"يخيفنا المطر، رغم توقعنا لهطوله، فهو عادة ما يحمل معه تهديدًا وجوديًّا لنا نحن أبناء تهامة لأسباب كثيرة؛ بعضها متعلق بموقعها الجغرافي، وبعضها الآخر متعلق بضعف حال أبنائها وتخلي السلطات عنها"؛ يقول عمرو القديمي (26 سنة)، وهو أحد أبناء مدينة الحديدة، لـ"خيوط".
يتابع القديمي والحسرة تتقطر من عينيه، قائلًا: "يتطرف الطقس في تهامة إلى درجة يعجز فيها الإنسان عن مواجهته؛ إمّا حرّ يسلخ الجلود، أو أمطار حدّ السيول والفيضانات يختلط فيها ماء المطر بماء المجاري، في مساحة جغرافية شاسعة، لكنها بلا بنية ولا ظهر.
على سبيل المثال؛ تسبّبت السيول هذه الأيام بطفح مياه الصرف الصحي، ومن ثم اختلاط مياه المجاري بمياه الأمطار، ما ينذر بكارثة صحية وشيكة، في مدينة شبكة صرفها الصحي متهالكة، وبنيتها التحتية عمومًا هشة ومهيَّأة لتكون مدينة منكوبة بكل المقاييس، وبؤرة لانتشار الأمراض والأوبئة".
الأرقام تشير إلى كارثة
وكانت منظمة الفاو قد حذّرت عبر نشرة الإنذار المبكر للأرصاد، التي أصدرتها مطلع شهر أغسطس الجاري من "استمرار هطول الأمطار بشكل متفاوت الشدة، وتعرض أجزاء عديدة من البلاد لخطر الفيضانات جراء أمطار قياسية في الأسبوع المقبل، مع إمكانية تأثر أكثر من 10 آلاف شخص بالفيضانات المصاحبة".
وأشارت إلى أنّه من المرجح أن يتأثر أكثر من 9500 شخص بالفيضانات المتوقعة خلال الفترة القادمة، حيث ستؤثر على أكثر من 5000 شخص في وادي زبيد (الحديدة- ذمار- إب)، وأكثر من 2000 شخص في وادي سهام (صنعاء- ريمة- الحديدة)، وفي وادي مور (حجة- الحديدة)، وأكثر من 1000 شخص في تُبن (لحج- الضالع- إب) وفي الجزء الشمالي من وادي حرض (غرب صعدة)، وأكثر من 800 شخص على طول وادي رماح (ريمة - ذمار)، وفي وادي بنا (أبين- إب- الضالع)، وحوالي 700 شخص في وادي سردُد (المحويت- صنعاء).
الجدير بالذكر أنّ محافظة الحديدة التي تقع في الجزء الغربي من الجمهورية اليمنية، هي إحدى أكثر المحافظات التي تأثرت بالأمطار الغزيرة التي يشهدها اليمن خلال الأسبوع المنصرم، لتفاقم مأساة الوضع الصحي الذي تشهده المحافظة، إذ كانت منظمة منظمة أطباء بلا حدود قد أعلنت عن رصد أكثر من 63 ألف إصابة بمرض الكوليرا في 20 محافظة يمنية، ومنذ مطلع العام الجاري 2024 حتى 31 مايو/ أيار الماضي، احتلت الحديدة رأس هذه القائمة.
وتعدّ مدينةُ باجل في الحديدة الأكثرَ تضررًا وتأثرًا بتداعيات هذه السيول الجارفة، بحسب تصريح مصدر في مستشفى المحوري، تحفظ عن ذكر اسمه، حيث أكّد أن المستشفى قد سجل 271 حالة كوليرا، فضلًا عن بقية المستشفيات والمرافق، فيما توقّعت الأمم المتحدة خلال تقرير لها أن يتم تسجيل أكثر من ربع مليون إصابة مع حلول سبتمبر/ أيلول القادم، في عموم البلاد.
الأوبئة تحاصر الجميع
يتحدّث محمد باشا، طبيب، عن الانتشار الكبير للكوليرا في الحديدة، قائلًا: "اكتظت المستشفيات والمراكز الصحية في المحافظة، بالمرضى المصابين بـ(الإسهالات المائية) في الآونة الأخيرة، إذ تزايدت أعداد الوفيات إلى درجة عجزت فيها المستشفيات والمراكز الصحية عن استقبالها، حيث كان للبرك الراكدة والمستنقعات الناتجة عن طفح شبكة الصرف الصحي، في كثير من حواري وشوارع المدينة، دورٌ كبير في انتشار وتفشي عديدٍ من الأمراض، بينها الملاريا، والكوليرا، وعددٍ من الأمراض المعوية التي عادةً ما يكون مصدرُها الطعامَ والمياه الملوثة".
