في الحديث عن الدولة، أتطرّق هنا إلى الكيان السياسي الذي صنعه الرسول محمد (ص) في يثرب، والتي سُمّيت فيما بعد "المدينة المنورة" عقب وصوله إليها. وأسارع إلى القول هنا إنّني أعتمد في هذا المقال على كتابي "صحيفة المدينة – أول دستور مدني في الإسلام" الذي أصدره مركز الدراسات والبحوث اليمني عام 2010م. أتحدّث هنا عن الوثيقة التي صاغها الرسول (ص) بعد وصوله يثرب.
ومهما أُطلِقَ على هذه الوثيقة من مسميات: وثيقة، صحيفة المدينة، حلف، معاهدة، فإنّها تعدّ بحقٍّ دستورًا ينظم العلاقات الرئيسية بين مكونات سكان يثرب بعد أن وصل إليها المهاجرون من مكة. لقد باتت الحاجة ضروريّة لهذا المجتمع الجديد المتشكِّل من صياغة ضوابط تحكم علاقاته، فأصدر الرسول (ص) تلك الوثيقة – الدستور.
والحقيقة أّنه بصدور هذه الوثيقة – الدستور، يمكن القول إنّ المكونات الأولية لدولة المدينة (يثرب) تقريبًا قد اكتملت، حسب التعريف القانوني الشهير، والمتمثل في: الأرض، السكان والسيادة، أي الدستور الذي ينظم حياة السكان. ولكن لا بُدّ من استدراك أنّ سيادة الدولة، بصفتها سلطاتها الممثلة في مؤسسات تشريعية وقضائية وتنفيذية، واستقلالية كل سلطة عن الأخرى، كما هو عليه حال المؤسسات اليوم، أمرٌ يصعب الحديث عنه آنذاك.
ما يهمنا هنا في المقام الأول هو الاتجاه الاجتماعي-السياسي العام لهذا الدستور. من أجل ذلك لنتمعن بعمق في الكلمات الأولى منه التي يكشف مضمونها، وبكل جلاء، عن سمته الرئيسية:
"هذا كتاب من محمد النبي (ص) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: أنّهم أمة واحدة من دون الناس".
الكل: مهاجرون، أنصار، مسلمون، يهود (وبعضهم يضيف: "وغيرهم")، الحاضرون وكل من تبعهم مستقبلًا، كلهم يصنعون "أمة واحدة دون الناس". وهذه "الأمة الواحدة دون الناس" هي الركن الركين للدولة في تلك اللحظة التاريخية المفصلية.
لغويًّا، لا يوجد برهان حاسم على أنّ لفظة "أمة" في اللغة العربية، مشتقة من اسم "الأُمّ" (بالضم)، ذلك أنّه من المحتمل أن يكون كذلك فحملت اللفظة معنى وحدة الأصل والمصدر، ولكن أيضًا من المحتمل أنّها مشتقة من الفعل (أَمَّ – يَؤُم)، فحملت معنى القصد والمسلك. ففي الحالة الأولى، يبدو من الضروري ربط مفهوم الأمة بالطور الأمومي وآثاره في تاريخ الإنسان الاجتماعي؛ وفي الحالة الثانية، يكون معنى "الأمة": أولًا، الطريقة أو الشرعة، وثانيًا، معنى الجماعة التي تتبع هذه الطريقة أو الشرعة. ولكن مهما يكن من أمر أصلها، فاللفظة في القرون الوسطى العربية الإسلامية قد استُعملت في الأغلب إمّا بمعنى الطريقة والشريعة، وإما بمعنى الجماعة التي تتفق على دين واحد، أو بمعنى "الاتفاق" على الإطلاق، أيًّا كان الرابط بين أفرادها. إلّا أنّ بعض المؤلفين، كالفارابي والمسعودي وابن خلدون، حصروا مفهوم الأمة في النطاق الاجتماعي، وأبعدوا عنه المعنى أو الأساس الديني. فجاءت خطوتهم وكأنّها تأسيس للاستعمال الشائع في العصر الحديث للمفهوم.
