"البردّوني" خارج خزيمة

اكتشف شكل وأبعاد المتاهة التي نتخبّط في دهاليزها
رامز مصطفى
October 24, 2024

"البردّوني" خارج خزيمة

اكتشف شكل وأبعاد المتاهة التي نتخبّط في دهاليزها
رامز مصطفى
October 24, 2024
الشاعر والأديب عبدالله البردوني- الصورة لـ : عبدالرحمن الغابري - خيوط

حينما أقرأ أعمال "عبدالله البردّوني" الشعرية، وأعمال "محمد عبدالولي" السردية، أجد فيها لسان حال وتعبير عن اللحظة الراهنة التي نحياها، كأنهما معنا ويكتبان ما نعايشه ونعانيه؛ مبدعان يمنيان استثنائيّان أنجزا أدبًا عابرًا للزمن، فيه تشريح للواقع اليمني وتشخيص لمشكلاته الكبرى، وهذا المنجز لم يأتِ إلا لتمكنهما من الغوص في أغوار الواقع ومقدرتهما الفائقة في فهم التركيبة الذهنية والنفسية للإنسان اليمني، وتمظهراتها في السلوكيات والممارسات اليومية.

تَمكَّنَ مبدعَا اليمن الكبيران، من الإدراك العميق لطبيعة البيئة اليمنية، بما فيها من مشكلات وقيود، تُكبّل اليمن، وتُعيقها عن النهوض باتجاه المستقبل والانطلاق نحو الواقع المأمول. هذه الأمراض السياسية والاجتماعية المُزمنة والمُعقّدة، والتي تتداخل في بعضها، هي من تُحيّد عوامل قوة اليمن وتُجمّد إمكانياتها، ليَنتُجَ لنا هذا المشهد الذي نحياه اليوم، وهذه الحلقة المُفرغة والدوامة المأساوية، التي لم نبارحها منذ زمن طويل، وما زالت تدور وتبتلع كل محاولة للانعتاق والتغيير.

سعى لتثقيف الناس

المُتتبع لتفاصيل حياة شاعرنا العظيم، عبدالله البردوني، ومنجزه الإبداعي والفكري، يدرك أنه كان مشغولًا -بصدق- بالهموم الجمعية والقضايا الوطنية، كان منهمكًا فيها تمامًا، لدرجة إنكار الذات والزهد في الحياة، كان يستشعر المعاناة التي تخنق المجتمع، والمخاطر المُحدِقة بالبلاد، والانتكاسات التي صاحبت تحولاتها؛ وكأيِّ ابنٍ بارٍّ ترقد أمه في العناية المركزة، في لحظة حرجة تضغط على الأعصاب وتستنفر القلب، عاش "البردوني" كذلك، وعمل بمنتهى الجدية لتقديم ما يستطيع لتنوير المجتمع، وخصص جزءًا من دخله، دعمًا لطباعة كتبه وإصدار طبعات جديدة منها وإتاحتها بثمن زهيد، سعى لتثقيف الناس، وكان هذا المكسب الذي يتوق إليه.؛ آمن الرجل بمشروعه ومضى فيه حتى النهاية، آمن بفكرةٍ أراد لها أن تتحقق، آمن بوطنٍ أراد له أن يكون، على الضد من شكل الوطن الماثل أمامنا: "نبتني لليمن المنشود مِن سهدنا جسرًا وندعوهُ: تعال".

أحاول أن أُحيطَ بكل ما جاء به "البردّوني" لكن نظري أقصر، واستيعابي يعجز عن مجاراته. وهو من جهته يجيد -إجادةً لا نظير لها- قراءتي وسبر أغواري، بعينين فاحصتين، تجيدان قراءة ما هو ماثل أمامهما وما وراءهما، تتمتعان بسُلطةِ نظرٍ على محيطهما الزماني والمكاني، وسُلطةِ نظرٍ عابرة باتجاه كل الأزمنة والأمكنة.