ويضيف باشا في حديث لـ"خيوط": "إلى جانب الكوليرا والملاريا، هناك الحميات، مثل: حمى التيفوئيد، والضنك، والبلهارسيا، وداء الفيالقة (حمى الفيلق) وهي عبارة عن عدوى بكتيرية تصيب الرئة نتيجة استنشاق البكتيريا المسببة للمرض، وعادة تكون موجودة في هواء أو تربة ملوثة، إلى جانب عودة بعض الأمراض التي كنّا اعتقدنا أنّها اختفت، مثل شلل الأطفال؛ بسبب نقص اللقاحات، أو الجهل الذي تغذّيه بعض الدعوات المتخلفة بمقاطعة اللقاحات، ولنا أن نتخيل أنّ هذا الوضع سيتفاقم أضعافًا مضاعفة في ظلّ حالة الغرق التي تشهدها الحديدة هذه الأيام".
مشكلة طفح المجاري، مشكلةٌ مزمنة، تشمل معظم الحارات والشوارع الرئيسية في عاصمة المحافظة ومراكز المديريات، إلى درجة أنّه في أحايين كثيرة، لا يستطيع المواطن الوصول إلى البقالة التي تقع في الطرف الآخر من حارته، هذا الواقع يبدو معتادًا في ظلّ تخاذل الجهات المعنية، وعدم قدرة الأهالي على الشفط واتخاذ معالجات أهلية.
تهميش المحافظة الغنية
"طفح مياه الصرف الصحي مشكلةٌ قديمة، لا يكاد يخلو منها شارع في المحافظة، غير أنّ المخاطر المترتبة على تدفق المياه المختلطة بمياه الصرف الصحي للبيوت، وركودها في الشوارع والحواري بفعل الأمطار، تعم الجميع دون استثناء، وترفع حدة المشكلة إلى درجة كارثية"؛ يقول هاشم طالب (40 عامًا).
ويضيف طالب في حديث لـ"خيوط": "تتعامل الدولة منذ زمن مع تهامة عمومًا ومحافظة الحديدة على وجه الخصوص، باعتبارها هامشًا، وهو ما يظهره واقع البنية التحتية الهشة في المحافظة، ورد فعل السلطات تجاه كل كارثة تتعرض لها، بالرغم من أنّ تهامة سلة الوطن الغذائية، علاوة على أهمية موقعها، وجاذبيتها الثقافية والدينية"."مشكلة طفح المجاري، مشكلة مزمنة، تشمل معظم الحارات والشوارع الرئيسية في عاصمة المحافظة ومراكز المديريات، إلى درجة أنه في أحايين كثيرة، لا يستطيع المواطن الوصول إلى البقالة التي تقع في الطرف الآخر من حارته، هذا الواقع يبدو معتادًا في ظل تخاذل الجهات المعنية، وعدم قدرة الأهالي على الشفط واتخاذ معالجات أهلية.
حياة بجوار مستنقع
يصف عبدالعلي الأهدل (42 عامًا)، صاحب بسطة، وضع الباعة والبساطين في ظل هذه الأوضاع، قائلًا: "نحن -أصحاب بسطات أو محال تجارية- نعيش وسط مستنقعات تضم كل أنواع الحشرات والمخلفات، تخيل أنّ مياه الصرف الصحي تمرّ بالقرب من البسطات والمحال، وحتى الصيدليات، في مشاهد منفرة تبعث على الاشمئزاز".
مشيرًا إلى أنّ المدينة من الجهة الغربية منخفضة، ومن الجهة الشرقية مرتفعة، ومن ثم تنصب مياه المجاري من شرق المدينة إلى غربها مشكِّلة سيولًا كبيرة، يظن الغريب أنها بفعل الأمطار، لكنها -للأسف- مياه المجاري.
فيما يشرح المواطن نصار عزيزي (25 عامًا)، معاناة السكان في ظل تكالب الأزمات التي يكابدها سكان المحافظة دون أن ترتقي استجابة الجهات المعنية إلى مستوى معاناتهم، قائلًا: "اقتلعت السيول البيوت وأغلبها مبنية بالطريقة الشعبية، علاوة على جرف عشش التهاميين البسطاء ومزارعهم، بل هدمت السيول بعض مباني الخرسانة، وعرت الأسفلت في الطرق المعبدة تمامًا، علاوة على الخطر الأكبر المتمثل باختلاط مياه الأمطار ومياه المجاري، ما ينذر بانتشار غير مسبوق للأوبئة والأمراض".
