لأكثر من نصف قرن، بَقِيَ اسم د. عبدالعزيز المقالح واحدًا من عناوين اليمن الكبيرة، شاعرٌ ومثقّف وتنويريّ لا يُجارَى. انحاز باكرًا لمشروع التغيير في اليمن، فتلازمَ صوتُه في إذاعة صنعاء بصوت الجمهورية الوليد، وتاليًا تلازَمَ صوتُه الشعريّ والنقديّ بالتبشير باليمن الجديد، أرضًا وإنسانًا.
حين ضاقت الجمهورية بأبنائها في الداخل، غادر إلى القاهرة لمواصلة تعليمه الجامعيّ في أواخر الستينيات، وهناك بدأ التعريفَ بالأدبِ اليمنيّ وأسمائه المتعددة بواسطة رسالته لنيل درجة الماجستير التي حملت عنوان "الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن". وتاليًا صارَ إرثُ اليمن من الأدب الشعبيّ هو المعرِّف به حين اختاره موضوعًا لرسالته العلمية لنيل شهادة الدكتوراة "شعر العامية في اليمن".
حين عاد إلى الداخل اليمنيّ في ذروة الانقسام العربيّ، تولَّى مسؤولية رئاسة جامعة صنعاء، فتحوّلت في عهده إلى قِبلة للباحثين والأكاديميّين والتنويريّين العرب الذين ضاقت بهم بلدانهم، فوجدوا في صنعاء المقالح ملاذًا طيّبًا للإقامة، بعيدًا عن سطوة الأجهزة الأمنية وأعين عسسها في بلدانهم.
تعرّض لكثيرٍ من حملات التشهير من القوى الظلامية (الإماميّون والوهّابيّون)، وصلت ذات وقت إلى حدِّ تكفيره وهدر دمه، بسبب نصٍّ شعريّ كان ذريعةً منهم لإسكات صوته، ووَأْد مشروعِه التنويريّ الذي كان بوابته جامعة صنعاء، ومركز الدراسات والبحوث اليمني الذي تولّى رئاسته في سنة عودته الأولى إلى صنعاء حتى يوم وفاته (اليوم الإثنين 28 نوفمبر 2022).
ليس هناك من ضاهى الدكتور المقالح في خدمة الأدب والثقافة في اليمن طيلةَ عقود، فقد حمل إلى مكتبه في رئاسة جامعة صنعاء ومركز الدراسات والبحوث اليمني طيلة عقود مئات الأدباء والكتّاب والمؤرِّخين والباحثين اليمنيّين ومن أجيال مختلفة، مخطوطات كتبهم الشعرية ودراساتهم وأبحاثهم الأدبية والتاريخية من أجل تقديمها للقُرّاء والدارسين، فلم يرُدّ أحدًا منهم.
انحاز لمشروع الحداثة الشعري في اليمن، وأنتج مصطلحه النقدي الرائج (الشعر الأجدّ) لمعاينة التجارب الشعرية الجديدة، بعد أن صارت التعمية والبلبلة الاصطلاحية بين أنصار التيارين (التقليدي والجديد)، واحدةً من تصدّعات القراءة والدرس النقدي المتنوّع في تجاذبات مصطلحات قصيدة النثر، والشعر الحرّ والموزون، وغيرها.
طيلة سنوات بقي يفتح مقيلًا أسبوعيًّا في مركز الدراسات والبحوث اليمني لكل الراغبين في الحضور للاستماع إلى النقاشات الملهمة بين رموز الثقافة والفكر والأدب والسياسة، وفيه وجد الأدباء الشبّان منبرًا لإيصال أصواتهم إلى مسامع النقّاد والمهتمّين الذين يرتادون المقيل، وبعد إغلاقه انتقلَ المقيل إلى منزله، وبقيَ مفتوحًا حتى الأيام الأخيرة، وإن كان قد حُصر بمجموعة من أصدقائه القريبين، بسبب وضعه الصحي.
بقيت صفحته الأسبوعية في "صحيفة 26 سبتمبر" واحدة من الوسائل التي يطلّ من خلالها المثقّفون والمهتمّون، على كلِّ جديدٍ من التجارب والأصوات والمتابعات التي يبشر بها هذا الرمز الكبير.
تولَّى الإشراف على مجلة "أصوات" الثقافية، التي عُنِيَت في فترة إصدارها مطلع التسعينيات بصوت الحداثة والشعر الأجد، ولأسباب متعددة توقّفت هذه المطبوعة الرائدة، وبعد سنوات عاد للإشراف على إصدار مجلة أخرى حملت عنوان "غيمان" حفرت في ذات مجرى أصوات، غير أنّ تبدلات الأحوال في اليمن المنكوب قاد إلى توقُّفها هي الأخرى بعد أن حملت على كاهلها عبء توقُّف المنابر الورقية الأخرى، مثل الثقافة والكلمة والحكمة.
يُحسب للمقالح ضمن محامده الكثيرة، أنّه جعل من مكتبة مركز الدراسات والبحوث اليمنيّ أهمَّ مكتبةٍ ورقيّة في اليمن، بسعيِه الدؤوب برفدها بكلِّ جديدٍ يصله من كل مكان يتواجد به أصدقاؤه الذين يُزوِّدونه بإصداراتهم، وبقيَ حتى أواخر أيامه خائفًا من عملية تجريف المكتبة وإغلاقها، فكان دائمَ السؤال عنها، ودائم التوصية للعاملين فيها بالحفاظ على موجوداتها.
أصدر المقالح في نصف قرن، خمسَ عشرة مجموعة شعرية، ابتدأها بمجموعة "لا بُدّ من صنعاء" (1971)، واختتمها قبل خمس سنوات بمجموعة "بالقرب من حدائق طاغور" (2018)، وبين المجموعتين تحضر مجاميع:
رسالة إلى سيف بن ذي يزن (1973)، هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي (1974)، عودة وضاح اليمن (1976)، الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل (1978)، الخروج من دوائر الساعة السليمانيّة (1981)، أوراق الجسد العائد من الموت (1986)، أبجدية الروح (1998)، كتاب صنعاء (1999)، كتاب القرية (2000)، كتاب الأصدقاء (2002)، كتاب بلقيس وقصائد لمياه الأحزان (2004)، كتاب المدن (2005)؛ وهذه التجربة الثريّة المتنوّعة قدّمته كأحد شعراء العربية الكبار، الذين لم تتوقف الدراسات الأكاديمية عن مقاربتها في معظم الجامعات.
أمّا كُتبه ودراساته الأدبيّة والنقديّة، فقد اقتربت من عشرين مؤلَّفًا متنوَّعًا، منها:
قراءة في أدب اليمن المعاصر، أصواتٌ من الزمن الجديد، الزبيري ضمير اليمن الوطني والثقافي، يوميّات يمانيّة في الأدب والفنّ، قراءات في الأدب والفنّ، أزمة القصيدة الجديدة، قراءة في كتب الزيدية والمعتزلة، عبدالناصر واليمن، تلاقي الأطراف، الحورش الشهيد المربِّي، عمالقة عند مطلع القرن، الوجه الضائع، دراسات عن الأدب والطفل العربي، شعراء من اليمن، مدارات في الثقافة والأدب، مرايا النخل والصحراء، ذاكرة المعاني؛ فقد قدّمته كأحد فرسان النقد الجديد ليس في اليمن فقط، وإنّما في الوطن العربي.
وداعًا أيُّها الرمز والأب الكبير.