هل يمكن ابتكار أو ارتجال طريقة جديدة في الكتابة التي تقرأ الشعر والأدب، خارج إطار الدراسات الأكاديمية المُتخصصة، المُحمَّلة بالمصطلحات، وتميل للتعقيد، ولا يَطَّلع عليها سوى عددٌ قليل من القراء النخبويين؟

التّوغُّل عميقًا في عالم "البردّوني"، لاقتطاف أكبر قدر من معانيه، يتطلبُ قارئا يمتلك ثروة لغوية وتاريخية ومعرفية، يستطيع من خلالها الحصول على محصول إبداع "البردّوني"، وما عَبّرَ عنه وما قَصَدَهُ وما أشارَ إليه. وحريٌّ بالناقد والأكاديميّ اليمنيّ المُشتغل في حقل الأدب، أن يُعيد التذكير بقصائد البردوني ويُقدّم قراءات لها، فيما تناولته من قضايا وما تحمله من معانٍ وقيمةٍ إبداعية. في هذا السياق، يُراودني سؤال مفاده: هل يمكن ابتكار أو ارتجال طريقة جديدة في الكتابة التي تقرأ الشعر والأدب، خارج إطار الدراسات الأكاديمية المُتخصصة، المُحمَّلة بالمصطلحات، وتميل للتعقيد، ولا يَطَّلع عليها سوى عدد قليل من القراء النخبويين؟ هل من طريقة يُمكن فيها شرح وتفسير الإبداع الأدبي بلُغةٍ بسيطة تصل إلى جمهور أكبر، وتستفيد من وسائل وتقنيات العصر، بِنَشرِها وتداولها في مواقع التواصل والمواقع الإلكترونية، لتحقق وصولًا أكبر إلى العامة. أعتقد أننا جميعًا بحاجةٍ لتذوق وفهم أكبر لما جاء به البردوني، لا سيما الجيل الشاب، في زمن الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي.

 قصائد تلتصق بالأرواح

من حقنا -اليمنيين- ومن حق "البردوني" علينا، أن نردّد قصائده في كل وقت وحين، أن نسمعها من طوابير الصباح ومن محطات الإذاعة وفي مواقع العالم الافتراضي، أن نقرأها في المناهج المدرسية وجدران الشوارع وعند مداخل المدن، من حقنا أن نفهم معناها ونعرفها أكثر، هذه قصائد تحيا معنا، في تفاصيل حياتنا اليومية، قصائد تمشي في الشارع، قصائد تلتصق بالأرواح وتجري في شرايين القلوب، قصائد تمتزج بدموع وتقرقر مع مِعَد فارغة؛ قصائد تحتضن اليمن ,وتهديها كطفل، وقصائد تمد أيديها لليمن "الأم"، تريد الالتجاء إلى حضنها، بحثا عن الأمان؛ وأين سنجد الأمان إن لم يكن في حضن الأم الدافئ؟

في صبيحة الثلاثين من أغسطس 1999، ذهبَ جسده لكي يستريح، ذهب ليغفو بعيدًا عن الضجيج والخواء، لم يشأ أن يلج من بوابة القرن الحادي والعشرين، وكأنه استشعر الهاوية التي يتجه نحوها كل شيء؛ لكنه لم يذهب لنومه المؤقت، إلا وقد بذل كل حواسه وسكب بصيرته، فيما قدّمَهُ من إبداع وجهد فكري متعدد، تاركًا لنا خلاصة روحه التي قطّرها قطرة قطرة، في الأحرف التي قال عنها: "ضيّعتُ فيها العمر كي لا تضيع".

في المكان والزمان اللذين وجد نفسه فيهما، اكتشف شكل وأبعاد المتاهة التي نتخبّط في دهاليزها، ووثّقها على الورق، مُحدّدًا ما اهتدى إليه من مسار للخروج منها، عبّد لنا الطريق، ووضعَ حجر الأساس لمدينة الغد.

ذهبَ ليحظى بالهدوء والراحة، هكذا قرر "قلبه" صبيحة الثلاثين من أغسطس 99، قلبه المُتشبّع باليمن، المعجون من ترابها، مستودع أزمانها، وحمضها النووي؛ القلب الذي احتوى حياة شعب بأكمله: "رأيتُ فيكَ بلادي كلّها اجتمعت، كيف التقى التسعة المليون في جسدِ؟".

في اللحظة التي وصل فيها "البردّوني/ الجسد" إلى "خزيمة"، كان "البردوني/ الروح"، مُبتسمًا يُحلِّق في المكان، نَظَرَ للجسد لحظة إدخاله بين التراب، وألقى عليه تحية وداع، وتحية تقدير للجهود التي بذلها؛ ثم نَظَرَ باتجاه الجمع الذي أهال التراب على مرقد الجسد، أرادَ "البردوني/ الروح" أن يحتضنهم ويمسح دمعة كل واحد منهم، ويقول لهم: ما زال المشوار في بدايته، وسأكون معكم، سنتحدث، ونحزن ونضحك ونغضب سويًّا؛ ولم يكن هؤلاء الذين حملوا جسده إلى "خزيمة"، الوحيدين الذين تحقق لهم الوعد "البردونيّ" باللقاء من جديد، بل وبقية اليمنيين الذين كانوا على قيد الحياة آنذاك، ويمنيين وُلدوا بعد ساعات وأيام وأشهر وسنوات، ويمنيين سيولدون في قادم الأزمان.

