علي فتيني، البالغ من العمر 45 عامًا، من أبناء محافظة الحديدة، يعول عائلته المكونة من خمسة أشخاص، ويعتمد بشكل أساسي على دراجته النارية التي يعمل بها في شوارع المحافظة، وعند الظهيرة يذهب إلى السوق لشراء وجبة الغداء لعائلته، ومنها السمك، لأن سعره يتناسب مع دخله اليومي.
لكن وفق حديثه، لـ"خيوط"، أكثر ما يزعجه هو بيع السمك، الذي "أعيد تجميده أكثر من مرة، من قبل باعة الأسماك، ولا يُكتشف ذلك إلا عند تجهيزه لطبخه في المنزل، حيث تنبعث منه رائحة كريهة وشكله يتغير، وهذا دليل فساده".
في حين تؤكد الجمعية اليمنية لحماية المستهلك، أنّ إعادة تجميد السمك أكثر من مرة تعتبر جرائم غش بعرض وبيع أسماك تالفة، تؤدي إلى أضرار خطيرة على صحة وسلامة المستهلكين، وتعرضهم لتسممات غذائية.
وتعاني أسواق الأسماك بشكل عام، ليس فقط في محافظة الحديدة، بل في مختلف مناطق اليمن، من التلوث وعدم النظافة، أراضٍ مليئة بالأوساخ والنفايات، وعمال يرتدون ملابس متسخة، وطاولات مليئة بأكوام من الذباب، وروائح كريهة تنبعث من المكان تجعلك تتقيّأ عدة مرات وأنت تطوف أسواق بيع الأسماك، في ظل غياب تام للرقابة؛ الأمر الذي شجّع ملاك هذه الأسواق وباعة الأسماك على عدم الالتزام بالاشتراطات الصحية والبيئية.
ثلاجات حفظ الأسماك في الأسواق، متهالكةٌ وغير صالحة للتخزين، وتفتقر للنظافة، حيث تتجمع من حولها القاذورات والأوساخ، إضافة إلى عربات وصناديق التخزين التي سهّلت الطريق لدخول البكتيريا والأوبئة إلى الأسماك؛ الأمر الذي يجعلها موادًّا سامة وغير صالحة للاستهلاك.
لا تكمن المشكلة في جودة الأسماك اليمنية، أو صيادها الآتي بها من ظلمات البحر، بل في الأسواق الملوثة، ومركبات نقل غير مؤهلة أو غير مطابِقة للمواصفات، والأخطر من ذلك غيابُ الرؤية والتسويق والبنية التحتية، وعدم تطبيق الاشتراطات الصحية والبيئية، وضعف الرقابة والتفتيش، وأي خطط واستراتيجيات تستهدف إنشاء أسواق لبيع الأسماك، يجب أن تُستوفى فيها كل الاشتراطات والمواصفات الصحية.
يأتي ذلك في الوقت الذي يتم فيه ربط مسألة الرقابة على الأسواق والسلع والمواد الغذائية، بالجبايات، وغض الطرف عن التلوث والنفايات والأوساخ والأماكن غير الصالحة لعرض المنتجات فيها، والتالفة أو الفاسدة، كما هو الحال في أسواق بيع الأسماك في الحديدة، وغيرها من المحافظات اليمنية.
تخزين منتجات تالفة!
في المناطق الساحلية، يجد بائعو الأسماك صعوبات كثيرة تقف عائقًا أمامهم للحفاظ على جودة منتجاتهم، وعدم تعرضها للتلف نتيجة ارتفاع درجة الحرارة، وعدم توفر ثلاجات تبريد قادرة على حفظ السلعة فترة معينة، وإذا توفرت الثلاجات تكون بأسعار مرتفعة تفوق قدرات الباعة على دفع تكاليف إيجارها.
إضافة إلى عدم توفر الأماكن المناسبة لعرض المنتجات، بالنظر إلى غياب قنوات الصرف الصحي في الأسواق، وذلك ما أدى إلى تجمع المياه فيها حتى أصبحت مصدرًا للأوبئة والأمراض، ومرتعًا للبعوض والذباب والحشرات، وعند إعادة تجميدها تكون قد تعرضت للأوساخ والأتربة والتلوث.
فضل منصور، رئيس جمعية حماية المستهلك، يتطرق في تصريح لـ"خيوط"، إلى مشكلة عدم وجود رقابة على طرق نقل الأسماك وحفظها، من موانئ الاصطياد، حتى مراكز التسويق والبيع، للحفاظ عليها، وعلى سلامة المستهلكين؛ فمركبات نقل الأسماك بين المحافظات غير مؤهِّلة أو مطابِقة للمواصفات والمقاييس، حيث لا تتوفر فيها الاشتراطات والمعايير لنقل الأسماك، من حيث التبريد خلال نقلها إلى أن يتم تفريغها في الأسواق والثلاجات، أو في مراكز التخزين المخصصة لبيع الأسماك.