بهذا الصدد، يسلط المستشرق البريطاني الشهير مونتغمري وات ضوءًا على اصطلاح "أمة"، فيذهب إلى أنّه تُستخدم في "دستور المدينة" كلمةٌ خاصة للدلالة على الجماعة هي "الأمة". ويستحسن أن نلقي نظرة أكثر تفحُّصًا على المعنى الدقيق للكلمة. لقد أغرى بعض الباحثين القدماء تقارب الكلمة من اللغة العربية "أم"، بَيدَ أنّه أصبح متفقًا عليه الآن أنّ هاتين الكلمتين مختلفتان حتى لو قاد تشابههما الشكلي إلى علاقة في الفكرة العامة عند الناطقين بالعربية. وممّا لا شكّ فيه أنّ الكلمة مأخوذة من الكلمة العبرية umma وتعني "القبيلة" أو "الشعب"، وهي بدورها مأخوذة من أصل سومري. وقد عثر على الكلمة في الكتابات العربية دون أن يثبت انتشارها وشيوعها على نطاق عريض، كما لم يعثر الكتّاب المعاصرون على أمثلة لها في الشعر الإسلامي على الأقل (وات: الفكر السياسي، ص 18–20).
لكيلا نفقد بوصلة التحليل الموضوعي، ينبغي تقييم المفاهيم بالنظر إليها والتعامل معها انطلاقًا من اللحظة المعنية، أي من لحظة صدورها. وعليه، فإنّ "الأمة الواحدة" التي تقررها الصحيفة، أو تدعو إليها وترغب فيها، مكونة من ثلاث فئات محورية، هي: المهاجرون، والمسلمون من الأوس والخزرج، واليهود؛ وتقوم على دعامتين رئيسيتين، هما: السكن معًا في المدينة يثرب، والجهاد معًا دفاعًا عن المدينة. وبهذا يُستثنى مفهوم "الأمة" هنا المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب الذين لا يقيمون في المدينة. أي إنّ العقيدة الدينية الإسلامية، وبكل أهميتها البالغة، ليست هي الأساس للمفهوم عند نشأة الأمة الجديدة. وعليه، يغدو مفهوم الأمة في الصحيفة مفهومًا مدينيًّا، مفهومًا حضريًّا، وليس دينيًّا، وذلك عندما تشترط مقدمة الصحيفة البقاء في المدينة لكل من أراد الانضواء تحت لواء الأمة الجديدة، وَفقَ النظرة التي تتعامل بها نصوص الصحيفة، وبالذات مقدمتها وبندها الأول. أمّا بصدد تطور مفهوم الأمة في الفكر الإسلامي بعد أن اتسعت رقعة الإسلام، وبالذات بعد فتح مكة حينما تقرر أن "لا هجرة بعد الفتح"، فإنّ الأمة الجديدة لم تعد مقصورة على المدينة أو مكة أو أيّة حاضرة أخرى، أو مقصورة على العرب وحـدهـم، وإنّما باتت ساحتها حيثما وُجد المسلمون، أو بالأصح حيثما كانت "دار الإسلام" في الحضر والبادية، في الجزيرة العربية وخارجها.
فالأمة الجديدة في الصحيفة، وإن ارتكزت على المكونات الرئيسية أعلاه، وهم الموحدون بالله من مسلمين ويهود، فإنّها تقوم على المبدئيين الجغرافي – الحضري، والاجتماعي – السياسي.
إنّ هذه الدولة الجديدة قيد التشكُّل من "الأمة الجديدة" تنتمي –حسب الاصطلاحات الحديثة– إلى صنف من أصناف الدولة الاتحادية، من حيث المرجعية القانونية والأخلاقية التي تتبناها مكوناتها الرئيسية، والتي ذكرتها "الصحيفة" بكل وضوح: لكل جماعة أعرافها وعاداتها وتقاليدها وقياداتها التي هي عليها دون أي تغيير. وبلغة "الصحيفة": كل مكون "على ربعته" أو "رباعته" (انظر، مثلًا: تاج العروس، مادة "ربع").
