نزح أصيل مسعد (40 عامًا)، مع أسرته من محافظة الضالع إلى عدن العاصمة المؤقتة للحكومة المعترف بها دوليًّا، رحلة انتقل فيها من حياة هانئة استند فيها إلى ما تجود به مزرعته، فضلًا عن عمله ناشطًا مجتمعيًّا، إلى حياة الفقر وعدم الاستقرار.
يقول لـ"خيوط"، مستعيدًا ذكريات أيام نزوحه الأولى، وكيف سلب ذلك منه عمله وضاعف من مأساة تشرده: "اضطررت للعمل في أحد المخابز، والانتقال إلى منزل آخر ببدل إيجار أقل"، حتى تلك التدابير الاضطرارية لم تكن كافية، ففي سنة 2022 رفع المؤجر بدل الإيجار ليتخطى مقدرة أصيل المالية، ولم يعد يحصل على إعانات من منظمات الإغاثة الدولية التي تعاني من أزمة تمويل في اليمن.
تحت ضغط الظروف تلك، انتقل للعيش مع عائلته في منزل بغرفة واحدة فقط، مع جملة من المصاعب في الحصول على القوت اليومي أو الكهرباء والمياه، يقول: "والآن بعد مرور خمس سنوات على النزوح، أولادي الصغار تركوا مدارسهم ويعملون في جمع البلاستيك من النفايات لبيعه مقابل مبالغ زهيدة جدًّا، لكنها تسد بعضًا من حاجتنا".
أدّت الحرب والصراع في اليمن منذ العام 2015، إلى موجات نزوح غير مسبوقة في تاريخ البلاد، وكان للنازحين تأثير بالغ على المناطق التي نزحوا إليها، من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والخدمية والصحية، فضلًا عن رفع مستويات البطالة فيها وتفشي الفقر، إذ تستمر فصول معاناة النازحين دون حل، ومنهم نازحو "دمت"، ومحافظة الضالع بشكل عام، مثل مسعد، الذي تتجمع الدموع في عينيه وهو يتذكر ابنه البكر: "أنهى الثانوية ولم تسمح له ظروفنا بأن يلتحق بالجامعة، فالتحق بدلًا من ذلك بجبهات القتال حتى يساعدنا، لكنه لقي ربه في مأرب، كان ذلك قبل خمسة أشهر من بلوغه عامه العشرين".
المجتمعات المستضيفة للنازحين تضررت على كل المستويات، على نحو ارتفاع معدلات البطالة والفقر، الذي يعتبر السبب الرئيس لغالبية الظواهر الاجتماعية السلبية التي لا يمكن إيجاد حلول عملية لها على المدى القصير؛ لهذا ينبغي أن تكون المعالجات جذرية لا ترقيعية.
وفقًا لتقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية الأوتشا في مارس/ آذار 2024، فإن أربعة ملايين ونصف المليون يمني نزحوا فارّين من الأماكن التي نشب فيها الصراع المسلح داخل البلاد خلال العقد المنصرم.
تداعيات اجتماعية سلبية
تكتظ مناطق الضالع مثل دمت، بعدد كبير من النازحين بشكل يفوق قدرات المنطقة والجهات المعنية والإغاثية على تحملها، حيث كثير منهم لا يزال حتى اليوم بلا مأوى، ينصبون خيامهم في الأرصفة والفضاءات، والبقية يُقيمون في حوانيت غير صالحة للعيش.
القاضي علي الحرازي، وكيل نيابة بمدينة دمت، يقول لـ"خيوط"، إنّ المدينة، أصبحت مأوى لكثير من النازحين القادمين من مناطق الضالع، ومختلف المحافظات، حيث تسبّب ذلك بأزمات عدة، يقول: "برزت قضايا اجتماعية جنائية؛ بعضها يرتكبها النازحون، وبعضها يكونون هم المجني عليهم، وهذا شكّل عبئًا على النيابة والمحكمة، نظرًا لعدم وجود العدد الكافي من القضاة في المحاكم أو من أعضاء النيابة".
يتفق مع ذلك الناشط الاجتماعي حسين المسيبلي، إذ يتحدث لـ"خيوط"، عن أن المجتمعات المستضيفة للنازحين تضررت على كل المستويات، لافتًا إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر، الذي يعتبر السبب الرئيس لغالبية الظواهر الاجتماعية السلبية التي لا يمكن إيجاد حلول عملية لها على المدى القصير؛ لهذا ينبغي أن تكون المعالجات جذرية لا ترقيعية، على حد تعبيره.
ويتوقع مسؤولون وخبراء وباحثون استمرارَ تداعيات الحرب والنزوح في المجتمعات المستضيفة بداخل اليمن، مع صعوبة ملاحظة التغييرات السريعة التي طرأت عليها مع التداخل الحاصل في العادات والتقاليد ونمط الحياة التي اختلطت بالمجتمعات المستضيفة.
مستشار وزارة الثقافة في الحكومة المعترف بها دوليًّا، جمال معجم، يقول لـ"خيوط"، إنّ "اليمن يحظى بتنوع جغرافي وبيئي، والبيئة تؤثر في العادات والتقاليد، وفي البلاد تنوعٌ حتى في اللهجات، وعندما فرضت الحرب النزوح، أخذ النازحون معهم عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم التي قد تكون مختلفة عن المجتمع الذي سيصلون إليه، ومع التعايش فترةً طويلة أخذ كلٌّ منهما من عادات الآخر".
الباحث في الصندوق الاجتماعي للتنمية، عزيز عثمان، يقول في هذا الجانب، لـ"خيوط"، إن النازحين تركوا منازلهم وأراضيهم وأعمالهم لينجوا بأنفسهم، والمناطق التي نزحوا إليها لم تكن مهيَّأة لاستقبالهم، حيث كانت هي الأخرى متأثرة كذلك بالحرب، مشيرًا إلى جزء من هذا الضغط الذي تعاني منه هذه المناطق، مثل: "تدهور في الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء، وظهور العشوائيات السكنية، وتراكم النفايات، وتفشي بعض الممارسات والاعتداءات، وغيرها من الظواهر التي يرى أنّها أثّرت سلبًا على طبيعة الحياة".
ترهل القطاع الصحي
مدير مكتب الصحة في محافظة الضالع، الدكتور صالح حمود، يوضح لـ"خيوط"، أنّ المحافظة فيها مستشفى واحد فقط، هو مستشفى النصر الحكومي، وقد فاقت أعداد السكان طاقته، حيث يشكل النزوح أحد أهم الأسباب في هذه الأزمة.
مع ارتفاع موجات النزوح، ابتداءً من الأعوام الثلاثة الأولى للحرب في اليمن، استقبلت محافظة الضالع عددًا كبيرًا منهم، وكان معظمهم مهاجرين أفارقة، وتركّزوا في مخيمات بمنطقة سهدة، حيث يؤكّد حمود، أنّ ذلك أدّى إلى تصنيف الضالع محافظةً منكوبة بسبب تداعيات الحرب والنزوح.
ويذكر الدكتور صالح، أنّ الأولوية تُمنح للنازح في العلاج ومقابلة الطبيب المختص، موضحًا: "وذلك حرم كثيرًا من مواطني المحافظة الأصليين من العلاج، فلجأ بعضهم إلى مدن أخرى مثل عدن، لتلقيه". ويضيف: "أما الحوامل اللواتي كن يرتدن المستشفى لتلقي الخدمات الصحية، انقطعن عن الزيارة بسبب الازدحام الشديد وقلة الكادر الطبي المتخصص والإهمال، وهذا اضطرهن إلى الانتظار حتى وقت الوضع، ممّا سبّب لهن مشاكل كبيرة ومضاعفات".
بالإضافة إلى أن البنية التحتية للمستشفى غير كافية أو مؤهلة لاستقبال العدد الكبير من المراجعات، فالمستشفى بُني سنة 1966، وكان مخصصًا فقط لمدينة الضالع في حينها، قبل أن تلحق بها ثماني مديريات أخرى، وتضاعفت أعداد السكان بعد نحو خمسة عقود، دون أن يقابل ذلك توسيع في المستشفى؛ وفقًا لقوله.
ندرة المساكن، أولُ مشكلة أحدثها النزوح، إذ ارتفعت بدلات الإيجار بنحو يصفه السكان بالمبالَغ فيه مع قيمة العقارات التي أصبح قلة قليلة يقدرون على تحملها، أيضًا طالت التبعات قطاع التعليم الذي تسبّبت الحرب والصراع بتدهوره بشكل كبير في عموم مناطق اليمن، إذ تضررت بشكل أو بآخر من تبعات الصراع وموجات النزوح، خاصة المجتمعات المستضيفة.
الناشطة في مجال البيئة، صفاء عبدالله، تؤكد لـ"خيوط"، أنّ آلاف النازحين عاشوا في دورات المياه وتحت خيام بلاستيكية، معرضين لتغيرات الطقس والأوبئة، تضيف: "فضلًا عن عدم توفر الغذاء إلا بنسب ضئيلة للغاية، وتلوث مياه الشرب، وهو ما وفّر بيئة خصبة للأمراض وانتقالها للمحيط، وشكّل وضعًا كارثيًّا يحتاج أعوامًا طويلة للمعالجة".
