يعمل أحمد أحمد الصبري، في نهاية العقد السادس من عمره، منذ نحو 45 عامًا في قرع الطبول في الأعراس ومناسبات الأعياد، ولم يعرف عملًا غيره طوال هذه سنوات.
يعاني أحمد، وهو مهمش من سكان إحدى مناطق مديرية المسراخ (جنوب تعز)، وفق حديثه لـ"خيوط"، من ضغوط نفسية شديدة، من جراء عمله "مفرح" كما يطلق عليه في هذه المناطق اليمنية، في الأعراس والأعياد، حيث تكثر عادة مثل هذه المناسبات والأفراح، مقابل حصوله على الفتات، وغالبًا لا تتعدى هذه الفتات إطعامَه خلال ساعات عمله، حيث يعيش مشرّدًا هو وأطفاله بدون بيت أو مأوى.
يضيف: "يمر علينا العيد ولا نعرف كيف مضى، لم نرتَح مثل بقية الناس، همّ وتفكير في سبيل الحصول على لقمة العيش لكي نبقى أحياء".
يعمل نسبة كبيرة من المهمشين في اليمن، في مهنة قرع الطبول "مفرحين" في الأعراس والأعياد، وبنسبة تقدر بنحو 20% من إجمالي عددهم الذي يزيد على ثلاثة ملايين نسمة، وفق إحصائيات الأمم المتحدة. وخلال الثلاثة العقود الأخيرة، أصبحت مواسم الأعياد توقيتًا مناسبًا للأعراس عند الغالبية في المجتمع اليمني؛ الأمر الذي جعل العاملين في إحياء الأعراس في دق الطبول والرقص والاشتراك في الإعداد والتجهيز لهذه المناسبات، الأكثرَ حرمانًا من الاستمتاع بالعيد ومعايشة أفراحه ومناسباته؛ بسبب الانشغال بالعمل، والبحث عن لقمة العيش.
أما بقية المكونات الأخرى، مثل عمّال النظافة والصرف الصحي وحياكة الأحذية الجلدية، فلم تختلف أحوالهم عن العاملين في الأفراح طوال أيام الأعياد .
يعيش الأطفال المهمّشون حالةً من الحزن طيلة أيام العيد، خاصة الأيتام منهم، في ظل غيابٍ تامّ لدور الجمعيات الخيرية وفاعلي الخير، حيث يتم توزيع كسوة العيد للأطفال في معظم الأحياء في مدينة تعز، ما عدا تجمعات "السود" المهمشين؛ لم يلتفت إليهم أحد.
تقول المسؤولة في منظمة "حياتنا للتعايش"- عضو قيادة الاتحاد الوطني للفئات الأشدّ فقرًا في مديرية الشمايتين بمحافظة تعز، ريمان حميد علي، لـ"خيوط"، إنّ "ذوي البشرة السمراء"، رجالًا ونساء، ينهضون في الصباح الباكر يوم العيد لحمل الطبول والدفوف في مناطق ريف تعز، والذهاب إلى المنازل والقرى لأخذ المعاودة (العوادة) من "ذوي البشرة البيضاء"، وهي عبارة عن حبوب من الذرة أو قليل من الطحين، وبعضهم يدفعون لهم قليلًا من المال قبل أن يعودوا في الظهيرة إلى منازلهم.
لم تقتصر هذه المهنة على الرجال فقط، بل أيضًا شملت النساء في بعض القرى، إذ تذهب النساء "سمراوات" البشرة إلى المنازل المجاورة لأخذ "المعاودة" (مبلغ ضئيل قد يكون رمزيًّا من المال أو طعام وملابس مستعملة) والعودة إلى منازلهن الصغيرة بهدايا رمزية أو ملابس أو قليل من المال أو كعك العيد، أو قليل من اللحم؛ كلٌّ بحسب ما يحصلن عليه من أنواع "الصدقات".
طفولة حبيسة في المنازل
بينما حال الأطفال أكثر مأساويةً في العيد، إذ يقول الطفل يونس أحمد سالم (13 عامًا)، من منطقة "شرجب" جنوب تعز، والدموع تتساقط من عينيه، إنه لم يأتِ عليه عيدٌ لبس فيه ملابس جديدة كغيره من الأطفال، حيث يشعر بالحزن عندما يخرج يوم العيد لمشاهدتهم وهم سعيدون ويمرحون في العيد بملابس جديدة، بينما هو لا يستطيع مشاركتهم هذه الفرحة بالعيد، لأنه كما يقول لـ"خيوط"، وهو يأخذ نفسًا عميقًا، وكادت الدموع تسقط من عينه: "لم أستطع أن أذهب لكي ألعب مع أصحابي البيض؛ لأني ما فيش معي بدلة مليحة (كسوة جديدة) مثلهم"؛ لذا يضطر للبقاء في المنزل مع أخته حتى ينتهي يوم العيد.
بحسب مسك المقرمي، مديرية منتزه تعز السياحي بمدينة تعز، تحدثت لـ"خيوط"، فإنها من خلال عملها في المجال الخيري والمنظمات وإدارة جمعية "كفاية" النسوية، التي تشمل أعمالها توفير كسوة العيد للأطفال، ذكورًا وإناثًا، من الفئات المهمشة- لم تستطع الحصول على دعم لمشروع كسوة العيد للأطفال في تجمعات المهمشين، سوى الفتات ومن النوع الرديء.
تتابع المقرمي: "يعيش الأطفال المهمشون حالة من الحزن طيلة أيام العيد، خاصة الأيتام منهم، في ظل غياب تام لدور الجمعيات الخيرية وفاعلي الخير، حيث يتم توزيع كسوة العيد للأطفال في معظم الأحياء في مدينة تعز، ما عدا تجمعات المهمشين؛ لم يلتفت إليهم أحد".
