كان لدى صفاء نصر (اسم مستعار)، وتبلغ من العمر (17 عامًا)، حلمٌ بسيط بأن تصبح مدرِّسة تساعد الأطفال، وخاصة الفتيات، على مواصلة التعليم، لكنها لم تدرِ بأن العام قبل الماضي هو الأخير لها في المدرسة، وهي الآن بأمس الحاجة إلى معجزة تجعلها تصحو من الكابوس الذي تمر به بعد أن كان حلمًا جميلًا يتجاوز أسوار المدرسة للوصول إلى الجامعة.
تقول صفاء، وهي من منطقة "الخبت" بمحافظة المحويت (شمال غربي اليمن): "أبي كغيره من الآباء في قريتنا، يطبّق نظرية أنّ الفتاة عليها فقط أن تتعلم القراءة والكتابة، لتستطيع حفظ القرآن وبعدها تذهب لبيت زوجها، بالرغم من أن هذه النظرية لم تعد مقبولة، لكن ليس باليد حيلة". لذا، فإن على صفاء وغيرها بناءً على متفرعات هذه النظرية، الخضوع لوالدها بشكل خاص، وأسرتها، فهو أعلم بمصلحتها بحسب ما يتم تلقيهن، إذ تلخص هذه الفتاة وضعها نتيجة لذلك، بالقول: "لا أستطيع فعل شيء سوى الاستسلام، فقد ماتت رغبة الدراسة لديّ، لم أعد أحبها كما كنت سابقًا، فأبي شخص يعطي الأوامر ولا يقبل النقاش منا، بعكس تعامله مع إخوتي الذكور، فهو يشجعهم ويدعمهم، ولكن نحن بنظره مجرد بنات، وهنا المفارقة".
لم يكن أمام صفاء سوى الرضوخ لما قاله والدها والاستماع إليه، ونسيان حلم طفولتها، فهي الآن أصبحت امرأة ويجب أن تستعد لكي تتعلم أمور المنزل، حيث ستصبح زوجة وأمًّا؛ لذا عليها الاستعداد بدلًا من هدر وقتها في الدراسة، كما يقول والدها.
حياة الفتيات التي سُرقت
صفاء نموذجٌ لعددٍ كبير من الفتيات اللاتي أجبرتهم الظروف على ترك الدراسة والاهتمام بأمور الحياة تلبية لرغبة آبائهن وأسرهن، فالأسباب تختلف، ولكن تبقى الفتاة تائهة بين عمرها الذي ضاع وحياتها التي سرقت، وكل هذا بسبب عادات وتقاليد أُجبرن على تنفيذها دون أي جدال أو تذمر، كما هو حال سماح مقبل (18 عامًا)، التي تخلفت عن المدرسة كونها الأخت الكبرى. وكما هو متعارف عليه لدى سكان هذه القرى، يمثل الإنجاب المفرط مشكلة كبيرة لمعظم الأُسَر؛ لذا تركت سماح الدراسة لتساعد أمها وتعتني بإخوتها الصغار، حيث تقول لـ"خيوط": "عندما وصلت للصف السادس تركت المدرسة ولم أذهب مجددًا لأن والدتي على وشك الولادة، ويجب أن أعتني بإخوتي بدلًا من ترك المنزل والذهاب للمدرسة".
لا تستطيع الفتاة النقاش مع والدها، وخاصة القاطنات منهن في المناطق الريفية؛ لأنّ الأب كلمته مسموعة ولا جدال في هذا الأمر، حتى إذا حاولن، فلا فائدة من ذلك. بالمقابل، تكون حججهم: وجود اختلاط في المدارس، وقلة المعلمات، ففي نظرهم من العيب أن تتحدث ابنتهم مع الرجال أو تتعلم في مدارس فيها ذكور، حيث يكون "الدِّين" كذلك ذريعة لدى بعضهم، متناسين أن الدين الإسلامي حث على التعليم.
نتيجة لذلك، مع تعدد أسباب التسرب من التعليم، والتوقف ليس عن حلم الوصول إلى الجامعة، بل وصل الأمر ببعضهم إلى أن يتمنى الوصول إلى مدرسة توفر مراحل التعليم الأساسي والثانوي، تبرز حواجز عديدة تختلف من قرية لأخرى، منها عادات وتقاليد تربى عليها الآباء، ومنها ما يتعلق بالجغرافيا، والأزمة المعيشية.
