لعل تنوع الموارد الطبيعية وتعددها، من أهم ما يميز محافظة حضرموت- كبرى محافظات اليمن من حيث المساحة. فالرقعة الجغرافية الشاسعة مترامية الأطراف لحضرموت جعلتها متنوعة من الناحية الجيولوجية باختلاف تضاريسها ومناخاتها، وكذلك غناها بالثروات، سواء النفطية والمعدنية والبحرية، أو من حيث خصوبة أرضها التواقة لمن يزرعها ويجنيها.
على أن ثمة ثروة أخرى لم تنل حظها من الاهتمام، وهي جديرة به، تتمثل بالسياحة العلاجية. إذ توجد في حضرموت عشرات العيون من المياه الكبريتية، التي تعتبر، على تقليديتها وبدائيتها، من أهم وسائل العلاج السائدة إلى يومنا هذا.
فرادة المكان وتميزه
تقع منطقة الحامي، شرق مدينة المكلّا بما يزيد على 90 كم، وهي تابعة إداريًّا لمديرية الشِّحْر، تمتلك من عيون المياه الكبريتية ما يجعلها قبلة لحجاج الاستشفاء من داخل اليمن وخارجه.
دون إغفال أن هذه المنطقة (الحامي) تقع على خط دولي يربط محافظة حضرموت بمحافظة المهرة واليمن بسلطنة عمان، وهنا تكمن أهمية المكان، بحيث صار من السهولة جدًّا الوصول إليها والاغتراف من مائها.
محمد عبدالله باطايع، أحد سكان منطقة الحامي، قال في حديث لـ"خيوط"، إن هذه العيون الكبريتية موجودة في المنطقة منذ مئات السنين، وأن الناس دأبوا على القدوم إليها، بين فترة وأخرى، لطلب الاستشفاء عبر الاغتسال بالمياه الحارة والتوضُّؤ بها.
ويشير باطايع إلى هدوء المكان الذي تحيط به بعض الأشجار والبرك التي تتجمع فيها المياه، مرجعًا قلة أعداد الزوار إلى الأوضاع الصعبة التي يعيشها اليمن منذ قرابة سبع سنوات. كما يشير إلى أن أعداد الزوار الذين يرتادون المكان تقل في الصيف، حيث يفضل الناس المجيء في فصل الشتاء، حتى ينعموا بالدفء في المياه.
من جانبه يقول الشيخ سالم عبدالحميد عليو، إمام الجامع الكبير في منطقة الحامي، إن وجود تلك العيون شكل امتيازًا للمكان بحيث صار الراغبون بهذا النوع من العلاج يأتون من جميع مديريات حضرموت ومن محافظات أخرى، بل وحتى من خارج اليمن، وهو يستدل بهذا الإقبال على نجاعة المياه الكبريتية في معالجة كثير من الأمراض التي قال إنه "يصعب على الطب الحديث علاجها".
خواص كيميائية نادرة
تشير بعض الدراسات إلى أن هذا النوع من المياه الكبريتية يعتمد على سريانه بين مناطق متباعدة، ويأخذ وقتًا طويلًا من بداية التغذية إلى نهاية المصب، وهذا يكسبه حرارة تعمل على إذابة أيونات الكبريتات في العيون، وينتج عنها بخار من غاز أكسيد الكبريت، فيتفاعل هذا الغاز مع الهواء، ليترسب الكبريت على الصخور المحيطة بالعين، وتفوح بسببه رائحة شبيهة برائحة البيض الفاسد.
ويقدر عدد العيون الموجودة في منطقة الحامي بأكثر من (20) عينًا، بخلاف غيرها التي تعرضت للجفاف أو الطمر مع مرور الزمن وعدم المحافظة عليها، وكان بالإمكان الاستفادة منها.
أما عن استغلال المياه في المنطقة، فإلى جانب كونها علاجًا، فإن القدر الكبير منها يستخدم في ري الأشجار، كجوز الهند والنخيل والبيدان والقَضْب المخصص للمواشي. إذ يتم توزيع المياه عبر "الصواقع"- جمع (صَقَع)، وهي عبارة عن ممرات طينية بدائية التشكيل يتناوب الأهالي على استخدامها لغرض الري. كل ذلك أضفى اخضرارًا خلّابًا على الحقول والمزارع الموزعة هنا وهناك.