الأرصفة وحصر سلام العيد
يعمل نسبة كبيرة من المهمشين في مهن خدمية، فعندما تطل عليهم فرحة الأعياد، تجد فئة العاملين منهم في الميدان يقومون بتبادل سلام وتهاني العيد على الأرصفة؛ بسبب ارتباطهم بأعمال مستمرة لا تستدعي التوقف، وبأجر زهيد وفق نظام أقرب إلى (السخرة).
مشرف النظافة- عاقل المدينة السكنية بمديرية المظفر، فيصل الحاج، يقول لـ"خيوط": "نعمل في الأعياد مثل بقية الأيام بجد واجتهاد، ولكن للأسف لم نحصل على حقوقنا في العمل الإضافي، حسب قانون العمل".
لذا يعجزون عن توفير أبسط مستلزمات العيد أو شراء كسوة للأطفال وإسعادهم في العيد، إضافة إلى عدم حصولهم على الراحة بمناسبة العيد، واستمرارهم بالعمل مقابل مبالغ بسيطة تصرف لهم، وفق حديث الحاج، على أنها إضافي ومكافأة.
وبالرغم ممّا يمثّله العيد بصفته مناسبة دينية واجتماعية، وملتقى لتبادل الزيارات وحضور المجالس ومشاركة الناس بعضهم لبعض مناسبات الأفراح والأعراس، وجمع المساعدات للأُسَر الفقيرة لشراء الأضاحي والملابس والألعاب للأطفال، لمعايشة فرحة العيد بكل جوانبها المختلفة.
لكن بالمقابل، مثل هذه المناسبات العيدية في المجتمع اليمني، بحسب فيصل العسالي، رئيس اللجنة الحقوقية في ساحة الحقوق والحريات بمحافظة تعز: "لا تزال مؤشرًا على استمرار عوامل التفرقة الاجتماعية في المجتمع، واستمرار التهميش لفئة المهمشين من ذوي البشرة السمراء".
ويقول العسالي لـ"خيوط": "إنّ المجتمع بسبب رواسب التخلف والعادات المتوارثة التي لا تمت للإنسانية بصلة، لا يزال يحصر هذه الطقوس، حكرًا، على فئات محدودة، حيث لا يتم تبادل الزيارات والتهاني العيدية مع الأُسَر المهمشة ومشاركتهم الأعراس والأفراح في الأعياد".
الأضاحي نوعًا مضافًا للتهميش
بدوره، يقول الناشط الاجتماعي منير سمير (29 عامًا)، مخيم طلحة وسط مدينة تعز: "نحن فئة المهمشين لا يوجد لدينا دخل، ولا معنا أعمال، ونعيش في ظروف صعبة، لا نستطيع بسببها شراء الأضاحي".
تعيش فئة المهمشين في بيئة معزولة عن المجتمع، من جراء الممارسات التمييزية التي يواجهونها والتي أخذت بعدًا نمطيًّا مختلفًا في حياتهم، الأمر الذي جعلهم يعيشون طقوسَ وفرحة مثل هذه المناسبات بطريقتهم الخاصة، وبصفتهم كذلك مساهمين في صناعتها للآخرين.
بل يذهب بعض المهمشين للعمل في ذبح الأضاحي للناس، مقابل الحصول على أقل من كيلوجرام واحد من لحم الأضحية، بينما قد لا يحصل بعضهم على ذلك؛ إذ هناك من لا يدفع أجرة العامل أو مقابلها من لحم الأضحية أو يكتفي بكمية قليلة من الحبوب والطعام.
في حين تتحدث نهلة الصنوي، من جمعية "حياة أفضل"، لـ"خيوط"، بالإشارة إلى أنّ الأُسَر الضعيفة مثل المهمشين وغيرهم، غير القادرين على شراء أضحية، يلجأ بعضهم للدواجن، التي يحصلون عليها إما من فاعلي الخير، أو باشتراك أسرتين مثلًا لجمع تكلفة الدجاجة الواحدة وتقاسمها فيما بينهم.
طريقة خاصة لمعانقة السماء
تعيش فئة المهمشين في بيئة معزولة عن المجتمع من جراء الممارسات التمييزية التي يواجهونها، والتي أخذت بعدًا نمطيًّا مختلفًا في حياتهم؛ الأمر الذي جعلهم يعيشون طقوسَ وفرحة مثلِ هذه المناسبات بطريقتهم الخاصة، وبصفتهم كذلك مساهمين في صناعتها للآخرين.
عضو قيادة الاتحاد الوطني للفئات الأشدّ فقرًا في محافظة الضالع، جمال الحجري، يؤكد في هذا الخصوص لـ"خيوط"، أنّ مجتمع المهمشين يعيشون العيد بكل تفاصيل لحظاته بطريقتهم الخاصة وفرحتهم تعانق السماء، حيث يعملون في الإعداد والتهيئة لمثل هذه المناسبة بشراء كسوة العيد وصيانة منازلهم الشعبية التقليدية.
في ليلة العيد، كما يشرح الحجري، تجد الكل يتهيَّأ بشراء ما يسعده، كالقات مثلًا، والاستعداد للسمرة، حيث يجتمع أفراد الأسرة في منزل العائلة، يتبادلون الحديث مع بعضهم، ويستمعون للطرب، والمرح والرقص حتى منتصف الليل، ليأتي الصباح ويرتدون ملابس مناسبة للعيد، وبعد العودة من المصلى يقومون بمصافحة ومعانقة بعضهم لبعض، والذهاب إلى المنازل لمصافحة الجيران مع الأطفال، الذين يحصلون بدورهم على "العيدية" والهدايا، ومن ثم يتناولون الطعام بشكل جماعي.