منذ مطلع العام 2015، تعيش اليمن، التي تُعدّ واحدة من أكثر بلدان العالم إفقارًا، أميةً وصلت إلى مستوى 65%، بحسب إحصائية جهاز محو الأمية وتعليم الكبار، التابع لوزارة التربية والتعليم في الجمهورية، في واحدة من أسوأ المراحل التاريخية التي مرّت عليها.
فإلى جانب مجالات كثيرة طالها التدمير، أخذ الجانب التعليمي نصيبًا وافرًا منه، ولأنّ اليمن تعيش على مدى ثمانية أعوام حربًا داخلية مستمرّة، فقد تحولت الحرب نفسها إلى تجارة رابحة لأمراء لا يشبعون.
هنا، نعرض جانبًا من الضرر الذي طال مجال التعليم الجامعي، والذي تحوّل من كونه رافدًا مهمًّا للحياة العملية، إلى مزادٍ استثماريّ كبير، تُباع فيه الكراسي الدراسية الشاغرة، وتتغوّل فيه المحسوبية والوساطة.
جامعة صنعاء
تراجعت جامعة صنعاء، الجامعة الأولى في اليمن، إلى المستوى الأخير في تصنيف الجامعات اليمنية، بعد أن احتلت التصنيف السادس والأخير في قائمة "سكوبس" للتصنيف العالمي في مجال البحوث العلمية لعام 2022. إنّ تراجعًا كهذا، يعكس بلا شك الحالة العلمية والأكاديمية المزرية التي وصلت إليها الجامعة الأولى في اليمن، في ظل حكم جماعة أنصار الله (الحوثيين)، التي تخضع لسيطرتها العاصمة صنعاء ومحافظات يمنية أخرى.
في الحقيقة، لا يمكن قراءة هذا التراجع الأكاديمي لجامعة صنعاء، بشكل عابر، إذ إنّ مركز "سكوبس" مؤشرٌ ذو موثوقية عالية على مستوى العالم، ويعتمد على الأداء البحثي ومخرجات الابتكار والتأثير المجتمعي لتصنيف جامعات مختلف دول العالم.
ويأتي هذا التراجع للجامعة الأولى في اليمن، لأسباب عدة موضوعية، أضرّت كثيرًا بالعملية التعليمية في مختلف أقسام وكليات الجامعة؛ أولها هجرة عشرات الدكاترة الأكاديميين العاملين في الجامعة، منذ السنوات الأولى لاندلاع الحرب، والآخر متعلق بالرؤية الجديدة، للحاكمين الجدد باعتبار أروقة الجامعة مكانًا لتحقيق المنفعة الفئوية ومصدرًا لجني الأموال، وعلى هذا النحو تم إغلاق عددٍ من الأقسام العلمية، لكونها عديمة الفائدة ماليًّا، وهناك كليات علمية مهدَّدة هي الأخرى بالإغلاق في أيّ لحظة تحت مبرر ضعف نسبة الإقبال عليها، إلّا أنّ الحقيقة تتمثّل في أنّ هذه الكليات لا تمثّل مصدرًا مُدِرًّا للأموال بالكميّة التي تلبّي حاجة المسؤولين عليها.
وعندما تحوّل التعليم الجامعي خلال سنوات الحرب إلى مجال يُدار بالعبثية وتتحكم فيه المكاسب الخاصة، فقد أصبح لا فرق بين إغلاق كليات أو أقسام في جامعة صنعاء، وبين افتتاح جامعات وكليات علمية جديدة في محافظات أخرى، طالما أنّ الهدف يقوم في الأساس على مبدأ الربح والخسارة، وفي حين أصبحت جامعة صنعاء في أسفل درجات سلّم الجامعات اليمنية، وبدلًا من أن تقوم سلطة الأمر الواقع على العمل للنهوض بها، لتعود إلى مكانتها الريادية المتربعة على عرش التعليم الجامعي والأكاديمي في اليمن، نرى هذه السلطة وقد ذهبت لافتتاح جامعة جديدة في مناطق شمال محافظة الضالع الخاضعة لسيطرتها.
جامعة الضالع
في العام 2008، صدر القرار الجمهوري رقم 119، بإنشاء جامعة الضالع، حيث كان من المقرر إنشاء الجامعة في الضواحي الجنوبية لمدينة قعطبة، غير أنّ الأحداث التي توالت لاحقًا حالت دون العمل على تنفيذ هذا القرار.
ومع دخول البلاد في حالة حرب أهلية جديدة مطلع العام 2015، تحوّلت محافظة الضالع إلى محافظة منقسمة بين الأطراف المتصارعة، حيث أصبح كلُّ طرف يتعامل مع المناطق الخاضعة لسيطرته كمحافظة مستقلة، حيث تتكون محافظة الضالع من تسع مديريات؛ ست منها تخضع للحكومة المعترف بها دوليًّا والمجلس الانتقالي الجنوبي، وهي مديريات (الضالع؛ الأزارق، الحصين، جحاف، الشعيب، أجزاء من مديرية قعطبة بينها مدينة قعطبة عاصمة المديرية)، فيما يسيطر الحوثيون على مديريات (دمت، جبن، الحشا، وثلاث عزل من مديرية قعطبة).