ما هو مهم، بتقديرنا، ليس فقط القصد المباشر من النص، بكل احتمالات تفسيراته، مع كل أهميته، ولكن أيضًا ما ينجم عنه، ما يستفاد منه، ما يقوله للقبائل العربية بصورة عامة. فالنصّ، إذ يثبت علاقات سارية لدى كل حي وكل طائفة، ينجم عنها أنّ الصحيفة، إذن، تعتمد هذه العلاقات بصفتها مكونات رئيسية لحياة الجماعة الجديدة، "أمة المؤمنين"، حسب ظروف وشروط تلك اللحظة التي صدرت فيها الصحيفة، وبمعزل عمّا إذا ستأتي أحوال أخرى تفرض الضرورة عندها تغيير هذا أو تعديل ذاك أو إلغاءه. واعتماد تلك القواعد الاجتماعية للعرف القبَلي من قبل الصحيفة هو إشارة أو دعوة ذات مدلول اجتماعي – سياسي واضح بأنّ كلّ حيّ يودّ الدخول في هذا العـهد، له مطـلق الحرية والحـق في الاحتفاظ بقواعده القبلية المنظمة لحياته الداخلية، وبما لا يتعارض والنصوص الأخرى في بنود الصحيفة.
أمّا أنْ تُشكّلَ الصحيفة، بالمبدَأَين السالفَي الذكر، وثيقة نظرية نموذجية قياسية في التعامل السياسي مع الجماعات المتباينة المشارب الدينية والاجتماعية، فهذا ما ينبغي الاعتبار به وتسليط الضوء عليه. لهذا، فالصحيفة جديرة حقًّا بتسنم هذا المقام الرفيع في مجال الاجتماع السياسي.
بطبيعة الحال، لا يمكن إلّا أن تثار العديد من المسائل إزاء "صحيفة المدينة" ومكانتها الحقيقية في الفكر الاجتماعي السياسي. والميدان هنا واسع لمن أراد الاستزادة في هذا الشأن. أمّا هنا، فأقتصر على التعليق حيال من يسأل ويتساءل عن "المفارقة" بين أن تكون "الصحيفة" بمثابة دستور مدني من جهة، لدولة يرأسها الرسول محمد (ص) من جهة أخرى. أي إنّ هذا، عنده أمر يتناقض فيما بينه.
بهذا الصدد، لن أذهب إلى الشرح والتوضيح –هذا، إن استطعت إلى ذلك سبيلًا– لأبيّن مدى التعقيد الذي تشتمل عليه الحياة في مختلف ميادينها، وبالذات ميدانها السياسي المفجع من حيث مدى تداخل وتشابك واختلاط ألوانه وأرديته وروائحه المتعددة المختلفة، لن أذهب إلى ذلك، وإنّما سأقتصر هنا على التذكير بحالة من التاريخ المعاصر، هي حالة الأسقف مكاريوس الذي كان في القرن الماضي رئيس الدولة في جزيرة قبرص، وحيث كان نظام الحكم هناك نظامًا مدنيًّا، فلا "مفارقة" أو ما شابه.
أذكِّر هنا أنّ نظام الحكم هو الذي يكتسي سمته الدينية أو المدنية، وليست الدولة، كما هو شائع في الكتابات السيارة.
_______________________
المراجع:
- الزبيدي، السيد محمد مرتضى الحسيني: تاج العروس من جواهر القاموس (تحقيق مجموعة من اللُّغويين)، بإشراف لجنة فنية من وزارة الإرشاد والأنباء (وزارة الاعلام )، الكويت.
- وات، مونتغمري: الفكر السياسي الإسلامي المفاهيم الأساسية، ترجمة: صبحي حديدي، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1981م.