متحف المكلا.. ذاكرة منسية لحضرموت

سنوات من الإهمال والنهب، ومحاولات إنعاش في زمن الحرب
سمية أحمد
August 18, 2020

متحف المكلا.. ذاكرة منسية لحضرموت

سنوات من الإهمال والنهب، ومحاولات إنعاش في زمن الحرب
سمية أحمد
August 18, 2020
تصوير: رشيد بن شبراق

عند أول خطوة تخطوها داخل حديقة قصر القعيطي سابقًا -متحف المكلا حاليًّا- تجد نفسك قد أصبحت في رحاب التاريخ، بطرازه المعماري الفريد والمهيب، الذي يحكي هيبة الدولة التي كانت تحكم المدينة يومًا؛ تفاصيل القصر القديم  شاهدة على محطات تاريخية فاصلة في تاريخ حضرموت والمنطقة بشكل عام. فبلاط الممر الأزرق الذي لا يزال إلى اليوم في حالة سليمة، خطا عليه رؤساء دول وحكومات ووزراء، وشرفة القصر الزرقاء المطلة على المدينة، شهدت أول خطاب شعبي لقحطان الشعبي، أول رئيس لجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية بعد استقلال الجنوب عام 1967. (1)

على المدخل الرئيسي للمدينة، يقف متحف المكلا كحارس قديم وحافظ أمين لتاريخها؛ التاريخ الذي تعرض، على مدى سنوات، لعمليات تخريب ونهب وسرقة، حتى أصبحت مهمة استعادته أو الحفاظ على بقاياه، أمرًا في منتهى الصعوبة. 

تاريخ القصر

متحف المكلا هو أحد القصور الباقية من حقبة السلطنة القعيطية التي حكمت أجزاء واسعة من حضرموت، وقد تأسست في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، على يد الأسرة القعيطية، التي هاجرت إلى الهند "حيدر أباد"، وترجع جذورها إلى منطقة يافع، حيث كانت من أكثر دول الجزيرة العربية تطورًا في ذلك الزمن من حيث التنظيم وتسيير الدولة، في الوقت الذي كانت تعيش فيه معظم مناطق الجزيرة في فوضى جراء تفكك الامبراطورية العثمانية. (2)

يجهل القائمون على القصر حاليًّا طريقة الاستخدام الأصلي للغرف، لضياع معالمها وزخارفها وألوانها الأساسية بسبب ما شهدته من استحداثات داخلها

تم بناء القصر كمقر للحكم عام 1925، في عهد السلطان عمر بن عوض القعيطي، ثالث سلاطين الدولة، وسمي بقصر "المعين"، الذي تميز بطابع بناء مستوحى من العمارة الهندية على غرار قصوره وحصونه في منطقة "حيدر أباد" في الهند، حيث تذكر الأبحاث أنه تم بناؤه بالكامل من قبل مهندسين وعمال هنود، وجُلبت مواد البناء من الهند بمشاركة بعض الأيدي العاملة الحضرمية. ثم في الأربعينيات من القرن الماضي، تم بناء الجزء الغربي من القصر، ليكون سكنًا للعائلة وأماكن للخدم وطبخ الطعام، والذي بُني بطابع حضرمي عربي يختلف عن الجزء الشرقي له. (3)

ظل القصر شاهدًا على فترات حكم السلاطين حتى قامت ثورة الرابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1963، التي أطاحت بالاستعمار البريطاني، والنظام السلطاني في الجنوب، وبعد الاستقلال وقيام النظام الجمهوري، تم تغيير اسم القصر إلى "قصر 14 أكتوبر"، واستخدِمت معظم مرافقه كدوائر حكومية.

يقول رياض باكرموم" مدير عام الهيئة العامة للآثار والمتاحف بساحل حضرموت في حديث لـ"خيوط " إن الفترة التي بقي فيها القصر تحت حكم الجبهة القومية، التي حكمت الجنوب بعد جلاء الاستعمار في 30 نوفمبر/ تشرين ثاني 1967، فُقِدت الكثير من معالم المكان، وتم استخدامه كمكاتب ومرافق حكومية، حتى إن القاعة الحمراء البديعة استخدمت كمحكمة، وصُدر فيها أحكام الإعدام".