ويأسف عزيزي في حديث لـ"خيوط"، لهذا الوضع المأساوي للمدينة الساحلية، التي يفترض أن تكون مصيفًا ومتنفسًا لكل أبناء اليمن أسوة بمثيلاتها من المدن الساحلية في غير بلدان، وأقربها مدينة جدة السعودية، لما تمتاز به الحديدة، عروس البحر الأحمر، من امتداد سواحلها وتنوع ثقافتها وفلكلورها الضارب في عمق التاريخ، وغيرها من الامتيازات التي تهيئها لاحتلال هذه المكانة، لكن واقعها يفسّر سبب العجز والفقر الذي تعيشه المحافظة؛ الأمر الذي يحز في نفس كل يمني حر، يستشعر معنى المسؤولية والواجب الوطني".
يروي هاشم جحاف (27 عامًا)، سببَ تركه وعائلته العيشَ في مدينة الحديدة، بالقول: "الحديدة أصبحت طاردة للسكان ومنفّرة للزوّار بسبب الروائح الكريهة المنبعثة من المجاري، وبسبب الأوبئة والأمراض التي عادة ما تنتشر فيها نتيجة ارتفاع درجة الحرارة الشديد، في ظل الغياب شبه التام للخدمات الصحية".
ويتابع جحاف حديثه لـ"خيوط"، قائلًا: "أنا عشت في مدينة الحديدة منذ طفولتي منذ وعيت، ولكنني غادرتها إلى مدينة حجة، ولا أفكر بالعودة إليها أبدًا؛ نتيجة ما عانيته فيها، فقد كنت أنام وأصحو على ذات المناظر المنفرة والروائح الكريهة، ولا أستغرب أن يكون الوضع الآن كارثيًّا بسبب السيول والأمطار الغزيرة، التي تحتاج إلى مصارف مياه خاصة غير تلك المتهالكة، والمسدودة بالمخلفات والقمامات".
تم ربط المياه والصرف الصحي في الحديدة عام 1982، وكانت الشبكة حينها مخصصة لمدينة صغيرة وغير مترامية، ولعدد محدود من البيوت والمحال؛ الآن تشتغل فوق طاقتها بنسبة 1000%، ولنا أن نتخيل ضخامة الضغط بعد توسع المحافظة وزيادة عدد سكانها، في مقابل شبكة محدودة لا تصل إلى مختلف مناطق المحافظة، علاوة على ضعف وضآلة حجم إمدادات القائم منها، وزاد من سوء الوضع انخفاضُ المحافظة الشديد الذي لم يساعد على تصريف مياه السيول الأخيرة.
تحديات المسؤولية والإمكانيات
من جهته، يتحدث نائب مدير مؤسسة الصرف الصحي بمحافظة الحديدة، أحمد الهمداني، لـ"خيوط"، قائلًا: "نحن في المؤسسة العامة للمياه والصرف الصحي، نبذل قصارى جهودنا في سبيل التعامل مع هذه المشكلة التي تمسنا جميعًا، بقدر إمكانياتنا المتاحة والشحيحة أصلًا، لكن السيول التي تدفقت خلال الأيام المنصرمة تسبّبت بانسداد شبكات الصرف الصحي التي أتى عليها الزمن؛ إذ تم تمديدها قبل 72 سنة، وتعرضت لإهمال في الصيانة والمفاقدة؛ ما سرّع بتلفها. وعليه، فالأمر يحتاج إلى تدخل ودعم مركزي".
يتابع الهمداني: "تم ربط المياه والصرف الصحي في الحديدة عام 1982، وكانت الشبكة حينها مخصصة لمدينة صغيرة وغير مترامية، ولعدد محدود من البيوت والمحال؛ الآن تشتغل فوق طاقتها بنسبة 1000%، ولنا أن نتخيل ضخامة الضغط بعد توسع المحافظة وزيادة عدد سكانها، في مقابل شبكة محدودة لا تصل إلى مختلف مناطق المحافظة، علاوة على ضعف وضآلة حجم إمدادات القائم منها، وزاد من سوء الوضع انخفاضُ المحافظة الشديد الذي لم يساعد على تصريف مياه السيول الأخيرة".
يطرح الهمداني حلَّين لتلافي الكارثة؛ أولهما: استبدال الشبكة الحالية بأخرى أحدث وأكبر وفي أسرع وقت، وهذا يبدو حلًّا شبه مستحيل؛ نظرًا للظرف العام الذي تمرّ به البلاد، والثاني: أن يتم بناء شبكة إضافية إلى جانب الأولى، شرط أن تشمل المدينة كلها، وهو ما يتطلب أيضًا مبالغ كبيرة، لكن عامل الوقت سيكون في صالح القائمين على إنشائها.