على مساحة جغرافية واسعة شمالَ شرقي صنعاء، توقف الزمن منذ فترة طويلة، مخلفًا تاريخًا عريقًا وإرث حضارة تضرب بجذورها في أعماق القِدم، وبقايا معالم أثرية شاهدة على مدينة مهمة محاطة بأسوار منيعة كانت واحدة من المدن التي احتلها القائد (أيليوس غالوس)، أحد قادة الإمبراطور الروماني (أغسطس)، خلال حملته العسكرية على اليمن، بين عامي (24 و25) قبل الميلاد.
تبعد الجوف التي تعاني الإهمال الشديد والتدمير المتعمد لإرثها ومعالمها التاريخية عن العاصمة صنعاء بحدود (143) كيلو مترًا، وتعد الجوف موطن مملكة معين القديمة، ويشكل سكانها ما نسبته (2.3%) من إجمالي سكان الجمهورية اليمنية تقريبًا، وعدد مديرياتها (12) مديرية.
وتعد الزراعة وتربية الحيوانات النشاط الرئيس لسكان المحافظة، ويمكن أن تكون المحافظة إقليمًا زراعيًّا، تشكّل المحاصيل الزراعية ما نسبته (28%) من إجمالي الإنتاج الزراعي في الجمهورية، ومن أهم محاصيلها الزراعية الحبوب والخضروات والفواكه والأعلاف. وتضاريس محافظة الجوف يغلب عليها الطابع السهلي، إذ تتداخل مع صحراء الربع الخالي، وتتميز بمناخ صحراوي. ومعالم السياحة في المحافظة متنوعة، ومن أهم المدن الأثرية مدينة قرناو، والخربة البيضاء، والخربة السوداء، وبراقش.
الدولة المعينية
تحدثت النقوش اليمنية القديمة عن مآثر المعينيين، وكذلك النقوش الفرعونية التي تم العثور عليها في أرض مصر، حيث عثر على نقش لرجل معيني كان يمارس مهنة التجارة، ويقوم بإمداد المعابد المصرية القديمة بالسلع المقدسة، ويعود تاريخ النقش إلى القرن الثالث قبل الميلاد.
على ضفتي وادي الجوف، قامت حضارة الدولة المعينية، ووصل أهلها إلى درجة عالية من العلم والإدراك؛ فقد برعوا في فنون العمارة، وشيّدوا المدن الجميلة، والمعابد المزخرفة بإتقان وذوق رفيع على صخور أعمدتها الجرانيتية بطريقة فنية وضعت فنون الحضارة المعينية في مركز رفيع يضاهي فنون حضارات مراكز الشرق القديم في مصر وبلاد الرافدين.
اتخذ المعينيون مدينة قرناو عاصمة لدولتهم، والتي تقع إلى الشمال من مدينة الحزم على بعد نحو سبعة كيلومترات عن الفتحة المؤدية إلى رمال الربع الخالي في تماس مع السهل الفسيح الذي يرويه وادي مذاب – الخارد؛ أي في منتصف المسافة بين جبل اللوذ الذي يقع إلى الشمال منها على بعد 20 كم، وجبل يام الذي يقع في جنوبها، وبنفس المسافة، ومن جهة الشرق يحدها الربع الخالي.
عرفت مدينة قرناو في النقوش بهذا الاسم (ق ر ن و)، وبعد أن اتخذها المعينيون عاصمة لهم، أصبحت مركزًا إداريًّا، وحاضرة لمملكة معين التي شاعت أخبارها قديمًا عند الإخباريين كالهمداني وغيره، وزادت من شهرة هذه الدولة تلك المستوطنات التي أقامتها المملكة المعينية خارج أراضيها منها مثلًا مستوطناتها في ديدان في الحجاز التي خلّفوا فيها نقوشًا يعود أقدمها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، ويحتمل أنّ هذه المستوطنات قد انتهى ذكرها في النقوش في القرن الثاني قبل الميلاد.