وقبل ثورة العام 2011، كانت مدينة دمت، تشهد التجهيزات الأخيرة من مبنى المعهد المهني الواقع جنوب مدينة دمت، حيث كان من المقرر البَدء في تشغيل المعهد بعد تجهيزه بالأثاث والآلات التطبيقية، بإشرافٍ من قبل وزارة التعليم الفنّي والتدريب المهني.
ومع اندلاع الحرب، تحولت مباني المعهد المهني إلى ثكنة عسكرية يحتلّها الحوثيّون، قبل أن يتم الإعلان في شهر مارس/ آذار 2022، بالتخطيط لافتتاح جامعة الضالع، على الرغم من أنّ مباني المعهد تم تصميمها خصيصًا للتعليم المهني من قاعات دراسية وورش العمل الفنية، ورغم تبعية المعهد لوزارة التعليم الفنّي والتدريب المهني، فإنّ سلطة الحوثيين، أعلنت افتتاح جامعة الضالع في نفس مباني المعهد المهني، التي تعرّضت محتوياته لأضرار بالغة جراء الحرب.
وخلال أربعة أشهر فقط من تداول الأخبار عن التخطيط لافتتاح جامعة الضالع، تم بالفعل تدشين أول عام جامعي في مطلع شهر سبتمبر/ أيلول 2022، في مبانٍ متهالكة، تفتقر لأبسط التجهيزات اللازمة بحق جامعة جديدة تحتضن فيها أربع كليات، بإجمالي 12 قسمًا علميًّا.
لم تمرّ سوى أيام قليلة منذ افتتاح أبواب الجامعة أمام الطلاب، حتى اتخذ مكتب التنسيق التابع للجامعة بصنعاء ورؤساء اللجان والهيئة الاستشارية، خلال اجتماع له، قرارًا بتكليف السلطة المحلية التي تدير مناطق شمالي الضالع بإنشاء "صندوق مجتمعي" لدعم الجامعة، يتم تمويله من خلال تبرعات شهرية من التجّار والمستثمرين في مختلف مديريات المحافظة، وإضافة مبلغ مالي يتم تحديده لاحقًا فوق أسعار الوقود والغاز، وفرض رسوم مالية على الطلبة الملتحقين، وجمع تبرعات من المغتربين، وإضافة مبلغ يتم الاتفاق عليه لاحقًا فوق رسوم التحسين والضرائب.
ليس توفير الدعم المالي هو التحدي الوحيد الذي يقف أمام العملية التعليمية في الجامعة الجديدة، بل إنّ التحدي الأكبر يتمثّل في توفير الكادر الأكاديمي لما عدده 12 قسمًا علميًّا، وهذا ما لم يحدث حتى اليوم، إذ إنّ أكثر الطاقم التشغيلي للجامعة هم طلاب حديثو التخرّج من حملة شهادة البكالوريوس، وعددٌ قليل جدًّا من لديهم درجة الماجستير، ولعل رئيس الجامعة هو الكادر الوحيد الحاصل على شهادة الدكتوراة الأكاديمية.
يقول أحد طلبة كلية الحقوق- جامعة الضالع: "إنّ رسوم التسجيل في النظام العام بـ30 ألف ريال، فيما النظام الموازي على الطالب دفع 100 ألف سنويًّا"، ويضيف آخر: "إنّ رسوم النظام الموازي في كلية العلوم الطبية- صيدلة ومختبرات، يبلغ 1250 دولارًا، بسعر (250 ريالًا للدولار الواحد)".
مثل هذه الرسوم الباهظة يتم دفعها من قبل الطلاب الملتحقين، في الوقت الذي لا توجد بنية تحتية تعليمية حقيقيّة، ولا كادر تعليميّ يعوّل عليه، كما لا توجد معامل ولا أجهزة تطبيق، والأهم من ذلك لا توجد مطلقًا ميزانية تشغيلية يمكنها أن توفر بيئة تعليمية مناسبة، وتضمن استمرارية العملية التعليمية لأعوام قادمة.
أخيرًا، فإنّ افتتاح جامعة جديدة تفتقر لأبسط المقومات والإمكانيات الضرورية، لا يعني ذلك بالضرورة النهوض بعملية التعليم الجامعي أو خدمة أبناء المنطقة، ما لم تتوفر الأسس والمعايير التي تتطلبها أيُّ منشأة جامعية في العالم، عدا ذلك فإنّ ما يتم العمل به ليس إلا شكلًا من أشكال العبث بالتعليم الجامعي المتواصل منذ ثمانية أعوام، ويبقى السؤال: إذا ما كانت جامعة صنعاء "الجامعة الأولى في اليمن"، قد وصل فيها التعليم إلى مستوى متدنٍّ يندى له الجبين، فهل يعقل أنّ افتتاح جامعة جديدة ستكون في مستوى أفضل من مستوى الجامعة الأمّ؟ وكما يقول المثل الشعبي: "إذا الألم في الرأس، أين عاد العافية؟".