بعد أن ضاق به الحال، وأصبحت أسرته المكونة من ستة أفراد على حافة الانهيار؛ اتجه المعلم الخمسيني حسن عبدالعليم (اسم مستعار)، للبحث عن أي فرصة عمل يقتات منها، في محاولة تشمل إنقاذ أسرته أيضًا، وتوفير ما أمكن من احتياجاتها الغذائية والمعيشية.
يقول عبدالعليم لـ"خيوط": "لم يكن أمامي بعد بحث شاق، سوى العمل في أحد المخابز والحصول على أجر يومي، بالرغم من كونه محدودًا للغاية، في ظل تضخم وتكاليف معيشة مرتفعة، فهو أفضل من البقاء في المنزل وانتظار عودة الراتب المنقطع منذ نحو ثماني سنوات"، ولم يمنع انقطاع الراتب، هذا المعلم وغيره، من ممارسة دورهم وعملهم بالقدر المتاح لهم في المدارس العامة الحكومية مقابل الفتات من المبالغ الرمزية التي يتم جمعها من أولياء أمور الطلاب.
كان عبدالعليم محظوظًا إلى حدٍّ ما، بكونه لم يسقط كغيره من المعلمين الذين أنهكتهم الحياة ومشقتها المضنية، وطول مدة انتظار أي اتفاق لصرف رواتبهم، كما هو حال أحد المعلمين، الذي ترصد "خيوط" قصته المأساوية، حيث سقط على الشارع العام وهو يكافح من أجل لقمة عيش أطفاله الصغار، فارق الحياة، كما يقول أقارب وزملاء له، قبل أن يستلم الحافز، والراتب، وقبل أن يطمئن على أولاده في الوقت الذي لا يزال ما كان سيخلفه لهم من تركة معلقًا في غياب الصراع والمناكفات السياسية والتعقيدات التي تواجهها العملية السياسية للتوصل إلى اتفاق ينهي معاناة ملايين من اليمنيين من أمثال حسن والمعلم الآخر.
وصل الأمر بسلطة صنعاء إلى اعتقال المطالبين بصرف الرواتب، بعد أن وصلت معاناة كثير من المعلمين إلى مستوى يفوق قدراتهم على تحمله؛ وذلك كما حصل مع رئيس نقابتهم أبو زيد الكميم، الذي يقبع في أحد سجون سلطة أنصار الله (الحوثيين) في صنعاء، منذ ما يزيد على أربعة أشهر.
ما يتعرض له المعلم اليمني خاصة، والموظفين المقطوعة مرتباتهم بصفة عامة، من ظلم، جدير بأن يتصدر اهتمامات العالم بأسره، باعتبارها قضية إنسانية يتشارك أخوتها العالم؛ لقد صبروا -وفق ما ذكره النادي- على أوجاعهم وجوعهم وذلّهم ومهانتهم، حتى شكا الصبر من صبرهم.
يُجمع ناشطون وأكاديميون وتربويون وكثير من اليمنيين ممن تابع قضية "الكميم"؛ على أنه لم يدافع عن حقه فقط، بل دافع عن حق كل معلم، فقضيته قضية حقوقية مدنية بامتياز، ومن يسيس قضيته يتنصل من أداء ما عليه من واجبات ومسؤوليات تجاه الناس.
مصادر قانونية مطلعة، ذكرت لـ"خيوط"، أن قضية "الكميم" لا تزال في النيابة الابتدائية، حيث يجري التحقيق فيها ولم يتم تحويله بعد للمحكمة، لكن تحويلها للنيابة الجزائية يعدّ تسييسًا للقضية.
ويعاني الكميم من تدهور في حالته الصحية، بحسب هذه المصادر، حيث تم نقله للمستشفى لتلقي العلاج أكثر من مرة، في حين تعاني أسرته بشكل بالغ منذ اعتقاله على المستوى المعيشي، إضافة إلى المضايقات التي وصلت إلى تهديد أقارب له بالفصل من المدرسة بحجة عدم سداد الرسوم.