كما خلف المعينيون كثيرًا من نقوشهم في أقاليم وأماكن أخرى من أرض الحجاز، وفي الصحراء الشرقية في مصر وأنطاكية، وهناك تابوت خشبي يعود تاريخه إلى القرن الثاني قبل الميلاد وجد في مصر يحمل نقشًا مكتوبًا باللهجة المعينية لرجل معيني كان مستقرًّا في مصر كمستورد للبان والطيُوب والمستحضرات الطبيعية الطبية للمعابد المصرية، ويقول النقش: إنه عند وفاته في العام 22 من سِنِي حكم ملك مصري كان يدعى بطليموس، أعدت له جنازة وفقًا للطقوس الأوزيريسية المصرية، وهناك أيضًا نصب لتاجر معيني عثر عليه في معبد في جزيرة ديلوس الإغريقية، يقوم بإمداد المعابد الفرعونية بالبخور والمر والقرفة والقسط، ونقش آخر من جزيرة ديلوس اليونانية يعود للنصف الأخير من القرن الثاني قبل الميلاد، يذكر صاحبه أنه نصب مذبحًا للإله ود ولإله معين بديلوس.
برع المعينيون في الزراعة والصناعة، واشتهروا بالتجارة، وشيدوا المحطات التجارية أثناء ازدهار نشاط طريق اللبان التجاري، وامتد نفوذهم إلى بعض المناطق في شمال الجزيرة العربية وخارجها.
في قمة ازدهار الحضارة المعينية، ازدادت شهرتها حتى بلغت مراكز حضارات العالم القديم، وكتب عنها الكلاسيكيون من اليونان والرومان، وكان منهم سترابو الذي صحب غزو القائد الروماني أيليوس غالوس لأرض الجوف عام 24 قبل الميلاد.
كما وثق المعينيون معاهداتهم التجارية مع بعض الدول اليمنية القديمة التي كانت مسيطرة على الموانئ البحرية المطلة على البحر العربي والأحمر، وكانت مواقع حضارة معين مقصدًا للمستشرقين الأجانب والباحثين العرب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين.
في قمة ازدهار الحضارة المعينية ازدادت شهرتها حتى بلغت مراكز حضارات العالم القديم، وكتب عنها الكلاسيكيون من اليونان والرومان، وكان منهم سترابو الذي صحب غزو القائد الروماني أيليوس غالوس لأرض الجوف عام 24 قبل الميلاد.
جهود البعثات الأثرية والإيطالية والفرنسية التي قامت بأعمال تنقيب أثري في مواقع محددة من أرض الجوف كشفت عن نتائج علمية جديدة تشير إلى أنّ الدولة المعينية عاصرت مرحلة ازدهار الدولة السبئية، وكانت تارة تدور في فلكها، وتارة مستقلة عنها، ورغم ذلك ما زال جوف المعينيين يخفي في باطن تلك الخرائب والأنقاض الأثرية أسرارًا كثيرة لحضارة عظيمة لا يمكن التعرف عليها إلّا من خلال استكمال أعمال التنقيب الأثري الشامل لمواقعها القديمة.
من المؤكد أنّ ظهور مملكة معين كان عقب تلك الحروب التي قام بها كرب إل وتر بن ذمار علي مكرب سبأ في القرن السابع قبل الميلاد، وقد أفل نجمها في القرن الأول قبل الميلاد، وكان سبب ذلك الحروب الضارية التي شهدها اليمن القديم أثناء الصراع حول لقب سبأ وذي ريدان، إضافة إلى تحول طريق التجارة البرية عنها إلى الطريق البحرية؛ تلك التجارة التي اشتهر بها التجار المعينيون بأنهم ملوك اللبان والبخور في شمال الجزيرة، وفي مصر وبلاد اليونان.
ويمكن القول بأن مملكة معين بلغت أوج ازدهارها في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، وقد حكمت معين خمس أسر، وكان هناك مجلس إلى جانب الملك يسمى مسود (م س و د)، وكان يضم رؤساء القبائل وأعيان العاصمة، ويساهم في تصريف أمور المملكة، ويجتمع بدعوة من الملك، أمّا الأقاليم والمدن الكبرى، فكان يتولى إدارتها موظفون يشرفون على تسيير جميع شؤونها، وتلقبوا بلقب (ك ب ر): كبير، ويبدو أنّ السياسة التي انتهجتها معين تجاه سبأ من أجل الحفاظ على استقلالها لم تدُم طويلًا؛ ففي القرن الأول قبل الميلاد نجد (معين) تعود من جديد للسيطرة السبئية.
وخلال ازدهار مملكة معين ازدهرت معها حاضرتها مدينة (ق ر ن و): قرناو، التي لم يبقَ منها سوى أجزاء من سورها وبوابتها وبعض المعالم الأخرى.
كانت المنشآت الدينية ومرافقها في قمة الجبل تسمى شعب مشجع، والمنشآت الدينية الموجودة عند سفح الجبل تسمى شعب الكعاب، وترتبط القمة بطريق مرصوفة كانت تستخدم للمواكب الشعائرية.