وأضاف أن إدارة القصر تعاني حاليًّا من مشكلة كبيرة في عدم معرفة الاستخدام الأصلي للغرف، لضياع معالمها وزخارفها وألوانها الأساسية؛ بسبب ما شهدته من استحداثات داخلها، مشيرًا إلى أن "محاولة الترميم الأخيرة - التي قامت بها الهيئة- أعادت روح المكان الأولى، بالرغم من نقص كثير من المعلومات لمعرفة الاستخدام الأصلي لمرافق القصر".

متحف المكلا -حضرموت، ت: رشيد بن شبراق

بداية المتحف

غرفة صغيرة في مبنى إدارة المديرية كانت النواة الأولى لمتحف المكلا، الذي قام بإنشائها الدبلوماسي وعالم الآثار محمد عبدالقادر بافقيه، حين كان "ناظرًا للمعارف" في فترة حكم السلطنة القعيطية عام 1964، حيث كانت تحتوي على آثار وقطع تاريخية قام بافقيه بجمعها بشكل شخصي من جولاته في الجزيرة العربية. (4)

خلال فترة السبعينيات، وبعد قيام ثورة أكتوبر، تم نقل المتحف إلى قصر القعيطي (القسم الشرقي منه)، وقام بافقيه، بتقسيمه إلى عدة أقسام تاريخية، كل قسم يحتوي على قطع أثرية خاصة بتلك الفترة.

تتضمن عصور ما قبل التاريخ/ العصر البرونزي/ فترة مملكة حضرموت، والجناح السلطاني الذي يضم مخطوطات قيّمة وتحفًا ثمينة وهدايا نفيسة جمعها السلطان من مختلف أنحاء العالم، وينقسم الجناح إلى ثلاث قاعات: (القاعة الحمراء، قاعة العرش، وقاعة الصور)، مع الإبقاء على الدوائر الحكومية في الجناح الغربي للقصر.

القاعة الحمراء قبل الترميم - ت: رشيد بن شبراق

في الوقت الراهن

في مبنى قارب عمرُه قرنًا من الزمان، محاطًا بحديقة واسعة وإطلالة جذابة على البحر، يقع متحف المكلا حاليًّا، حيث ينقسم المبنى إلى قسمين؛ الجزء الغربي الذي أغلق بسبب سوء حالته ومبانيه الآيلة للانهيار بأي لحظة، والجزء الشرقي الذي يحتوي على المتحف ومكتب الهيئة العامة للآثار والمتاحف.

حسب باكرموم، فقد تم بعد الوحدة اليمنية عام 1990، إدخال المتحف ضمن الهيئة اليمنية للآثار والمتاحف، حيث شهدت فترة أواخر التسعينات وأوائل الألفية الثانية، انتعاشًا كبيرًا للسياحة، وكانت أفواج كثيرة من السياح والسكان المحليين تقوم بزيارة المتحف؛ إذ بلغ معدل زيارات المتحف (18) ألف زيارة خلال عام 2006، وهو عدد كبير مقارنة بإمكانيات المتحف حينها.

واحتوى المتحف على كثير من القطع الأثرية والنقوش والعملات القديمة التي عُثر عليها في مناطق مختلفة من محافظة حضرموت، والتي تعود إلى حقب تاريخية مختلفة، إضافة إلى مقتنيات القصر الأثرية، من كرسي العرش والمنسوجات وملابس السلطان وسيوفه، والكثير من المخطوطات والتحف والهدايا النفيسة، وغيرها من القطع الأثرية ذات القيمة التاريخية الكبيرة.

