حينما تفتحت مداركنا منتصف سبعينيات القرن العشرين الماضي، كان علي عبدالكريم سعد الحوشبي ملء السمع والبصر. كان معروفًا لدى أهالي قرى "بني شيبة" بمديرية الشمّايتين- جنوب محافظة تعز، كقارئ موالد ومحيي "حَضَرات" صوفية. امتاز بملابسه البيضاء البسيطة وتنقُّله الطويل بين قرية "يَفْرُس"، حيث ضريح العارف بالله أحمد بن علوان، وكانت قريته تسبغ عليه حضورًا خاصًّا كأحد أقطاب العلوانية و"باهوتها" في المنطقة كلها- (عُرف أحمد بن علوان بـ"الباهوت").
حضر الأستاذ على عبدالكريم ذات مرة، قبل خمس وأربعين سنة، إلى دكان كان يعمل فيه والدي في السوق المركزي بتعز، وأرانا دفترًا صغيرًا بغلاف أحمر وعليه التاج البريطاني. عرفت لاحقًا أنه، وبواسطة ذلك الدفتر، كان يقبض معاشًا ثابتًا يصل عبر فرع البنك البريطاني للشرق الأوسط، ضمن عشرات الحوالات التي تصل لمتقاعدين، كانوا يعملون ضمن الإدارات البريطانية في مستعمرة عدن. كما عرفت حينها أنه كان أحد معلمي مدينة عدن المعروفين طيلة خمس عشرة سنة، وأنه تبوَّأ الكثير من المناصب في المستعمرة الإنجليزية، قبل أن تجرفه موجة التصوف إلى عوالمها العجيبة.
في أكثر من مناسبة قرأت وسمعت من عديدين، عن أثر علي عبدالكريم سعد في تكوينهم التعليمي والثقافي الباكر، حينما تتلمذوا على يديه في "مدرسة بازرعة الخيرية"، و"مدرسة البادري" و"الاتحاد اليمني" وأندية المناطق القروية. كان أستاذًا كبيرًا للغة الإنجليزية واللغة العربية وآدابها في تلك المدارس.
لاحقًا، صرت حينما أسمع اسم أحمد بن علوان أو أقرأ بعض أشعاره، استعيد صورة الأستاذ علي عبدالكريم، بملابسه البيضاء البسيطة و"جَذْبَتِه" في الموالد، وملازمته الطويلة لضريح صاحب "يفرس". كنت أستحضر هيئته وهو ممسكٌ بأعواد "النَّدّ" الهندي، وأغصان الريحان، والشمع، بينما يمشي في طريقه إلى قبر مميز مُكتَسٍ بالبياض هو قبر ولده ناظم، الذي تُوفِّي باكرًا وكان يعدّه كخليفة له. هي الهيئة نفسها التي يكون عليها في طريقه إلى الجامع الصغير المهجور الذي يقع في زقاق ضيق للقرية التي وُلِد فيها في العام 1926.
عُرف الأستاذ علي بنبوغه المبكر وسرعة التقاطه وحفظه، لهذا ختم القرآن الكريم بوقت قياسيّ في (قرية الهَزيز) المجاورة لقريته، حينما كان الفقيه صالح الخبتي مدرّسًا للصبيان. لهذا عندما عاد إلى قريته مُجازًا من الفقيه صالح، افتتح "مِعْلَامَة" (كُتّاب) خاصة به، في ملحق جامع القرية الصغير، وكان يسمى الملحق "صَبْلًا"، ويأتي إليه الكثير من الأولاد للتعلم على يديه، ومنهم السفير سلطان علي راوح الشيباني.
بقي على هذه الحال سنوات عديدة، وحينما صار شابًّا وصاحب خبرة في الحياة، اشترى جملين قويين، كان يُحضر بواسطتهما الطعام والتمور من مناطق السياني والراهدة ودمنة خدير.
في إحدى المرات تعرض لموقف مزعج أمام طلابه في "المعلامة" من أحد أقربائه في القرية، فقرر من ساعتها مغادرة المنطقة، والهجرة إلى مدينة "مصوَّع" الإريترية على البرّ الغربي للبحر الأحمر، حيث كان والده وعمه يمتلكان مخبازة فيها.
قال لي ولده الحسن، والذي تكنى الأب باسمه، فصار يعرِّف نفسه في الوثائق بـ"أبي الحسن السيد علي عبدالكريم الأهدل"، إنه وبعد وصوله إلى "مُصَوَّع"، عمل في مِخبازة والده وعمه، وكان يعمل في تحضير (الحُلبة) وبيعها لزبائن المخبازة ولحسابه الشخصي، بالاتفاق مع والده وعمه، حتى يتمكن من توفير مصاريفه الخاصة التي تعينه على مواصلة دراسته في مدارس نظامية تتبع الجالية اليمنية والعربية في المدينة الساحلية.