جغرافية المحافظة
تقع محافظة الجوف في شمال شرق العاصمة اليمنية- صنعاء، وتبعد عنها بحدود بحوالي (170) كم. يحدها من الشمال محافظة صعدة، ومن الشرق صحراء الربع الخالي، ومن الجنوب أجزاء من محافظتي مأرب وصنعاء، ومن الغرب محافظتَا عمران وصعدة. ويبلغ عدد سكان محافظة الجوف وفقًا للتعداد السكاني لعام 1994، حوالي 196.440 نسمة.
يعتبر مناخ الجوف معتدلًا صيفًا، وباردًا شتاء في الجهات الداخلية، والمرتفعات الجبلية، ويسود المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية المناخ الحار أثناء الصيف، والمعتدل شتاءً في النهار، ويميل إلى البرودة في الليل.
في حين تتقسم تضاريس محافظة الجوف ما بين مرتفعات جبلية، وهضاب وسهول واسعة، تضم أراضيَ خصبة، ووديان كبيرة، بالإضافة إلى مناطق صحراوية وشبه صحراوية. وربما أنّ سبب تسمية الجوف جاءت كتعبير تقريبي لطبيعتها الحاضنة للسيول القادمة إليها من جبال صنعاء الشمالية والشرقية، وجبال خولان العالية، وجبال نهم وهمدان، وكذا سيول الأمطار القادمة من جبال نجران، ومن جبال صعدة، كما أنّ طبيعتها الصحراوية تحبس مياه الأمطار القادمة من هذه الجبال؛ لتشكل خزانات جوفية تعطي النماء لهذه الأرض، فمنطقة الجوف من أخصب الأراضي الزراعية في اليمن، وهي تزرع الكثير من المنتجات مثل الحمضيات والتمور والحبوب والخضار والفواكه.
وتسود في المحافظة صناعات غزل الصوف في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية، وصناعة العزف من سعف النخيل في مناطق السهول وضفاف الأودية.
مناطق وحواضر تاريخية
تتكون محافظة الجوف، التي هي -كما تم الإشارة سابقًا- موطن حضارة الدولة المعينية التاريخية في اليمن، من مديريات ومناطق عديدة، أهمها حاليًّا حزم الجوف والغيل والمصلوب والمتون والزاهر.
في السياق، اشتهرت الجوف بالعديد من المدن والمناطق التاريخية مثل "مدينة خربة آل علي"، والتي سميت كذلك مدينة هرم خربة همدان أو خربة آل علي، وتقع مدينة هرم إلى الجنوب الغربي من مدينة الحزم على بعد كيلو ونصف. ذكرت هذه المدينة في بعض النقوش بصيغة (هـ ج ر ن / هـ ر م) بمعنى مدينة هرم، وبدأ أول ظهور لاسمها (هـ ر م) في نقش النصر الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع قبل الميلاد، وقد ذكر فيه المكرب كرب إل وتر بن ذمار علي مكرب سبأ، أنه سلّم ملك هرم الذي كان يدعى يذمر ملك ماء ذي قنعان الذي كان من أملاك ملك مدينة (ن ش ن) التي تسمى اليوم السوداء؛ وذلك لأنّ هذا الملك خرج على سيادة ملك سبأ. وبالنسبة لماء ذي قنعان ربما أنه كان غيلًا –نبع ماء غزير في أنحاء الجوف- وبهذا فقد ظهرت مدينة هرم في القرن السابع قبل الميلاد كمدينة تخضع لمملكة سبأ.
هناك أيضًا مدينة أو منطقة نشن – خربة السوداء: وتقع إلى الغرب من مدينة الحزم، وتبعد عنها نحو 14 كم تقريبًا. يعود أقدم ذكر لمدينة نشن، كما جاء اسمها في النقوش، إلى القرن السابع قبل الميلاد؛ فقد كان ذكرها في نقش النصر الذي دونه كرب إل وتر بن ذمار علي مكرب سبأ، ونلمس من هذا النقش أنّ الجوف كانت تعج بممالك صغيرة، منها مملكة نشأن في نقش النصر السابق الذكر؛ حيث يصف النقش حملة كرب إل وتر بن ذمار علي مكرب سبأ على نشأن لتأديبها؛ لأنّها تمردت عليه مرتين، وقد كان يحكمها في ذلك العهد ملك اسمه سمه يفع، وكانت تمتد مملكته إلى مناطق تقع في الغرب من موضع صنعاء منها دورم في وادي ظهر، ومدينة شبام كوكبان، وكان ملوك سبأ قد منحوا ملوك نشأن من قبل ذلك أراضيَ ومصادر مياه لعلها كانت في الجوف، فاستردها كرب إل وتر، واستولى على مدنهم بما فيها مدينة شبام كوكبان ومدن لا نعرف عنها شيئًا سوى أسمائها التي جاءت في النقش.