يشمل هذا الوضع معظم مناطق المحويت المحلية والريفية، كما ترصد "خيوط" ذلك من بعض المناطق، مثل: شبام كوكبان، والظهرة، والرجُم، وغيرها، بوصفها نماذج لمشكلة الجغرافيا والطرق التي اتخذت منها الأسر حجةً للإبقاء على الفتيات في المنازل، غير أنّ هناك آباء وأسر يُبدون استياء كبيرًا من عدم قدرتهم على تعليم فتياتهم لأسباب؛ منها ما يتعلق بالطرق والمسافات الشاسعة التي يتوجب قطعها للوصول إلى المدارس المتاحة، إلى جانب أسباب أخرى تتعلق بالتردي المعيشي وعدم القدرة على توفير تكاليف التنقل والتعليم، سواء الأساسي والثانوي أو الجامعي، وتحقيق حلم بعض الفتيات في التخلص من الأمية وإكمال تعليمهن والحصول على الشهادة الجامعية.
أسباب تقود إلى التسرب
في السياق، يتحدث عادل القاضي رئيس شعبة المناهج والتوجيه في مكتب التربية والتعليم بمحافظة المحويت، لـ"خيوط"، عن أن "بني سعد" تعد من أكثر المديريات تسربًا عن التعليم، تليها ملحان والطويلة، في حين تعتبر وعورة الطرقات من أكثر المشكلات التي تواجه هذه المناطق، حيث تشكّل حاجزًا أمام فتياتها للوصول إلى التعليم.
يضيف القاضي أنّ الأسرة، وتحديدًا الآباء، لهم دور بارز في هذه القضية، فهم أيضًا سببٌ رئيسي لحرمان الفتاة من التعليم؛ لأن بعضهم يعتقد أنّ إكمال الفتاة دراستَها يعد تحدّيًا وكسرًا للقوانين والعادات التي تربّوا عليها.
لهذا السبب، يلاحظ وجود تقارب في الصفوف الأولى بين الذكور والإناث، لكن نسبة الإناث وفق القاضي، تقل في المراحل العليا، لتصل إلى ما يقارب 42% للمنتسبات في المدرسة، فيما تختلف هذه النسب التقديرية من مديرية لأخرى حسب ظروفها ووضعيتها.
وتشير بيانات صادرة عن قسم التوثيق بإدارة الإعلام والنشر التربوي بمحافظة المحويت، اطلعت عليها "خيوط"، إلى أنّ عدد الفتيات اللاتي يتسربن من المدارس يصل إلى أكثر من 70% من إجمالي عدد الفتيات في المحافظة بشكل عام، حيث يتركز ذلك في المناطق الريفية بدرجة رئيسية، ويكاد يتلاشى وجود التعليم فيها بالنظر إلى أن الغالبية العظمى من أولياء الأمور يكتفون بتعليم بناتهم حتى الصف السادس الأساسي فقط، وينصب تركيزهم على الذكور وإعطائهم الأولوية في مواصلة التعليم.
أغلب المدارس في مختلف القرى تكتفي فقط بالمرحلة الابتدائية، في ظل غياب تام للفصول الدراسة للتعليم الأساسي والثانوي، في حين تقف الطرق عائقًا رئيسيًّا أمام الفتيات الراغبات بمواصلة تعليمهن في هذه المراحل، ويحلمن كذلك بالحصول على الشهادة الجامعية.
بحسب دراسة أجراها الباحث طاهر محمد عمر، عن معوقات التحاق الفتيات بالتعليم العام في محافظة المحويت، استندت إلى عينة قوامها 200 معلم ومعلمة في مدارس البنات، والمدارس المختلطة في مديرية شبام كوكبان، اتضح أنّ أهم هذه الصعوبات تتمثل في المعوقات الجغرافية؛ أي بُعد المنزل عن المدرسة والمخاطر المحتملة نتيجة طول المسافة.
إضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بمخاطر الطرقات الوعرة على تنقل الفتيات للوصول إلى مراكز بعض المديريات التي يتوفر فيها مختلف مراحل التعليم وهي محدودة للغاية، فضلًا عن صعوبة توفير المبالغ المالية للتنقُّل التي قد تصل إلى ما يقارب 3000 ريال يمني لليوم الواحد، فكلما كانت الطريق صعبة كان الأجر مرتفعًا إلى مستويات تفوق قدرات معظم أسَر هذه المناطق الريفية، الأمر الذي يدفع بكثير من الفتيات إلى الابتعاد عن التعليم وتحقيق حلمهن بالوصول إلى الجامعات.
تقول رقية عبدالله، من سكان المحويت، لـ"خيوط"، إن صعوبة الطرق تمثل عائقًا كبيرًا أمام الفتيات، إضافة إلى الظروف المناخية وارتفاع درجة الحرارة، التي تنعكس كذلك على نفسية الطالبات، خاصة من تحلم منهن بالدراسة الجامعية، إذ يضاعف ذلك كثيرًا من معاناتهن مع بقائهن حبيسات منازلهن دون تعليم.