على الرغم من كونه المتحف الوطني الوحيد في ساحل حضرموت، والمكان الذي يستطيع من خلاله سكان المدينة التعرف على تاريخهم وثقافتهم، إلا أنه عانى كثيرًا من الإهمال والعبث والتخريب، وحتى السرقات التي تمت بعضها بأيدي أهالي المدينة أنفسهم

وعن تقسيمات القصر الداخلية أوضح باكرموم أن الجانب الشرقي للقصر يتكون من ثلاثة طوابق، تبدأ بالطابق الأرضي ويضم مخازن الهيئة ومقتنيات البعثات الأجنبية، التي عملت في حضرموت خلال سنوات متفرقة. وهناك الطابق الأول، الذي يضم القاعات القديمة (عصور ما قبل التاريخ/ برونزية/ قاعات مملكة حضرموت)، إضافة إلى استحداث قاعتين جديدتين، تحتويان على آثار خاصة بالعادات والتقاليد الحضرمية، تم إنشاؤها خلال عملية الترميم الأخيرة. إضافة إلى الطابق الثاني الذي يضم ثلاث قاعات أساسية، هي: "صالة العرش"، وتحتوي على العرش، وكانت خاصة باستقبال الوفود الرسمية، و"القاعة الحمراء"، المميزة بلونها الأحمر، وهي التي كان يجتمع فيها السلطان بمستشاريه وأعوانه للبتّ في شؤون الدولة، وقاعة الصور، وتحتوي على صور متعددة للسلاطين، وملامح من الحياة في فترة السلطنة، أما قديماً، فكانت قاعة للطعام. إضافة لذلك، تم استحداث قاعات جديدة في سطح القصر تطل على المدينة، وهي مخصصة لاستضافة الفعاليات والأنشطة الثقافية، تم تسميتها باسم المؤرخ محمد عبدالقادر بافقيه، تكريمًا لدوره الكبير في حفظ التراث وتأسيس المتحف.

مسبح القصر

ضياع الذاكرة والتاريخ 

على الرغم من كونه المتحف الوطني الوحيد في ساحل حضرموت، والمكان الذي يستطيع من خلاله سكان المدينة التعرف على تاريخهم وثقافتهم، إلا أنه عانى كثيرًا من الإهمال والعبث والتخريب، وحتى السرقات التي تمت بعضها بأيدي أهالي المدينة أنفسهم.

فالظروف السياسية والصراعات التي مرت بها المنطقة، جعلت من المتحف مكانًا مستباحًا ومفتوحًا للسرقة والنهب؛ حيث إنه سرعان ما يتم استهدافه عند حدوث أي اختلال أمني، وتتعرض مقتنياته للنهب والسرقة.

في العام 1967، إبان الثورة على السلطنة القعيطية، تمت سرقة ونهب الكثير من مقتنيات القصر، وخلال حرب صيف 1994، تعرض المتحف لأبشع سرقة طالت مقتنياته، وفُقِدت الكثير من السيوف السلطانية والخناجر والأدوات المعدنية. أيضًا في عام 2013، فترة احتجاجات الحراك الجنوبي، تمت سرقة المقتنيات النحاسية، وكسر العرش السلطاني ونهبت بطانته الفضية، وآخرها كان في عام 2015، أثناء سيطرة عناصر تنظيم القاعدة على مدينة المكلا؛ حيث تعرض المتحف للسطو وتُرِك مفتوحًا عدة أيام للسرقة. (5)

يقول مدير عام الهيئة العامة للآثار والمتاحف بساحل حضرموت: "عندما قمنا باستلام المكان عام 2017، كان الوضع سيئًا جدًّا؛ المتحف غير موجود تمامًا على الخريطة، حيث ظل مهملًا ومعرضًا للسرقة والنهب طوال العشر سنوات السابقة (2008-2018).

وأطلقت الهيئة العامة للآثار والمتاحف، بساحل حضرموت، نداءً لمن يمتلك أي قطعة أثرية وصلت إليه بأي طريقة، بضرورة إرجاعها إلى المتحف، وفي أول استجابة لنداء الهيئة سلّم مواطنٌ من أهالي المدينة مقتنيات سلطانية، كانت قد فقدت في إحدى عمليات السرقة، بينها سيف وخنجر وتحف أخرى.