يقع جبل اللوذ على الجانب الشرقي من سلسلة الجبال التي تحد انحدار الجوف بارتفاع 1200 متر عن مستوى سطح الأرض، يشرف على الصحراء المحيطة به، وكان قديمًا تُشعل النار على قمته لتهتدي القوافل التجارية من مارب باتجاه نجران أو باتجاه الجوف أو العكس.
ومن خلال الربط في النقش بين نشأن ونشق –البيضاء- التي لم يذكر لها ملك، يمكن الافتراض أن نشق كانت هي الأخرى من المدن التابعة لذلك الملك، وكان آخر ما اتخذه كرب إل وتر في حق المدينتين هو أنه تجنب حرق نشأن، وكان قد حرق مدنًا نشأنية كثيرة، واكتفى بإزالة سورها، ثم فرض على سمه يفع أن يقبل بإقامة سبئيين فيها، وأن يبني في وسطها معبدًا للإله إلمقه المعبود الرئيسي السبئي.
أما نشق، فقد استولى عليها غنيمة للإله إلمقه ولسبأ؛ فظلت من يومها مدينة سبئية يتكرر ذكرها في النقوش كأحد المواقع الهامة لسبأ إلى جانب صنعاء ومأرب.
إلى ذلك، كان جبل اللوذ قديمًا يسمى كور أو كورن، ويقع جبل اللوذ على الجانب الشرقي من سلسلة الجبال التي تحد انحدار الجوف بارتفاع 1200 متر عن مستوى سطح الأرض، يشرف على الصحراء المحيطة به، وكان قديمًا تشعل النار على قمته لتهتدي القوافل التجارية من مارب باتجاه نجران أو باتجاه الجوف أو العكس.
وكانت المنشآت الدينية ومرافقها في قمة الجبل تسمى شعب مشجع، والمنشآت الدينية الموجودة عند سفح الجبل تسمى شعب الكعاب، وترتبط القمة بطريق مرصوفة كانت تستخدم للمواكب الشعائرية، وقد اكتشف الأثري الأردني الخالدي على سفح الجبل معبدًا، حيث شاهد بقايا هياكله، وأخذت صورة فوتوغرافية له.
معبد عثتر – بنات عاد
من خلال النقوش التي تم العثور عليها داخل المعبد، وجدت تسمية المعبد في هذه النقوش، فهي تذكره باسم بيت عثتر، ومن المعروف أنّ كلمة بيت في اللغة اليمنية القديمة تعني قصر، إلا أنّ المعبد يعتبر بيتًا للإله حسب اعتقاد اليمنيين القدماء، كما أن هذا المعبد كان مخصصًا لعبادة الإله عثتر الذي كان في سبأ يشرف على مجمع الآلهة (البانثيون).
وقد أطلقت تسمية محلية على المعبد؛ إذ يسمونها معبد بنات عاد؛ وذلك لوجود زخارف تمثل نساء واقفات تزين بعض الأعمدة في المدخل وعلى الأعمدة التي تحيط بالفناء.
يقع هذا المعبد خارج سور مدينة نشن –السوداء- على بعد أقل من كيلو متر في الجهة الشرقية، ويذكر الدكتور أحمد فخري في كتابه (رحلة أثرية إلى اليمن) أنه يقع خارج المدينة في الجهة الشرقية. وتعتبر ظاهرة بناء المعابد خارج المدن في الجوف ظاهرة مميزة، وموقع المعبد خارج سور المدينة ينبغي أن يلفت النظر، وربما كان في هذا الوضع؛ لكي يستقبل الوفود القادمة التي تتعبد وتتقرب للآلهة.
وموقع المعبد شرق مدينة السوداء، ليس بعيدًا عن وادي مذاب الذي يقع على عمق عشرة أمتار عن مستوى سطح السهل، وبالتالي فإنّ زيارة الفيضانات تسبّب خطرًا على المدن ومحتوياتها من المنشآت المعمارية.
المصدر: