محاولة أسرة أو مواطن الوصول من مدينة قعطبة إلى قرية ريفية، في عزلة الأعشور مثلاً أو إحدى قرى غرب عزلة بلاد اليوبي، يحتاج إلى نحو 17 ساعة سفر كأقل تقدير، ولابد من التنقل والمرور عبر خمس إلى ست محافظات، مع أن المسافة قبل قطع الطرق لا تتجاوز نصف ساعة كأقصى حد، ناهيك عن تكلفة السفر المادية التي قد تصل إلى 100 ألف ريال، فيما كانت تكلفة السفر لا تتجاوز الألف ريال فقط".
هكذا عبثت الحرب الدائرة في اليمن منذ أكثر من سنوات كثيراً بمحافظة الضالع، وأعادت تطورات السنوات الأخيرة، الشكل الجغرافي للمحافظة إلى زمن التشطير، والتي كانت فيه الضالع عبارة عن مديريات موزعة جغرافياً وإدارياً على محافظات أخرى مجاورة.
ورغم تحول مساحة كبيرة من جغرافيا المحافظة إلى جبهات صراع منذ 2015، إلا أن معاناة الأهالي بدأت أكثر حدةً وقساوة، في أخر ثلاث سنوات، الذي شهدت فيه المحافظة تغيرات ميدانية في مستوى الحرب، أثرت سلباً على حياة الأهالي بشكل كبير، وفاقمت معاناتهم على مختلف الأصعدة.
معاناة قاسية في التنقل
من ذلك قطع خطوط وطرقات التنقل الرئيسية بين مناطق المحافظة، ما عزل مناطق ومديريات المحافظة عن بعضها البعض، وحوّلها شكلياً إلى محافظتين منفصلتين ضمن جغرافيا محافظة واحدة، إضافة إلى تلغيم هذه الطرقات وتفخيخها بالمتفجرات من قبل جماعة أنصارالله- (الحوثيين)، تحت مبرر عرقلة استخدامها من قبل الطرف الأخر المتمثل بقوات الحكومة المعترف بها دولياً و"المقاومة الشعبية" والتسلل عبرها.
ساهم قطع خطوط التنقل بمحافظة الضالع في ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومواد البناء والكهرباء بصورة قياسية، وذلك بسبب طول الطرق البديلة التي تسلكها شاحنات نقل البضائع التجارية، إذ أنه لا سبيل أمام التجار إلا أن يرفعوا أسعار هذه البضائع على حساب المواطن
ويصف مواطنون أهوال التنقل على هذه الطرقات الخطرة والوعرة، "عذاب العبور"، إذ يتطلب الأمر معاناة كبيرة وشاقة للانتقال من منطقة لأخرى، كما هو حال المواطن محمد صالح من سكان منطقة دمت، ومعاناته في الوصول إلى منطقة مريس المجاورة بعد قطع الطرقات الرئيسية وكذلك الفرعية التي استحدثها المواطنين كطرق بديلة للتنقل بين مناطق المحافظة، ويزيد الأمر تعقيداً ومشقة للنساء والأطفال.
ويشير لـ"خيوط"، إلى أنه بعد قطع الطرقات الرئيسية من قبل أطراف الصراع، أخذ المواطنون يسلكون طرق فرعية ولكنها كانت وعرة تمر عبر شعاب ومنحدرات جبلية، مشياً على الأقدام لعدة ساعات.
ويقول هذا المواطن إن المئات من المواطنين المدنيين يخاطرون بحياتهم بشكل يومي من أجل العبور عبر هذه الطرق شديدة الوعورة، بينهم نساء وحوامل وأطفال وكبار سن ومرضى، بسبب قيام أطراف الصراع بقطع الطرقات الرئيسية الآمنة، وهرباً من تكاليف النقل الباهظة التي قد تكلف عملية نقل أسرة واحدة عشرات الآلاف لاسيما في ظل أزمة المشتقات النفطية وطول المسافة".
وتساءل في ختام حديثه: "ألا يوجد عقلاء يشعرون بمعاناة المواطن؟ هل بقي من يشعر بحال هذا المواطن المسكين؟".
عقاب جماعي
بعد مرور ثلاث سنوات من عملية قطع الخطوط الرئيسية والطرقات الفرعية البديلة ومنع حركة التنقل بين مناطق محافظة الضالع المنقسمة بين طرفي الصراع، لايزال أهالي المحافظة في انتظار أية مبادرة محلية أو أممية، تسهم في إعادة فتح الخطوط والسماح بحركة التنقل، وإزالة حواجز القطيعة التي سببتها الحرب دون مراعاة لأواصر العلاقات الاجتماعية المترابطة بين الاهالي، بالإضافة إلى مصالحهم الزراعية والتجارية والاقتصادية المشتركة، والأهم من ذلك حق الناس في العيش بطرق سليمة وآمنة.