أنا شخصيًّا، وجدتُهُ، ورافقني كثيرًا، يكون معي وأنا أتأمل ملامح الوجوه، وحين ألمس بيديَّ تراب الأرض، وحين يلمع برق السماء ويهطل المطر وتُثمر الأرض.

عُدنا لنقطة الصفر

هو حاضر مع اليمنيين في حزنهم ولوعتهم وغربتهم، واصفًا تقلباتهم وأمزجتهم، مُعبِّرًا عن جوعهم وخوفهم وارتباكهم، وما يتعرضون له من الإخوة والأعداء؛ وجدتُهُ يلوم اليمنيين على خذلانهم لأنفسهم وتواطؤهم مع مآسيهم ونكباتهم، ورضوخهم للظلم ولمستقبل محكوم عليه بالضياع؛ وجدتُهُ يطلق ذخيرة كلماته في وجوه الطغاة والقتلة والجلادين، ويهزأ بالمخبرين، ويُلقي القبض على اللصوص والخونة؛ كان يتقدّم أمامي ثائرًا متمردًا، هو الذي أدرك جيدًا أن اختلال واعتلال وفساد الواقع لن يُعالجَ بثورةٍ واحدة، بل يحتاجُ ألفَ ثورة: "صنعاءُ، يا أختَ القبورِ، ثوري فإنكِ لم تثوري، حاولتِ أن تتقيئي في ليلةٍ عفن العصورِ؟!".

ماذا لو قام جسد البردوني من منامه، وظَهَرَ أمامنا وهو يمشي راجلًا، يتلهّف لرؤية وطنه الذي حلم به، وأسئلة مَلأى تتقافز في رأسه عن البلاد والناس؛ كيف يمكن أن نحكي له ما حدث، وما أصبحنا وأمسينا فيه من جحيمٍ لا نهائي.

هو من فهّمني وواساني وضمّد جراح روحي وأنار فهمي، ومشى معي الطريق المُظلم، مؤنسا ورفيقًا.

بفعلِ ما تَعرَّضَتْ له اليمن، خلال الأعوام الماضية، كنتُ أسألُ نفسي من وقتٍ لآخر: ما الذي سيقوله الأدباء اليمنيون، رموز الثورة والتنوير، أعلام الإبداع والفكر والتحديث، الذين ناضلوا طويلًا -خلال القرن الماضي- لأجل حرية الإنسان وتحرير البلد من قبضة الاستبداد والاستعمار والانقسام؛ كانوا يَحْيَوْنَ بأحلامٍ كبرى: بشكلٍ ومعنى جديدين للوطن، ومُجتمعٍ يتحرر من الجهل والتخلف والفقر والمرض، ويقضي على الظواهر السلبية التي تُعيق التّقدُّم والتنمية. ما الذي سيشعرون به ويقولونه إذا عادوا للحياة، ووجدوا ما نحنُ فيه من سُقوطٍ مُرعبٍ في أعماقٍ سحيقةٍ من الظلام، وارتداد تاريخي لا معقول؟ كيف سنخبرهم بما حدث، ونصارحهم بأن كل النضالات والتضحيات والجهود العظيمة باتت هباءً منثورًا، وأننا أضعنا كل شيءٍ وعُدنا لنقطة الصفر، وأننا ضائعون وعاجزون، ولم نَعُدْ نعرف شيئًا. يا للهول!

في 2024، ماذا لو قام جسد "البردوني" من منامه، وظَهَرَ أمامنا وهو يمشي راجلًا، يتلهّف لرؤية وطنه الذي حلم به، ويتعطّش للقاء أصدقائه ومحبيه، وأسئلة ملأي تتقافز في رأسه عن البلاد والناس؛ كيف يمكن أن نحكي له ما حدث، وما أصبحنا وأمسينا فيه من جحيمٍ لا نهائي؟ هل سيصيح في وجوهنا احتجاجًا وتكذيبًا؟ هل ستنهار أعصابه وينفجر قولونه؟ هل سيعتزل الكلام والشعر والكتابة؟ أو سيكتب قصائد جديدة يعترض فيها ويهجو كل شيء ويُؤخَذُ بعدها إلى السجن؟ أو سيتقدم بطلب لجوء لإحدى الدول الإسكندنافية؟

إنّ المصائر التي آلت إليها اليمن، تجعلنا نعيد النظر في معنى وجدوى أن يكونَ المرءُ شاعرا فذًّا ومبدعًا عظيمًا يكُرّس حياته لأجل قضيةٍ وطنيةٍ ويُقدّم كل جهده في سبيلها، ويحيا حياة الزهد والتّقشُّف، متعاليًا على التفكير بالمكاسب والمصالح؛ وهنا أُذكِّرُ بأن البردّونيّ كان يخصص جزءًا أساسيًّا من دخله المادي، دعمًا لطباعةِ كتبه، لتوفيرِ الكتب للناس بأسعارٍ زهيدة، ليصبح الكتاب في متناول الجميع، أراد أن يضيء العقول ويُنمّي معرفتها وفهمها، أراد تعزيز القيم الوطنية والإنسانية وإعلاء الحرية والكرامة والعدالة، وأراد أن يُسهم بمدِّ الجسور إلى المستقبل والتطور الجمعي والبناء، ثم ماذا؟ من الذي يقرأ في اليمن؟ كم عدد من يقرؤون؟ وما هو تأثيرهم؟ الواقع يقول لنا: لا صوتَ يعلو فوق صوت الحرب، لا يزداد إلا الخراب، ولا تكريس إلا للتخلف والاستبداد.

هُنا يصبح النضال بالكلمة فعلًا عدميًّا، لا قيمة له ولا أثر، ويظل الواقع يدور في دوامته مثل جَمَلٍ في مَعْصَرة، وتذهب كل التوجهات والجهود الإيجابية أدراج الرياح.

التأمل في حال مثل هذا، يجعلنا نُفكّر بأن الأديب والمثقف الذي يناضل في اليمن لأجل القضايا الوطنية الكبرى، هو إنسان اتخذ قرارًا بالانتحار، وكأنه يُقدّم حياته قربانا للمستحيل الذي لا يمكن أن يتحقق، أبدًا.

تقديم قربان للمستحيل

التأمل في حال مثل هذا، يجعلنا نُفكّر بأن الأديب والمثقف الذي يناضل في اليمن لأجل القضايا الوطنية الكبرى، هو إنسان اتخذ قرارًا بالانتحار، وكأنه يُقدّم حياته قربانا للمستحيل الذي لا يمكن أن يتحقق، أبدًا.

إلا أن أصحاب هذه الأرواح، أصحاب هذه النفوس والقلوب الممتلئة نبلًا وتساميًا وتضحية، الذين يفيض وجودهم بالمعاني العظيمة، يدركون جيدًا أن الطريق الذي قرروا المُضي فيه، لا ضمانات له، وأن جهودهم قد لا تصل إلى نتيجة، غير أنهم يستمرون في هذا الطريق، ناذرين حياتهم لأهدافٍ عليا، كأنبياء يقومون بما عليهم لإيصال الرسالة التي يحملونها ولا شأن لهم بعد ذلك؛ إنهم يبذلون كل ما في قلوبهم وأرواحهم من صِدق ونُبل، ويمضون؛ يرسمون لنا طريقا لحياة أفضل، ويتركون إرثًا يقف في وجه الزمان، ويصبح شاهدًا على أرواح جعلت هذا الوجود عظيمًا، يصبح للدهشة تعريفٌ بما أنجزوه، ويصبح السمو الإنساني حقيقة لأنهم جسّدوه، ويصبح الخلود إبداعهم الذي يظل يعلِّم الأجيال ويلهمها، على طريق الحياة والحرية.

في 2024، ما الذي سيقوله "البردّونيّ" إذا قام جسده من منامه؟

الحقيقة، هو معنا كل يوم، خارج خزيمة؛ يقول لنا، ويلامس حواسنا ومشاعرنا وأفهامنا، يتضامن معنا، ويرفع صوته مُحفِّزًا لنا. بما قاله، ازدادت قدرتي على مواصلة الحياة اليمنية، رمى لي بحبلِ أملٍ أتمسكُ به لأستمر، ومَدَّني بطاقةٍ لأقاومَ كل هذه التداعيات والانهيارات.

"يا بن أرضي، لم تَغِبْ عن صدرها، بل تَحوّلتَ جذورًا لامتدادي"، بمثل (البردوني العظيم) تستمرُّ الأوطانُ في الوجود، تُصبِحُ عصيّةً على الاندثار، مهما تكالبتْ عليها الأيام، وتقلّبتْ عليها الأحوال، وعصفتْ بها الأهوال.

* الأبيات الواردة بين الأقواس، هي اقتباسات من قصائد شاعرنا العظيم "عبدالله البردّوني".

•••
رامز مصطفى

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English