في تصريح سابق له، لـ"خيوط"، عند إعلان نادي المعلمين والمعلمات اليمنيين -وهي نقابة تمثل كل التربويين الذين يعملون في التعليم العام في اليمن- الإضرابَ الشامل في عموم مناطق سيطرة سلطة صنعاء التابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) في 20 يوليو/ حزيران الماضي، حتى تتم الاستجابة لمطالبهم، بعد معاناة طويلة ووعود كاذبة كثيرة؛ قال أبو زيد الكميم- رئيس نادي المعلمين والمعلمات، إنّ مطالب النادي بسيطة جدًّا، وهي تسليم مرتبات المعلمين شهريًّا وكاملة من دون انقطاع، إضافة إلى تسليم المرتبات السابقة كاملة، عبر آلية معينة يتم إنشاؤها.
تتمثل التهم الموجهة للكميم، بحسب المصادر القانونية التي تحدثت لـ"خيوط"، في التحريض، والدعوة للاحتجاجات والثورات والإضرابات التي تستهدف الأمن العام، والتحريض والتعاون مع جهات خارجية لزعزعة الأمن ونشر الفوضى.
معاناة وظلم
يعاني حوالي 120 ألف معلم في اليمن من أوضاع مأساوية قاسية؛ بسبب انقطاع مرتباتهم منذُ نهاية العام 2016، لا سيما الموجودين في مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وهم الأكثر عددًا بحكم الكثافة السكانية، والأكثر تهميشًا بفعل السياسة "الحوثية" تجاههم.
لم تكتفِ سلطات أنصار الله (الحوثيين) برفض دفع رواتب المعلمين والموظفين في مناطق سيطرتها فقط -كما رصدت "خيوط" ذلك أكثر من مرة- بل تجبرهم منذ سنوات على العمل بدون أي مقابل مالي، إضافة إلى التنكيل والتخوين بحق كل المعلمين الذين قد يطالبون بمرتباتهم أو يعترضون على سياسية التجويع التي تمارس ضدهم، فيما يُمارَس التعسف بحق الكثير منهم، وقد قامت السلطات بفصل كثير من المعلمين من عملهم والاستعاضة عنهم بآخرين من المتطوعين التابعين لها، والأقل كفاءة وخبرة، وهو ما يهدّد سير العملية التعليمية برمتها.
أحدث الإضراب الذي قام به المعلمون، شللًا شبه كامل للعملية التعليمية، وأدى إلى توقفها في مناطق كثيرة، إذ قام النادي بإعلان الإضراب بعد أن تواصلت اللجنة التحضيرية في النادي مع قيادات النقابات التربوية ومديري المناطق التعليمية من أجل تنفيذ عملية الإضراب، وقد تمت الاستجابة في معظم المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
كما ذكر الكميم لـ"خيوط"، أنّ اللجنة التحضيرية قامت بالتواصل مع مكتب زعيم الجماعة وطرح مطالبهم عليه، والتواصل مع أعضاء مجلس النواب، الذين أثاروا القضية داخل المجلس، فألزم مجلس النواب الحكومةَ المعينة من قبل الحوثيين بدفع رواتب المعلمين، واستدعاء وزير التربية والتعليم يحيى الحوثي لحضور جلسة الاستجواب، الذي رفض حضور جلسة مجلس النواب أكثر من مرة، لأسباب مجهولة.
بحسب ناشطين في نادي المعلمين اليمنيين، فإنّ سلطة الحوثيين التي تحتجز الكميم بصنعاء، تحاول تسييس قضية الاختطاف والاحتجاز غير القانونية، للتربوي والشخصية الاجتماعية (أبو زيد الكميم)، خاصة بعد تأسيسه مع عدد من المعلمين (نادي المعلمين اليمنيين) في يونيو/ حزيران من العام الماضي 2023، للمطالبة بالمرتبات، وتشكيله أول حراك شعبي حقوقي في مناطق سيطرتها، تسبب في توقف العملية التعليمية.
كان نادي المعلمين اليمنيين، قد دعا إلى التظاهر والاعتصام والتصعيد، وفق ما تقتضيه المرحلة، للضغط على سلطة صنعاء من أجل إطلاق سراح المخطوفين من قيادة النادي على الفور، ومنهم أبو زيد الكميم.