توضح ميمونة أحمد، اختصاصية اجتماعية سابقة في مدرسة السلام بمحافظة المحويت، لـ"خيوط"، أنّ ظاهرة تسرب الفتيات من التعليم بشكل عام، من أخطر الظواهر السلبية التي تؤثر على تطور المجتمعات، مع تفشي الأميّة وتوسّع الفجوة الثقافية بين الرجل والمرأة، خاصة في ريف المحويت، بحكم الثقافة المجتمعية التي تفرض على الفتيات البقاء في المنزل، وبُعد مرافق التعليم، وعدم وجود مدارس خاصة بالإناث، الأمر الذي يجعل كثيرًا من الأسر تفضل تعليم الذكور، والاستفادة من الفتيات في المنزل بدلًا عن مشقة الطريق ومعاناتها.
"حُجج أفقدتني شغفي بالتعليم"
تختلف أسماء فائق، معلمة، مع ما سبق طرحه، إذ تؤكّد لـ"خيوط"، أن الوعي اليوم زاد عن السابق، وهناك أسَر تشجع بناتها على التعليم وترسلهن إلى المدينة لإكمال دراستهن الثانوية أو الجامعية، مدركين أهمية تعليم الفتاة. في المقابل، تتأسف على اختلاف تعامل بعضهم الآخر ممن يغلقون الأبواب في وجوه البنات.
في هذا الجانب، لا تستطيع الفتاة النقاش مع والدها، وخاصة القاطنات منهن في المناطق الريفية؛ لأنّ الأب -والحديث هنا للمعلمة أسماء- كلمته مسموعة ولا جدال في هذا الأمر، حتى إذا حاولن فلا فائدة من ذلك، وفي بعض الحالات تضغط الأم عليه مساندةً لابنتها، لكن دون جدوى أيضًا.
هكذا تكون حججهم في ذلك، كما توضح أسماء: وجود اختلاط في المدارس، وقلة المعلمات، ففي نظرهم من العيب أن تتحدث ابنتهم مع الرجال أو تتعلم في مدارس فيها ذكور، حيث يكون "الدِّين" كذلك ذريعة لدى بعضهم، متناسين إنّ الدين الإسلامي حثّ على التعليم.
في هذا الإطار، تشرح سراب محمد (اسم مستعار- 19 عامًا)، تجربتها، بالقول: "والدي شخص محافظ جدًّا وصعب النقاش معه، حتى إذا جادلته يرد عليّ مستخدمًا أحاديث وأقوالًا لا أفهمها، ويحاول إقناعي بأن المرأة المسلمة هي من تحفظ القرآن وتلتزم بالدين، تتزوج وتكون امرأة صالحة.
تضيف: "حاولت معه مرارًا وتكرارًا، ووصل الأمر إلى أن أضربت عن الطعام، وعن الكلام معهم، لكن كل هذه الأمور لم تعنِ له شيئًا، حتى إنني قلت له سأدرس منازل وأكمل تعليمي بحجة، غير أنّه رفض خوفًا عليّ من الضياع في الطرقات وخسارة صحتي، وهكذا فقدت شغفي وكرهت الدراسة، ودخلت في أزمة نفسية جعلتني لا أطيق سماع كلمة مدرسة، فالحب تحول إلى كره، والسبب في كل هذا والدي".
بالمقابل، لدى حياة فاضل، تجربةٌ مختلفة؛ حاولَ والداها كثيرًا معها من أجل إكمال الثانوية، لكنها رفضت، والسبب كما تتحدث لـ"خيوط": "كان والدي دائمًا ما يصحبني إلى المدرسة، لكن لا أودّ الذهاب، فالمدرسة صعبة وتتطلّب عقولًا منفتحة، وأنا لا أستطيع إكمال المهمة؛ لذا أخبرتهم بعدم قدرتي على المواصلة، والتزمت المنزل".
ترصد "خيوط" في هذا الصدد، حجج وذرائع بعض الآباء، التي تدفعهم إلى حرمان الفتيات من التعليم، إذ يقول عاطف النمر، إن التدريس اليوم متدهور جدًّا وتحول إلى تجارة، حيث يذهب أطفالنا للمدرسة، ويعودون كما ذهبوا دون فائدة تذكر، هذا ما يشجّع على كره المدرسة؛ وفق حديثه لـ"خيوط".
كما يفضل بعض الأولياء إخراج أولادهم من المدرسة بهدف مساعدتهم في المعيشة من خلال العمل والحصول على ما أمكن من المال، أفضل لهم -بحسب ما يعتقدون- من ضياع وقتهم في حضور حصة أو حصتين لا فائدة منها؛ بسبب عدم وجود الكادر المؤهل وانقطاع الرواتب، حيث تفاقمت الأزمة بسبب الحرب والصراع في اليمن منذ العام 2015، إذ أصبحت مشكلة التسرب من التعليم تشمل الذكور أيضًا، وليس فقط الإناث.
تدهور تعليمي ونقص معلمات
يشير القاضي إلى مشكلة تتعلق بنقص الكادر التعليمي النسائي، حيث إنّ عدد المعلمات قليل جدًّا، والثابتات المستمرات منهن، يتراوح عددهن بين 200 إلى 300 معلمة في محافظة المحويت بشكل عام، وهذا دليل على بروز هذه المشكلة ضمن أسباب توسع التسرب من التعليم.
جملة من الأسباب أدّت إلى تفاقم هذه المشكلة التي أصبحت بمثابة أزمة تعاني منها محافظة المحويت؛ حيث تفاوتت من منطقة لأخرى بين صعوبة الطرق، والعادات والتقاليد، إضافة إلى الاختلاط وعدم وجود مدارس خاصة بالفتيات، وضعف الكادر التعليمي، إلى جانب سبب آخر مهم يتعلق برغبة الأهل في تزويج الفتيات في سن مبكرة جدًّا.
في السابق، كانت برامج معلمات الريف مشجِّعة لأولياء الأمور من أجل التحاق بناتهم بالمدارس، لكن هذه البرامج لم تعد فاعلة الآن.
على سبيل المثال؛ يلاحظ أنّ عدد المعلمات في بعض المناطق الريفية لا يتجاوز أكثر من ثلاث معلمات، وأحيانًا قد لا يكون هناك سوى معلمة واحدة، وأغلبهن متطوعات أو معلمات احتياط، مع العلم إنه بمجرد تخرجهن من الثانوية يستطعن التدريس، وبعضهن ليس لديهن شهادة ثانوية، غير أنّ بعض المدارس بحاجة إلى متطوعات، خاصة في الوقت الراهن مع تسبب الحرب والصراع في اليمن بتفاقم أزمة التعليم وتوقف صرف رواتب المعلمين.
تقول لطيفة فؤا،د التي تخرجت من الثانوية، وشرعت بالتدريس فورًا بعد تخرجها لنقص عدد المعلمات في عزلة "الشعافل" بمديرية "الخبت"، في حديثها لـ"خيوط": "عندما أنهيت الثانوية طُلب مني تدريس الصفوف الأولى لعدم وجود معلمات، حيث اضطررت للتدريس، بالرغم من عدم وجود أي تجربة أو تأهيل أو تدريب محدد مسبق أستطيع من خلاله استيعاب بعض الأمور المتعلقة بالتدريس".
مشكلات اقتصادية واجتماعية مشتبكة
تتوصل "خيوط" في هذا التحقيق، إلى جملة من الأسباب لتفاقم هذه المشكلة التي أصبحت بمثابة أزمة تعاني منها محافظة المحويت؛ حيث تفاوتت من منطقة لأخرى بين صعوبة الطرق، والعادات والتقاليد، إضافة إلى الاختلاط وعدم وجود مدارس خاصة بالفتيات، وضعف الكادر التعليمي، إلى جانب سبب آخر مهم يتعلق برغبة الأهل في تزويج الفتيات في سن مبكرة جدًّا.
مع الإشارة إلى عدم وجود بيانات رسمية لعدد الفتيات المتسربات من التعليم في محافظة المحويت، خاصة في مناطق الأرياف؛ فقد كانت معظم النسب المتاحة والمشار إليها تقديرية.
في حين يشدد خبراء على ما تمثّله مشكلة تسرب الفتيات وحرمانهن من التعليم وتأثيرها السلبي على كافة مجالات المجتمع مع ارتفاع نسبة الأمية، وتوسع مستويات البطالة، إضافة إلى مشاكل اقتصادية ومعيشية واجتماعية متعددة.
الجدير بالذكر، وفق دراسة أجرتها منظمة اليونسكو في العام 2019؛ أن اليمن تعد الدولة الأولى في العالم بالنسبة للتسرب من التعليم حيث بلغت 80%، وفي بعض المحافظات وصلت إلى نحو 90%.
كما تقدر اليونسكو في تقرير آخر نسبة الأمية في العام 2022، بحوالي 45,7%، وترتفع بين النساء إلى 71%، خاصة بين الفئة العمرية من 10 إلى 45 عامًا، علاوة على ذلك هناك حوالي (3,65) مليون نازح غالبيتهم دون تعليم من النساء الأميات، في حين هناك ما نسبته 87% من المهمشين خارج المدرسة.