ابتداء من أوائل السبعينيات، استقر الأستاذ علي عبدالكريم في قرية (المَتَلّة)- شرق "بني شيبة"، حيث ابتنى دارًا متواضعة في قحفتها الحمراء، واعتكف على كتب شيخه الأكبر (ابن علوان)، ورموز التصوف الكبار
لم يكتفِ بذلك، بل أخذ يتعلم اللغتين الإنجليزية والإيطالية في مدارس إرساليات تعليم الفقراء، فكان ينتظر حتى ينام عمال المخبازة، فيشعل "لَمْبَة" (مصباح) كيروسين بدائية ويبدأ باستذكار دروسه بصوت عالٍ، فلقبوه بـ"الناقوس". في فترة إقامته بمدينة مصوع بدأ يتعلم اللغة السواحلية، وحينما انتقل إلى أسمرة، استطاع أن يتعلم المحكي من اللهجات المحلية، والتي كان لاحقًا يتخاطب بها مع أولاد العائدين من الحبشة وأمهاتهم في المنطقة.
في العام 1950، عاد إلى عدن وعمل لفترة وجيزة في إدارة الجوازات لإجادته اللغة الإنجليزية بطلاقة، غير أن مهنة التعليم بقيت تجتذبه، فالتحق بـ"مدرسة بازرعة الخيرية" كمعلم للغة العربية وآدابها وللغة الإنجليزية. ساعدته في الالتحاق بالهيئة التدريسية للمدرسة، علاقته المميزة مع مؤسسها الشيخ محمد علي بازرعة، ومديرها الشيخ علي محمد باحميش ومعاونيه: محمد سعيد الصائغ، وعمر باناجة، ويحيى مكّي.
عندما أُنشئ "الاتحاد اليمني" في العام 1952، كواجهة سياسية لعمل معارضي نظام الإمامة المقيمين في عدن، وبعد أن ألغت السلطة الاستعمارية ترخيص حزب "الأحرار اليمنيين" بعد فشل حركة 1948، بضغوط من الإمام أحمد حميد الدين، انتُخب الأستاذ علي عبدالكريم ضمن أول هيئة إدارية للاتحاد اليمني، وتولى منصب السكرتير فيه لفترة.
كان على علاقة ممتازة بالراحل محمد عبده غانم- مدير المعارف في مستعمرة عدن وقتها، والذي عمل علي عبدالكريم مساعدًا له، وسجّل الكثير من الملاحظات على مكوّن اللغتين العربية والإنجليزية في مناهج التعليم المعتمدة في "مستعمرة عدن"، كما كان من الأصدقاء المقربين للأستاذ قاسم غالب، الذي تزامل معه في "الاتحاد اليمني" ومدارس عدن، طيلة عقد الخمسينيات من القرن العشرين.
بقي على تواصل مستمر وبدون انقطاع مع الشيخ محمد سالم البيحاني في فترة استقراره بتعز، وقال لي ولده الحسن أنه من صلّى عليه بعد وفاته.
تتلمذ على يديه في المدرسة العديدُ من الطلاب الذين صاروا أعلامًا في المجتمع، ويتذكرونه حتى الآن، ومنهم: رجل الأعمال علوان الشيباني، الذي يقول إن الأستاذ علي عبدالكريم، الذي درَّسه في مدرسة بازرعة، عمل لاحقًا على حصوله على منحة من "الاتحاد الشيباني" في العام 1956، إلى الجمهورية العربية المتحدة، بالرغم من معارضة آخرين لذلك القرار بسب كبر سنه وقتها.
يقول حسين السفاري، إن الأستاذ علي الذي كان يدرّسه صباحًا النحوَ والبلاغة، كان يوكل إليه مساءً تدريسَ الأطفال الصغار في مقر "الاتحاد اليمني" في "حافة القاضي"، ولم يزل يحتفظ له بصورة حية عن نشاطه وتفانيه في تعليم تلامذته.
وفي واحد من حواراته، قال الشاعر الراحل القرشي عبدالرحيم سلام، إن الأستاذ علي كان على رأس من أثّروا فيه حينما كان طالبًا في المدرسة ذاتها، وإن الدكتور محمد عبدالودود كان يتباهى بأنه أحد طلابه، مثله مثل الدكتور سعيد الشيباني- الشاعر والاقتصادي المعروف، الذي تلقَّى العديد من الدروس على يديه في مقرّ "الاتحاد الشيبانيّ" في منطقة "الطويلة"، قبل أن يسافر في منحة طلابية إلى القاهرة في العام 1953. ومن طلابه في المدرسة أيضًا، كان الراحل فتح الأسودي.
في أواخر خمسينيات القرن العشرين، بدأت تجرفه موجة التصوف إلى مجاهلها، فتبدلت صلته بالانتظام الوظيفي بشكل كليّ، فترك التدريس، ولم يستطع لاحقًا الأستاذ قاسم غالب، حينما تولى في العام 1964، وزارة التربية والتعليم في حكومة الجمهورية الوليدة في الشمال، إعادته إلى عوالم التدريس، رغم أنه عيّنه مديرًا للتوجيه المدرسي لمحافظتي تعز وإب.
ابتداء من أوائل السبعينيات، استقر الأستاذ علي عبدالكريم في قرية (المَتَلّة)- شرق "بني شيبة"، حيث ابتنى دارًا متواضعة في قحفتها الحمراء، واعتكف على كتب شيخه الأكبر (ابن علوان)، ورموز التصوف الكبار، يغترف ويحفظ وينقل عنهم.
تُوفِّي في العام 2001، عن خمس وسبعين سنة، بعد حفره لتاريخ شخصي جليل في ذاكرة طابور طويل من التلاميذ والمريدين.