الطموح بتحويل المكان إلى مزار سياحي غالبًا ما اصطدم بمعوقات، أهمها وعورة الطريق الترابي الموصل إلى العيون
استشفاء وعلاج
تعتبر عين "عتم الروضة" العين الرئيسة التي يقصدها أغلب الباحثين عن الاستشفاء، وهي بمياهها الحارّة تساعد على شفاء الأسقام المتعلقة بالعظام، كالروماتيزم وآلام الظهر. فوضع الرجلين في الماء أو الاغتسال خلال فترة زمنية معينة -وهي قصيرة في الغالب- كفيل بأن يخفف الكثير من مشاكل المفاصل والعمود الفقري. كما أن مياه هذه العين تستخدم لعلاج أنواع من الحساسية والإمساك.
وهناك عين أخرى تسمى "باحميد"، وتستخدم مياهها لعلاج مشاكل صحية مختلفة، كالتي تصيب اللثة والرواسب على الأسنان وقرحة المعدة وقتل الديدان الشائعة. وهناك عين ثالثة اسمها "جابية بوسالم" وتعالج مياهها أنواعًا من الحساسية والتهابات الجلد والكدمات والرضوض. أما عين "علوي"، فتعالج مياهها تصلب الشرايين والشدود العضلية.
وعن تعدد مصادر العلاج من المياه الكبريتية، يقول الدكتور زاهر عمر بامطرف، استشاري طب العظام، في حديث لـ"خيوط"، إن المياه الكبريتية تحتوي على عناصر مهمة ككبريت الهيدروجين والكالسيوم وغيرها، وهي تساعد الكثير من المرضى الذين يعانون من مشاكل العظام، كالروماتيزم وحالات ما بعد العمليات الجراحية والتصلب المفصلي، وغير ذلك من الأمراض. ويضيف بامطرف أن "أطباء غربيين" قدّموا العديد من النصائح التي تتعلق بالمياه الكبريتية، وفوائد الاستشفاء بها.
"آتي من منطقة الشحر إلى هذه العيون بين فترة وأخرى، تتراوح من ثلاثة إلى ستة أشهر، وقد لاحظت أني بعد الاغتسال، وأحيانًا حتى عند غَمْر القدمين، أشعر بنشاط كبير". هكذا يقول محمد بن جمعان، أحد مرتادي عيون الحامي، لـ"خيوط"، مضيفًا أن "هذه المياه تعمل على تقوية العظام والمفاصل، وقد اختبرت ذلك شخصيًّا".
معوقات ستجتازها الإرادة
هذا الكنز الحار في منطقة الحامي يحتاج لتسليط الضوء عليه، ليتمكن كل من يرغب في الاستشفاء من الوصول إليه، وكم تناولته التغطيات الصحفية والتلفزيونية، إلا أن الطموح بتحويل المكان إلى مزار سياحي غالبًا ما اصطدم بمعوقات؛ أهمها وعورة الطريق الترابي الموصل إلى العيون، وعدم وجود مسابح كثيرة في المكان، وقلة الاهتمام بنظافة المسابح أو المغاطس الموجودة بصورة دائمة، بالإضافة إلى عدم توفر غرف على هيئة "الشاليهات"، حتى تتمكن العائلات من قضاء الوقت بخصوصية كاملة.
هذه العوامل على بساطتها، تمثل أعمدة أساسية لأي مشروع سياحي يعوّل على إسهامه في تعزيز الدخل القومي لأي بلد. لكن مع ذلك، هنالك أمل يلوح دائمًا، فالجهات الرسمية في مديرية الشحر تقول إنها غير غافلة عن هذا الأمر، وأنها تضع عيون الحامي نصب أعينها.
أمين عام المجلس المحلي لمديرية الشحر، مصبح البحسني، قال لـ"خيوط" إن "هناك مشروع سفلتة 20 كيلومترًا من طرقات الشحر"، وأن هذا المشروع "يستهدف بدرجة أساسية منطقة الحامي".
وأضاف البحسني أن المشروع يتضمن "تعبيد وسفلتة الطرق الفرعية المؤدية إلى هذه العيون والأحواض، لتسهيل مرور الزائرين، بغرض الاستفادة من هذه المياه، وتشجيع السياحة العلاجية بما يدعم الاقتصاد، سواء للمديرية أو المحافظة ككل".
البيئة البكر في منطقة الحامي جديرة بتعاون الجهات الحكومية مع الأهالي لخلق واجهة سياحية علاجية، ومن العوامل المشجعة على مثل هذا الاستثمار الحكومي، تلك الأشجار والمزارع الشبيهة بالغابات المطيرة من حيث كثافتها، ما يضفي جوًّا طبيعيًّا ينبغي عدم تفويته كجزء مهم من أي مشروع استثماري للعيون الكبريتية.
هذه القصة ينقصها ثلاثة أشياء لتكتمل؛ طريق معبّد وغرف فندقية ومسابح نظيفة ومرتبة. كل ذلك كفيل بجعل الحامي مزارًا آسرًا للألباب.