يتم وضع الأسماك عند نقلها داخل مركبات وسيارات بين الماء وقطعٍ من الثلج، الأمر الذي يجعلها تتعرض خلال الرحلة إلى عوامل بيئية مثل الحرارة التي تؤدي إلى ذوبان الثلج وتحوله إلى ماء عادي، غير صالح لحفظ الأسماك.
وتؤكد جمعية حماية المستهلك أنها تلقّت العديد من شكاوى المستهلكين، وتواصلت مع الجهات المختصة، ونفّذت حملات من هذه الجهات، وبالفعل وجدت قيام بعض الأشخاص ببيع وتسويق أسماك تالفة؛ ما دفعها إلى اتخاذ الإجراءات القانونية حيال تلك المخالفات.
كما كانت الجمعية قد تقدّمت خلال الفترة الماضية، بمذكرة رسمية إلى وزارة الصحة في صنعاء، تتضمن شكوى حول بيع أسماك للمستهلكين غير صالحة للتداول في بعض الأسواق بصنعاء، مثل سوق البليلي، ودعت الجمعية إلى سرعة اتخاذ الإجراءات الرقابية على الأسواق، للتأكد من سلامة الأسماك المَبيعة.
بينما تقوم جهات مختصة في أكثر من محافظة -كما رصدت "خيوط" ذلك، من محافظات حضرموت ولحج وإب وكذا صنعاء- بين فترة وأخرى بتنظيم حملات على الأسواق، وإتلاف الأسماك التي يتم التأكد من عدم صلاحيتها للتداول.
وتشير التقديرات والبيانات الرسمية إلى أن إنتاج اليمن من الأسماك والأحياء البحرية كان يبلغ سنويًّا حوالي 200 ألف طن قبل اندلاع الحرب مطلع عام 2015، إذ كان يتم تصدير ما بين 40 و50 في المئة من هذا الإنتاج، وكان يدرّ عائدات تقدر بنحو 300 مليون دولار.
ممارسات وقانون بلا تطبيق
حدّد القانون اليمني الصادر عام 2007، بشأن التجارة الداخلية في مادته رقم (13)، أنّ كل مَن عرض بغرض البيع بضائع فاسدة أو تالفة أو أنهت فترة صلاحية استخدامها، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو بغرامة مالية لا تزيد على خمس مئة ألف ريال، ويتحمل التاجر، مالك السلع التالفة أو الفاسدة أو غير الصالحة للاستهلاك، كافة تكاليف الإتلاف، وعلى نفقته.
كما يتضمن القانون اليمني بشأن تنظيم صيد واستغلال الأحياء المائية وحمايتها؛ أنه لا يجوز بيع الأحياء المائية إلَّا في أسواق ومحلات مستوفية للشروط الصحية والتجارية المحددة في القوانين والقرارات واللوائح النافذة .
بحسب مسؤول في صحة البيئة -فضّل عدم ذكر اسمه وصفته- تحدث لـ"خيوط"، فإن ثلاجات حفظ الأسماك في الأسواق، متهالكةٌ وغير صالحة للتخزين، وتفتقر للنظافة، حيث تتجمع من حولها القاذورات والأوساخ، إضافة إلى عربات وصناديق التخزين التي سهّلت الطريق لدخول البكتيريا والأوبئة إلى الأسماك، الأمر الذي يجعلها موادًّا سامة وغير صالحة للاستهلاك.
وتعود أسباب العشوائية في أسواق بيع الأسماك، إلى التداخل في الاختصاصات بين الجهات المعنية، ويُعتبر هذا سببًا رئيسًا في عدم تطبيق الاشتراطات الصحية والفنية والمعايير الخاصة بتنظيم الأسواق، وعدم تحديث التشريعات والقوانين واللوائح التي تنظم البيع، فضلًا عن انعدام التوعية والتدريب للبائعين حول أهمية الالتزام بالشروط الصحية والبيئية ومعايير ضبط الجودة في بيع الأسماك، وضعف الرقابة من الجهات المعنية، وعدم توفر كادر رقابي مؤهل، حسب رئيس الجمعية اليمنية لحماية المستهلك، فضل مقبل.
تطبيق المعايير الفنية والصحية والاشتراطات على السوق أو مراكز بيع الأسماك قبل تطبيقها على المنتجات نفسها، لتكون هذه الأسواق مجهزة بكافة التجهيزات لاستقبال الأسماك- يفتقر إلى الحلول المناسبة لمواجهة هذه الفوضى، نتيجة غياب الدور الرقابي لوزارة الثروة السمكية.