كما يتحدث النادي، وفقًا لما نسبه إلى مصادر قضائية في صنعاء، عن تدهور في صحة أبو زيد الكميم رئيس نادي المعلمين، المحتجز من قبل الجهات الأمنية في صنعاء منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي 2023، إذ شهدت صحته تدهورًا كبيرًا لدرجة أن ملامحَه لم تعُد تُعرف، في حين أشار النادي إلى أنه قد ينفّذ أضرابًا مفتوحًا خلال الفترة القادمة.
في البيان رقم (16)، الذي اطلعت عليه "خيوط"، أكّد نادي المعلمين اليمنيين أنه يتابع بكل استياء وأسف وقلق ما يتعرض له المعلم اليمني خاصة، والموظفين المقطوعة مرتباتهم بصفة عامة، من ظلمٍ جدير بأن يتصدر اهتمامات العالم بأسره، باعتبارها قضية إنسانية يتشارك أخوتها العالم؛ لقد صبروا -وفق ما ذكره النادي- على أوجاعهم وجوعهم، وذلّهم ومهانتهم حتى شكا الصبر من صبرهم.
نادي المعلمين والمعلمات اليمنيين: الحرية حق إنساني للجميع، فمنذ أكثر من أربعة أشهر ورئيس نقابة المعلمين أبو زيد الكميم ورفاقه يعانون الأمرّين في السجون، بل إن بعضهم تجاوز هذه المدة؛ وذلك بسبب مطالبتهم بصرف رواتب الموظفين.
يقول المعلم فؤاد ناصر، لـ"خيوط": "لم تعُد معاناتنا تقتصر على ضيق العيش بسبب توقف رواتبنا التي كانت مصدر دخلنا الوحيد الذي نعتمد عليه ونعيل به أسرنا، بل من القهر والظلم الذي نتعرض له في حال صرخنا من الجوع وطالبنا بمرتباتنا".
وأدّى انقطاع التعليم في المدارس من حين لآخر، إلى توجه كثير من أولياء الأمور إلى تسجيل أبنائهم في القطاع الخاص، بسبب تدهور التعليم العام الحكومي، وعدم انتظامه، جراء الإضراب من حين لآخر، أو تبعات الحرب التي أدت إلى تدمير وتضرر عشرات المدارس، فضلًا عن نزوح السكان.
الناشط الاجتماعي، وجدي سيف، يرى في حديثه لـ"خيوط"، أنّ على الجهات المعنية بصفتها سلطة أمر واقع، الالتزام بمسؤوليتها تجاه المجتمع، وما تقتضيه مسؤولية إدارة مؤسسات الدولة في العاصمة صنعاء، التي تتطلب صرف رواتب الموظفين المدنيين أو المبادرة لإيجاد أي حل لها ما دامت ترجع مسؤولية ذلك إلى الحكومة المعترف بها دوليًّا بعد قيامها بنقل إدارة عمليات البنك المركزي من صنعاء إلى عدن في سبتمبر/ أيلول من العام 2016.
بالمقابل، تحمّل الحكومةُ في عدن الحوثيين مسؤوليةَ تعقيد أي جهود يتم بذلها لحل أزمة رواتب الموظفين المدنيين منذ اتفاق ستوكهولم، إضافة إلى اتهامها باستهداف موانئ التصدير الحكومية، وإيقاف تصدير النفط منذ أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2022.
تقوم الحكومة المعترف بها دوليًّا منذ مطلع العام 2017، بصرف رواتب الموظفين في مناطق سيطرتها، إضافة إلى مرتبات الآلاف من الموظفين النازحين، في حين تظل مرتبات ما يقارب 600 ألف موظف في المؤسسات العامة الحكومية في العاصمة صنعاء ومناطق ومحافظات سيطرة الحوثيين، متوقفة منذ نحو 8 سنوات.