يصف الإعلامي علي محسن عميران في حديثة لـ"خيوط"، عملية قطع خطوط التنقل بين مناطق محافظة الضالع بالعقاب الجماعي لسكان وأهالي المحافظة، الذي ضاعف مشقة العيش دون مراعاة أدنى الحقوق التي كفلها الأعراف والقوانين المحلية والدولية.
يقول عميران إن قطع الخطوط الرئيسية لا يعني فقط حرمان أهالي المحافظة من التنقل، بل تعطيل حياة المواطنين في جوانب عدة، منها على سبيل المثال عزوف الكثير من الطلاب عن التعليم الجامعي لاسيما في مناطق المحافظة الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
كانت كلية التربية في مدينة الضالع تستقبل سنوياً عشرات الطلاب من مختلف مديريات المحافظة الشمالية مثل مديريات دمت وجبن والحشا، ولكن عند انقطاع الخط ومنع حركة التنقل، أصبح الالتحاق بكلية التربية من نصيب الطلاب الذين تخضع مناطقهم لسيطرة المجلس الانتقالي والحكومة المعترف بها دوليًا.
عذاب صارخ
ساهم قطع خطوط التنقل بمحافظة الضالع في ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومواد البناء والكهرباء بصورة قياسية، وذلك بسبب طول الطرق البديلة التي تسلكها شاحنات نقل البضائع التجارية، إذ أنه لا سبيل أمام التجار إلا أن يرفعوا أسعار هذه البضائع على حساب المواطن.
ويشير عميران إلى أن "المواطن في مدينة قعطبة أصبح يرى السفر إلى عدن العاصمة المؤقتة للحكومة المعترف بها دوليًا أهون وأقرب من السفر إلى مدينة دمت رغم أن الأخيرة لا تبعد عن مدينة قعطبة سوى كيلومترات معدودة، وكذلك حال المواطن في مدينة دمت، الذي بات يرى أن السفر إلى صنعاء أقرب إليه بكثير من الوصول إلى مدينة قعطبة المجاورة".
ويشرح عميران أن التنقل بين مناطق محافظة الضالع أصبح يستغرق 24 ساعة كاملة، حيث إن المسافر يمر عبر خمس محافظات للوصول إلى أي منطقة تخضع لطرفي الصراع في المحافظة، بتكلفة مادية كبيرة قد تتجاوز الـ 100 ألف ريال في بعض الأحيان، فضلاً عن المضايقات والعراقيل التي يواجهها المواطن عند نقاط التفتيش لاسيما في مناطق سيطرة الحوثيين الذين يقومون باحتجاز المواطن المسافر وتفتيش أدق الخصوصيات التي بحوزته قبل أن يسمحوا له بمواصلة السفر".
ويؤكد عميران أن قطع خطوط التنقل يتشابه إلى حد كبير، بقيام سلطة صنعاء بمنع تداول العملة النقدية الجديدة في مناطق سيطرتهم، وهذا هو الأخر شكل قطيعة في الجانب الاقتصادي، وأضر كثيراً بحياة الأهالي، إذ أن سعر رسوم الحوالة بين مناطق طرفي الصراع في المحافظة يصل إلى نصف المبلغ المحول.
وفي سياق متصل، يؤكد الصحفي صالح المنصوب لـ"خيوط"، أن قطع الطرقات يعد أشد أنواع العذاب الذي يواجه الأهالي في محافظة الضالع"، مضيفاً: "نشعر وكأننا نعيش في بلد آخر".
ويصف المنصوب قطع الطرقات بـ"الانتهاك الصارخ لحرية حقوق الإنسان التي تمثل حرية التنقل إحدى هذه الحقوق الأساسية".
الصحفي المنصوب الذي يلعن الحرب، "السبب في وصولنا إلى هذا الحال الذي لا يُحتمل"- يتحدث عن معاناته بالقول : "لقد توفى والدي قبل أكثر من عام، في القرية، ولم أتمكن من المشاركة في جنازته، لكون الطريق مقطوعة ومن الصعب الوصول إلى القرية إلا عبر سفر طويل، بالإضافة إلا أنني لم أتمكن من المشاركة في حفل مراسيم زفاف ابنتي، وحتى اليوم ما زلت أشعر بحزن كلما تذكرت هذه الأحداث التي وقعت دون مشاركتي فيها".
ما من شك في أن الحرب التي تخيم على محافظة الضالع منذ ست سنوات قد تمادت في زيادة أوجاع ومعاناة أهالي المحافظة في مختلف جوانب الحياة، إلا أن قطع الطرقات تظل هي المعاناة الأبرز، لكونها حولت المحافظة إلى مجتمع مشلول غير قادر على الحركة والتنقل.
وفي هذه الحالة تكون أطراف الصراع في محافظة الضالع، وكذلك المنظمات الحقوقية والإنسانية، أمام امتحان صعب للعمل سوياً من أجل إنقاذ أهالي المحافظة من جحيم هذه المعاناة التي عطلت حياتهم، وحولتهم إلى مجتمع أشبه ما يكونوا في مرافق احتجاز كبيرة ينتظرون فيه ذلك اليوم الذي سيُخلى سبيلهم من قيد الاحتجاز المهين.