الوكيل المساعد لقطاع خدمات التسويق والإنتاج بوزارة الثروة السمكية في صنعاء، راجح طبقة، يقول لـ"خيوط"، إن المشكلة ليست في غياب الاشتراطات أو المعايير، فهي موجودة في اللائحة التنظيمية لبيع وشراء وتداول الأسماك، وإنما في عدم الالتزام بتلك الاشتراطات والمعايير الأساسية، التي من شأنها الحفاظ على المنتجات السمكية وضمان جودتها، سواء كان من قبل ناقلي الأسماك أو أصحاب المحال والأسواق السمكية، لافتًا إلى بروز مشكلة في عدم التزام هؤلاء بالاشتراطات والمعايير.
يتابع: "هنا، نحتاج إلى تدخلات من الجهات الأمنية؛ لضبط وردع المتلاعبين والمستهترين بسلامة وصحة المستهلكين، حيث قد تم مرارًا وتكرارًا مخاطبة أولئك المستهترين من أصحاب المحال أو الأسواق بسرعة استيفاء المعايير والاشتراطات الأساسية، وإلزامهم بعمل الالتزامات الخطية".
من يُوقف انفلات الأسواق؟
تُعدّ الفوضى التي تجتاح أسواق الأسماك مشكلةً خطيرة تؤثر سلبًا على عملية الشراء والبيع، وتسبِّب العديد من المخاطر التي تزيد فرص تلوث الأسماك وتدهور جودتها، وكذا انتقال التلوث الموجود داخل السوق إلى المستهلكين.
ترصد "خيوط"، هذه الوضعية من خلال جولة تفقدية في أسواق بيع الأسماك في الحديدة، حيث تعاني من هذه المشكلة المؤثرة على تجارة وتداول الأسماك، وعلى الصحة البيئية وسلامة المستهلكين، دون وجود أي رقابة من الجهات المعنية، التي تركز فقط على الجبايات دون أي جوانب أخرى ضمن المهام التي تختص بها.
في السياق، يؤكّد علي الشميري، مالك أحد المحال التجارية لبيع الأسماك في الحديدة، لـ"خيوط"، أنّ غياب الاشتراطات الصحية، وانعدام النظافة، يعود إلى عدم الرقابة والتفتيش من الجهات المعنية، فإذا التزم أحد بائعي الأسماك، لا يلتزم الآخر، مما يجعل السوق عبارة عن بقعة تعج بالأوساخ والنفايات، فضلًا عن تأثير ذلك في مستوى الإقبال لدى المستهلكين، مؤكدًا أنّ غياب الإقبال على الشراء، يدفع الباعة إلى تخزين السمك وتجميده في ثلاجات غير مؤهلة، مما يجعلها عرضة للتلف والتعفن .
من جانبه، يوضح الصياد علي بن مسعود، لـ"خيوط"، أنّ البيع العشوائي جعل البحارة يعانون كثيرًا من هبوط الأسعار، إذ لا تغطي تلك المبالغ تكاليف رحلاتهم نحو الصيد، فالسلة "الباغة" التي كانت تباع سابقًا بعشرة آلاف ريال يمني، تباع اليوم بنحو 500 ريال، وهذا يشكّل عائقًا كبيرًا لمواصلة رحلات الصيد.
وتشير جمعية حماية المستهلك إلى أنّ طريقة العرض للأسماك، تؤدي إلى تلفها؛ حيث تعرض خارج الثلاجات، وطريقة العرض والبيع لا تشجع المستهلكين على الشراء، إضافة إلى أن أسواق الأسماك تفتقر إلى النظافة، وتصبح بيئة خصبة للتلوث، ومن ثم نقله للمتسوقين.
في هذه الحالة، يجب تطبيق المعايير الفنية والصحية والاشتراطات على السوق أو مراكز بيع الأسماك قبل تطبيقها على المنتجات نفسها، لتكون هذه الأسواق مجهزة بكافة التجهيزات لاستقبال الأسماك.
وضعية يؤكدها طبقة بالإشارة إلى أنّ هناك ممارسات سيئة في الأسواق السمكية والمحال التجارية، لكنه يعترف بعدم وجود الحلول المناسبة لمواجهتها نتيجة غياب الدور الرقابي لوزارة الثروة السمكية، بالنظر إلى ما تعاني منه، من غياب الكادر المؤهل للقيام بالدور الرقابي على مستوى المدن، إضافة إلى الرقابة على المنتجات وتتبع المنتج؛ وذلك من أجل صحة وسلامة المستهلك، فضلًا عن المخصصات التي تغطّي احتياجات الفرق الميدانية للنزول والقيام بالرقابة والتفتيش.