معاناة قيد التفاوض
يقول نادي المعلمين اليمنيين في البيان رقم (16)، الصادر الأسبوع الماضي، واطلعت عليه "خيوط": الحرية حق إنساني للجميع، فمنذ أكثر من أربعة أشهر ورئيس نقابة المعلمين أبو زيد الكميم ورفاقه يعانون الأمرّين في السجون، بل إن بعضهم تجاوز هذه المدة؛ وذلك بسبب مطالبتهم بصرف رواتب الموظفين.
ومع قيام ممثلين عن النادي بوقفة احتجاجية أمام مكتب النائب العام، وكذا قيام القبيلة اليمنية بوقفة في السبعين وحضور وساطات، ومع اتباع أساليب احتجاجية سلمية وراقية للتعبير عن المظلومية والمطالب الحقوقية، فإنه وفق نادي المعلمين والمعلمات اليمنيين، بدلًا من الاستجابة والتجاوب وعمل الحلول أو حتى تحويل القضية إلى الجهات المختصة، وبعد اضطهاد وتعسف وقهر وإخفاء قسري لأشهر عدة وبدن توجيه أي تهمة- هناك توجه لتحويل القضية إلى الجزائية المتخصصة، لكن هذا لم يتم بعد، كما علمت "خيوط". وأكد نادي المعلمين والمعلمات تدهور الحالة الصحية لرئيس نقابة المعلمين أبو زيد الكميم التي تزداد سوءًا، في حين كان هناك تفاؤل بتحويل القضية للإفراج عنه، إلا أنهم بدَؤُوا بالتحقيق معه، ولم يتم الإفراج عنه وفقًا لقانون الإجراءات الجزائية، حيث لا جريمة تنسب إلى من يطالب بحق مشروع وقانوني بحت.
يشير النادي إلى أنّ الوقفات الاحتجاجية التي نظمها مع القبائل أمام النائب العام في صنعاء وميدان السبعين، رد عليها الحوثي بتحويل رئيس النادي إلى النيابة الجزائية المتخصصة، وتجاهل مطالب المعلمين والقبائل اليمنية بالتعسف والإخفاء القسري. وأعلن النادي رفضه القاطع للتهم الموجهة إلى رئيس وقيادة النادي المخطوفين منذ أشهر، محذرًا من المساس بهم. جاء ذلك بعد أنباء عن تدهور صحة رئيس النادي، وتهديده بالبدء في إضراب مفتوح عن الطعام، احتجاجًا على استمرار احتجازه.
بالمقابل، أكّد المبعوث الأممي هانس غروندبرغ، في إحاطة قدّمها إلى مجلس الأمن في 14 فبراير/ شباط الحالي 2024، أن حجم التحديات الاقتصادية في جميع أنحاء اليمن هائل، فلم يتم دفع رواتب موظفي الخدمة المدنية بالكامل، خاصة في المناطق الواقعة تحت سيطرة أنصار الله، ويواجه الناس في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة انقطاع التيار الكهربائي فترات طويلة، وارتفاعًا في الأسعار نتيجة لانخفاض قيمة العملة، داعيًا جميع الأطراف إلى إعادة تركيزهم على حماية التقدم الذي تم تحقيقه حتى الآن نحو التوصل لاتفاق. فالتصعيد الإقليمي، كما قال، لا يُبطل الاحتياجات الملحة في اليمن المتعلقة بوقف إطلاق النار في أرجاء البلاد، ودفع رواتب القطاع العام، واستئناف صادرات النفط، وفتح الطرق والموانئ والمطارات وإعادة الإعمار، وبنود أخرى كانت قيد التفاوض.
بدوره، وضع نادي المعلمين والمعلمات مجموعة من المطالب، دعا فيها كل المنظمات الحقوقية والإنسانية والمجتمع والعلماء والمسؤولين المخلصين وكل الأحرار، إلى الوقوف مع قضية المحتجزين بالإفراج عنهم، ومع المعلمين لصرف رواتبهم، كما طالب سلطة صنعاء بسرعة الإفراج عن المحتجزين بدون قيد أو شرط؛ كون المطالبة بالراتب حقًّا شرعيًّا وقانونيًّا، وتحميلها المسؤولية الكاملة عن صحة وسلامة وحياة الشيخ أبو زيد الكميم ورفاقه.