من جانبه يؤكد الأكاديمي والكاتب الدكتور سعيد الجريري في حديث لـ"خيوط"، أن سرقة أي قطعة أثرية تعني سرقة جزء من التاريخ والذاكرة. ويضيف: "لعل من يقومون بأعمال كهذه لا يدركون خطورة ذلك؛ ربما يظنون أن السرقة ستجلب لهم قيمة مالية، وقد تجلب لهم، لكن سرقتهم هذه أشنع؛ لأنها تعتدي على حق عام، وتمحو شيئًا من الذاكرة".

وينوه بأن هناك ظروفًا حدثت فيها مثل هذه السرقات؛ وأنه لذلك "ينبغي الإدراك أن في إعادة المنهوبات تكفير عن خطيئة حدثت في ظروف معينة". ويأمل الجريري، أن "يتعزز الوعي بأهمية التاريخ والذاكرة والآثار فهي جزء أصيل، يوصل الحاضر والمستقبل بالماضي، بكل ما فيه".

صالات العرض الجديدة مع بعض القطع الاثرية

محاولات الاستعادة والنهوض 

يشهد المتحف حاليًّا أولى عمليات ترميم في تاريخه، في خطوة لإعادة افتتاحه أمام الزوار مرة أخرى، كما شهد في السنتين الأخيرتين نشاطًا غير مسبوق، وغدت ساحته الواسعة مسرحًا لمعارض الصور وإقامة الفعاليات الثقافية والفنية، كل هذا بغرض إعادة نشر ثقافة المتحف بين سكان المدينة، وربطهم بتاريخهم العريق الذي لا يعرفون عنه الكثير. 

في هذا الشأن، يشدد باكرموم على أهمية ربط المجتمع بالمتحف، حيث أن الأخير لديه ر"سالة مجتمعية هادفة"؛ وقال إن "الخطوات الهادفة لاستضافة الفعاليات لفتت انتباه الناس للقصر الذي كان حينها معرضًا للانهيار".

من الأنشطة والفعاليات المجتمعية والفنية التي أقيمت في ساحة القصر وداخله، مهرجانُ "المرأة للسلام" ومعرض "السلام الكاريكاتيري".

وبخصوص مشاريع التأهيل والتطوير للمتحف يشير باكرموم، إلى دور الهيئة العامة للآثار والمتاحف، وجعل "قصر السلطان" أولوية لمشاريع التأهيل، من خلال تنفيذ عدة مشاريع لإعادة ترميم المتحف وتأهيل صالات العرض وإنشاء مخزن لحفظ القطع الأثرية.

 ويضيف أنه "تم تنفيذ مشروع ترميم الجناح الشرقي بإطار عصري مستوحى من طراز وزخارف القصر القديمة بتكلفة 41 مليون ريال، بتمويل من السلطة المحلية بمحافظة حضرموت، إضافة إلى مشروع تأهيل الصالات لعرض القطع والآثار، وعددها ثماني صالات، واستحداث صالة عرض جديدة بمبلغ قدره (21,960,00) ريال يمني، إذ تستعد الهيئة لإعادة افتتاح المتحف أمام الزوار بعد انقضاء أزمة وباء كورونا.

-------

(1)       المختصر في تاريخ حضرموت العام، لمحمد عبدالقادر بامطرف.

(2) الموسوعة العلمية الشاملة؛ شعوب وأعراق، أنظمة وقوانين. 

(3) المختصر في تاريخ حضرموت العام، لمحمد عبدالقادر بامطرف.

(4) مقابلة مع محمد عبدالقادر بافقيه، في مجلة العربي عام 1965، العدد37. 

(5) تقرير صادر عن مشاريع الهيئة العامة للآثار والمتاحف، حضرموت-المكلا.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English