مشكلة تعليمية ضاغطة
إضافة إلى ذلك، طالت التبعات قطاع التعليم الذي تسبّبت الحرب والصراع بتدهوره بشكل كبير في عموم مناطق اليمن، التي تضررت بشكل أو بآخر من تبعات الصراع وموجات النزوح، خاصة المجتمعات المستضيفة.
عن الواقع التربوي بعد موجات النزوح، يتحدث لـ"خيوط"، محمد القدمي- نائب مدير شؤون المعلمين بوزارة التربية في صنعاء، عن أن هناك تحديديات عديدة تواجه الطلاب النازحين، ومنهم من اندمج بالمدراس، بنحو نظامي وأخذ من التعليم ما أخذ زملاؤه في المجتمع المضيف.
من جانبها، تقول مديرة مدرسة أسماء للبنات في محافظة الضالع، شادية الرقيمي، لـ"خيوط"، إن مدرستها كانت تعاني أصلًا قبل الحرب من نقص في الأثاث المدرسي، وتفاقمت المشكلة بعد قبول طالبات نازحات بعد اندلاع الحرب، مضيفةً: "هذه المعضلة متواصلة؛ لأن الكثير من البنات النازحات وصلن خلال السنوات العشر المنقضية لعمر التعليم، ولا بد من إيجاد مكان لهن في المدرسة".
وتذكر أنّ أعداد الطالبات في مدرستها تبلغ (1630) طالبة، بمعدل (150) طالبة في الفصل الواحد، في حين أن الطاقة القصوى للفصل هي (50) طالبة فقط، تتابع: "وهذا يؤدّي إلى ضغط كبير على الطالبات والمعلمين".
وتُعدِّد احتياجات مدرستها: "نحنُ بحاجة ماسة لفصول إضافية وأثاث، فضلًا عن الكتب المنهجية، إضافة إلى أننا بحاجة إلى كادر تعليمي لتغطية العجز الموجود في المدرسة، فمعلِّمو المرحلة الأساسية والثانوية معظمهم متعاقدون، ومع انقطاع الرواتب فإن المعلمين الموظفين بالمدرسة منهم من جلب له بديلًا من خريجي الثانوية، ومنهم من غادر إلى مدن أخرى أو خارج البلد للبحث عن لقمة العيش".
أزمة سكن خانقة
ندرة المساكن، أول مشكلة أحدثها النزوح في اليمن، إذ ارتفعت بدلات الإيجار بنحوٍ يصفه السكان بالمبالَغ فيه مع قيمة العقارات التي أصبح قلة قليلة يقدرون على تحمّلها.
عن ذلك، يقول عصام الموتي، وهو مالك مكتب عقارات في مدينة دمت: "إنّ العقار الذي كان بدل إيجاره قبل الحرب (قبل 2015)، يبلغ 15 ألف ريال (54 دولارًا أمريكيًّا)، أصبح اليومَ نحو 70 ألف ريال (278 دولارًا)، والسبب أنّ الرواتب كانت تسلم للموظفين والعملة محافظة على قيمتها".
ويشير إلى أنّ المشكلة مستمرة حتى بالنسبة للمستأجرين السابقين، إذ إنّ المؤجرين يرفعون الإيجارات سنويًّا؛ ومع أنّ الجهات الرسمية تمنع ذلك، فإن المؤجرين يخلقون مشكلات مع المستأجرين لإخراجهم وإسكان مستأجرين جدد يدفعون ما يطلبونه منهم.
وفي حديثه لمنصة "خيوط"، يرد على ذلك صالح السعدي، وهو مالك عقار يستثمره في الإيجار: "البناء يكلف مبالغ كبيرة جدًّا، ولا بدّ أن يحصل صاحب العقار على بدلٍ معقول، إضافة إلى أن الالتزامات أصبحت كثيرة ومرهقة، وهو أيضًا بحاجة إلى مال لتغطيتها". ثم يقول مشدّدًا: "من يريد استئجار عقاري، فعليه أن يسدّد المبلغ الذي أحدّده".
بدورها، تؤكد صفاء عبدالله، ناشطة اجتماعية، لـ"خيوط"، أنّ هناك صعوبات نتيجة الإقبال المتزايد على "السكن" (العقارات) في بعض مناطق الضالع، مشيرة إلى أنّ هذا الوضع لم يكن قائمًا قبل الحرب ووصول النازحين: "كانت هنالك وفرة في الوحدات السكنية، وفي مستوى الإيجارات". في حين، بالمجمل، يعيش اليمن على وقع تبعات واسعة للحرب والصراع، تطال جميع مناحي الحياة ولا تتوقف عند حدود موجات النزوح وتبعاتها على النازحين والمجتمعات المستضيفة.