجامع بطريقة سليمة. يضيف غالب: "إلا أن الأوقاف كانت قد هدمت الجامع فعليًّا، وذلك بتقرير المهندس صادق النجار والمهندس يحيى القحطاني والمهندس عبدالسلام المهدي"، مشيرًا إلى أن "الهيئة وقعت اتفاق 22/ 1، على أساس أن يتم تنفيذ مادة (5) من هذا الاتفاق، حيثُ كانت المادة مقابل ما جاءت به الأوقاف من فتوى بإزالة الجامع".
ويؤكد غالب أن وضع المادة (5) في الاتفاق، هو لتوثيق "كل كبيرة وصغيرة للمسجد بالتفاصيل والمكونات، بما في ذلك المدرسة والإضافات غير السليمة والمنافية لطابع المدينة، والخزان الأرضي"، وأن الهدف من ذلك كان جمع المعلومات الكافية لاتخاذ قرار رفع بنية الجامع بأعمدتها وعقودها؛ "هل يمكن لو أزحنا القبلة والمبنى لا يزال قائمًا بالمخططات وهل يمكن أن نبقي على أكبر قدر ممكن من بنية الجامع، بحيث يتمكن الناس من الصلاة فيه؟ لكنهم لم يتيحوا لنا فرصة لإيجاد حلول".
مجاهد طامش، القائم بأعمال رئيس الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، قال لـ"خيوط"، إن الهيئة تدخلت بإيقاف العمل في حينه، أي "عندما تمت إزالة السقف وبعض أجزاء المسجد". ويضيف: "تم التواصل مع نائب وزير الأوقاف ومع مدير عام مكتب الأوقاف- الأمانة، وتم تشكيل لجنة مشتركة، ولكن نتيجة بعض اللغط، حصل ما حصل، حتى تم عمل محضر نهائي بالوضع الراهن". "الهيئة لم توقع على الإزالة إلا بعد أن أزيل [الجامع] بنسبة 80%، كأمر واقع". يقول طامش الذي يصف عملية هدم جامع النهرين بالجريمة، ويؤكد أن الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية "ليست مشاركة فيها".
بعد رسالة رفعها قيّم الجامع إلى هيئة الأوقاف لصيانة الجامع، أبدى "فاعل خير" استعداده للتكفل بنفقات الصيانة مع توسعة، وبعد إجراء الصيانة طالب الخطيب بصيانة السقف، ثم تحولت عملية الترميم إلى هدم
بداية القصة
منصة "خيوط" نزلت إلى موقع جامع النهرين لتوثيق حالة الجامع بعد الهدم، والتقت "سنيدار" جامع النهرين (القائم على شؤون الجامع) صالح شمخ. يروي شمخ قصة هدم الجامع من البداية، أي منذ وجّه رسالة إلى هيئة الأوقاف "من أجل صيانة الجامع"، ثم نزلت لجنة من الأوقاف وقامت بأعمال الترميم، ثم "جاءت مرة أخرى من أجل ترميم بقعة من السقف، وتم هدم السقف من أجل ترميمه، ثم بعد أيام قالت الأوقاف إن هناك قرارًا بتصحيح القبلة".
وبحسب شمخ، "جاء "فاعل خير" في مبادرة لتوسعة الجامع، ثم تكفلت هيئة الأوقاف بأعمال الصيانة والترميم في الجامع". ويشير إلى مبادرة مماثلة كانت مقترحة في زمن العلّامة حمود المؤيد، بـ"توسعة الجامع إلى البستان، لكن لم يوافق أهل الجامع"، وأنهم الآن "يريدون أن يعيدوا التخطيط الأول، وقد تم توقيف العمل من قبل الهيئة".
ردًّا على مبادرة فاعل الخير، قال القحطاني: "لا أعرف من يكون، ولكن قالوا إن هناك فاعل خير، وكان الوضع لدي أنها وزارة الأوقاف نتيجة للانحراف [في القبلة]، ولكن اتضح لنا أن هناك فاعل خير، ولكن إلى الآن لم نعرف من هو فاعل الخير".
وأَضاف القحطاني أن الهدم "لم يتم على أساس وجود فاعل خير" يتكفل بالتوسعة، و"إنما نتيجة انحراف في القبلة"، لافتًا إلى أن الجامع كان "فيه شقوق من الجهة الغربية من فوق إلى تحت في البناء.
ويقول مجاهد طامش: "سواء كان فاعل خير أو جهة رسمية، لا بد أن يتم التنسيق مع جهات الاختصاص، ويعتبر أي تدخل من قبل فاعل خير أو غيره، مرفوض حتى يتم التنسيق مع الجهات المختصة، وهي هيئة المدن التاريخية وهيئة الآثار".
فتوى الهدم
استند اتفاق هدم مسجد النهرين، الموقع من قبل وزارة الأوقاف والهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، إلى فتوى من المفتي شمس الدين شرف الدين. عن صحة تلك الفتوى، يقول المهندس القحطاني: "أولًا كلمة الفتوى وما فتوى، هي جاءت لأن الناس كانوا يريدون منا فتوى بالهدم، وحين طلبنا الفتوى كانت موجودة ومكتوبة". ويشير إلى أن طلب الفتوى كان انطلاقًا فقط من "عملية تصحيح القبلة؛ ولأن الانحراف كبير". يضيف القحطاني أن هناك من قال إن "عالمًا كبيرًا أفتى بأن الصلاة لا تصح فيه؛ لأنه هو نفسه كان إمام جامه النهرين. الإمام كان يصلي وينحرف ظنًّا منه أنه انحراف بسيط، لكن عندما تم عرض الإسقاط الجديد عليه، فوجئ مع المواطنين، وبما أن القبلة منحرفة بهذا الشكل، سيتم تصحيحها والإمام مقتنع أنه يجب تصححيها".
من جانبه تحدث طامش أن مفتي الديار يهمه الهدف الأساسي؛ إصلاح خلل كان موجودًا في الجامع وهو انحراف القبلة، فالفتوى جاءت من مصدر ديني وليس له أبعاد أخرى"- بحسب تعبيره.
وقال مطهر تقي، رئيس الائتلاف الوطني لمنظمات المجتمع المدني، إنه "لا يحق لأحد أن يفتي بخراب جامع أثري"، ويؤكد: "نريد هذه الفتوى مكتوبة يناقشها العلماء، إذا كانت فعلًا فتوى مكتوبة يناقشها العلماء ويحددوا موقفهم من هذه الفتوى".
الباحث محمد البكير: خلال تجربتنا العلمية في ترميم الجامع الكبير بصنعاء، تم ملاحظة نفس المشكلة، وكان تعديل سجاد الجامع بزاوية معينة توافق القبلة
سبب غير مقنع
وفي حديثه "لخيوط"، قال تقي إن "مبدأ مسّ أي مبنى في صنعاء القديمة، سواء كان جامعًا أو بيتًا أو أي مرفق آخر، وخصوصًا المساجد، يعتبر جريمة في حق مدينة تاريخية هي ضمن مدن التراث الإنساني". "أي مبنى تم بناؤه أو ترميمه قبل عام 1986، أي قبل إعلان صنعاء القديمة ضمن قائمة التراث الإنساني، يجب أن يخضع لقانون هيئة الحفاظ على المدن التاريخية لعام 2013". أضاف.
ويرد تقي على من يُرجع هدم جامع النهرين إلى انحراف القبلة، بحسب إسقاط محرك البحث "جوجل"، بأن ذلك "كلام غير منطقي". ويستدل بـ"توجيه الرسول [محمد] عليه الصلاة والسلام، وحديثه لوبر بن يحنس الأنصاري في السنة السادسة للهجرة، حين أمره وهو يبني الجامع الكبير بصنعاء، أن يوجه قبلة الجامع الكبير نحو "جبل ضين". "هذا الحديث أقوى من أي قوقل وأي مُفتٍ وأي رجل." يضيف تقي، مؤكدًا أن "مساجد صنعاء جميعها بنيت قبلتها نحو جبل "ضين"، وأن جامع النهرين "يُعتبر من قرابة 10 مساجد بنيت في النصف الأول من القرن الأول للهجرة، وبالتالي فإن هذا الأثر عظيم، ولا يحق لأحد أن يهدمه".
ويقع جبل ضين في محافظة عمران ويبلغ ارتفاعه أكثر من 3000 متر.
ويشير تقي إلى أن "أي عذر آخر يعتبر "عذر أقبح من فعل"، وأنه "حتى إذا قيل إن هناك محاولة لمنع أحد العلماء الزيديين من أن يخطب، حتى إذا صح هذا العذر، فلا يحق لأحد أن يمس الجامع بأي صورة من الصور".
وعلى صعيد متصل، كان مندوب اليمن لدى اليونيسكو، محمد جميح، وصف في مقال له هدم مسجد النهرين "بأنها جريمة قد تؤثر على وضع صنعاء القديمة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وهي موضوعة أصلًا ضمن قائمة التراث العالمي المعرض للخطر".
حلول كانت متاحة لتفادي الهدم
ضمن الأسئلة التي وجّهتها "خيوط" للمختصين والمهتمين، كان السؤال التالي: هل كان يمكن تصحيح القبلة بدون هدم الجامع، وهل يمكن تدارك ضرر الهدم؟
أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة صنعاء علي سعيد سيف، قال إنه "لا يمكن أن يكون هناك إجراءات لتدارك المسجد بسبب أن الهدم كان متعمدًا بشكل كبير، ويوحي بأن الغرض ليس تعديل اتجاه القبلة، بل هدم المسجد بكامله". ذلك أنه "كان من الممكن أن يعدل ويصحح اتجاه القبلة بتعديل جزء بسيط في جدار القبلة حتى يتسنى تصحيحها".
أما الباحث في الآثار اليمنية القديمة، محمد البكير، فيرى أنه "كان هناك حلول" بالفعل لتصحيح اتجاه القبلة بدون هدم. ويؤكد: "خلال تجربتنا العلمية في ترميم الجامع الكبير بصنعاء، تم ملاحظة نفس المشكلة، وكان تعديل سجاد الجامع بزاوية معينة توافق القبلة".
ويشير البكير إلى أنه "في حال لم تكن زاوية ميلان سجاد الجامع موافقة وكبيرة، فالحل الآخر كان عملية تفكيك الجامع بالطريقة العلمية". هذه الطريقة -بحسب البكير- تبدأ "بتوثيق الجامع بالتصوير وبالرسم الهندسي، ووضع دراسة علمية تحدد البداية الأولى لعملية التفكيك". ويورد الباحث مثالًا على هذا التفكيك العلمي: "بالنسبة للسقف، يتم تسجيل القطع المنتزعة وتوثق وتوضع في أماكن خاصة، بعد ذلك يتم تفكيك جدران الجامع وتعدل وتبقى بوائك الأعمدة كما هي. بعد ذلك يتم تفكيك كل بائكة على حدة، ويتم تعديلها وفق الزاوية المطلوبة، ثم إعادة السقف مع فحص القطع التالفة وتغييرها بنفس النمط القديم".
حضرت "خيوط" اجتماعات مهندسي الهيئة العامة للآثار والهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية خلال أسبوع، وغابت الهيئة العامة للأوقاف عن أربعة منها
في مسألة هدم الجامع بدون التوثيق العلمي الذي يشدد عليه المختصان في الآثار الإسلامية والقديمة: سيف والبكيري، لدى المهندس يحيى القحطاني رأي مغاير. إذ يقول إن عقود جدار القبلة "كلها جديدة، بنيت في سنة 1976"، وأنه "عندما يتم ترقميها، فنحن نرقم حجر حبش. هو عقد! نقوم بإعادته كما هو". ويشير القحطاني إلى أن عمليات الترميم وتصحيح القبلة في الجامع الكبير تختلف عن جامع النهرين، وبالمثل في مساجد أخرى. يقول: في جامع العيني أو الجامع الكبير أو في الأشرفية، حتى النقشة الخاصة بالسقف محددة، والآيات لا بد من ترقيمها. أما هذا، هو مجرد حجر حبش وحجر بيضاء، أهم شيء نعمل عقد، ليس بالأمر الصعب، أو شيء له 200 أو 400 سنة، هو شيء لا يتجاوز عمره 30-40 سنة".
إجراءات ما بعد الهدم
يُرجع مجاهد طامش، القائم بأعمال رئيس الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، هدم جامع النهرين، إلى ما اعتبره خطأ من قبل هيئة الأوقاف وهيئة المدن التاريخية في التنسيق مع المختصين. لكنه يؤكد أن هذا الخطأ أو "اللغط" بحسب تسميته، "تم تجاوزه في الاجتماع الموسع الذي عقد في 14/ 2، حيثُ تم تشكيل لجنة مشتركة للقيام بدراسة أبعاد هذا الموضوع وحل المشكلة بشكل كامل".
في 14 فبراير/ شباط 2021، انعقد في وزارة الثقافة، اجتماع موسع بين "الجهات المعنية" في سلطة صنعاء، لمناقشة موضوع هدم مسجد النهرين. حضر الاجتماع وزير الثقافة عبدالله أحمد الكبسي، ورئيس الهيئة العامة للأوقاف عبدالمجيد الحوثي والقائم بأعمال رئيس الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، مجاهد طامش، ورئيس الهيئة العامة للآثار عبدالله ثابت.
وبحسب نائب وزير الثقافة محمد حيدرة، فقد تم الاتفاق على تشكيل مكتب فني هندسي مشترك تُمثّل فيه الهيئات الثلاث بمهندسين اثنين لكلٍّ منها.
كانت مهمة هذا المكتب بحسب حيدرة أيضًا، أن يقوم "بسرعة رفع مخطط لإعادة بناء المسجد كما كان وبنفس المواد، وإعادته إلى هيئته مع مراعاة الإشكاليات التي حدثت له من قبل، مثل تسريب السقف، والانحراف في القبلة، على أن يتم الإعداد للمخطط والدراسة في غضون أسبوع من تاريخ الاجتماع".
خلال ذلك الأسبوع، نزلت "خيوط" إلى موقع جامع النهرين للتحقق مما إذا كان أعضاء المكتب الفني الهندسي المشترك، باشروا عملهم بالنزول الميداني إلى الجامع. وحضرت معدة التحقيق اجتماعات مهندسي الهيئة العامة للآثار والهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية خلال تلك الفترة، وهي الاجتماعات التي غابت الهيئة العامة للأوقاف عن أربعة منها. لم يتم رفع المخطط خلال الأسبوع المحدد، وبحسب المهندسين، فلم يتم تكليفهم رسميًّا بذلك.
وفي ختام حديثه لـ"خيوط"، قال حيدرة بأن ما حدث لجامع النهرين "لن يتكرر في المستقبل"، لأنه تم إصدار تعميم من الهيئة العامة للأوقاف بعد الاجتماع الموسع، بـ"عدم عمل أي استحداثات في أي جامع أثري تحت أي مبرر كان". وهو إذ يتحدث عن "خطورة" الهدم "على تراثنا الحضاري، وقيمنا الإنسانية"، يقول إن "مشكلة" جامع النهرين، "أتت لتنبه من خطورة كانت موجودة ولن تتم بعد هذا التاريخ".
أهالي حارة النهرين
التقت "خيوط" بعدد من أهالي حارة النهرين. قال محمد الزبيدي: "خراب ودمار الجامع لم يكن له داعٍ؛ لأن الجامع كان يحتاج إلى ترميم بسيط في مكان محدد من البنية، أما الآن فقد حرمونا من سماع الأذان والصلاة".
ويضيف الزبيدي: "القبلة منحرفة من زمان، وكان الإمام حمود المؤيد يوجهنا أن ننحرف مقدار أربع بنان ونصلي بعده على القبلة".
الكثير من الأهالي مستاؤون من هدم الجامع. تقول الحجّة خيرية صالح لـ"خيوط: "قالوا القبلة عوجاء! كيف القبلة عوجاء هذا العمر كله وعاد حمود المؤيد، ومحمد عامر، والعلماء القدماء؟ ذلحين وقعت عوجاء! والدهر كله بيصلوا العالم في جامع النهرين، هو باب الجنة جامع النهرين وجنة الدنيا".
في التاسع من أبريل/نيسان الجاري تم تغيير المهندس يحيى القحطاني من الإدارة العامة للمشاريع بالأوقاف وهو ومجموعة من مدراء العموم في هيئة الأوقاف، كما لم يتم العمل على الجامع إلى اليوم من قبل هيئة الآثار الجهة المختصة بهذا الأمر بحسب قيم جامع النهرين، إذ كان أحد رجال الأعمال في صنعاء قد تكفل بإعادة بناء الجامع.
تحرير "خيوط"