شكَّل التراث اليمني الغنائي، ألحانًا وكلماتٍ، كنزًا ثمينًا لفنّاني الجزيرة العربية المبتدئين والمحترفين على حدٍّ سواء، يغترفون منه بكل قوة، غير أنّ اغترافهم هذا لم يكن منضبطًا كله، بل حاد معظمه عن الاغتراف الأمين الذي يعترف للأصل بأصالته، وينسب الحق إلى أهله، إذ سطا كثيرٌ منهم على هذا التراث ونسبوه إلى أنفسهم تارة، وإلى بلدانهم تارة أخرى، وإلى كيان مجهول (تراث خليجي) تارات أخرى.
لقد مثّل السطو على التراث الفنّي اليمنيّ من قِبل معظم فناني الجزيرة العربية ظاهرة لافتة، وقد أسهم في استشراء هذه الظاهرة -منذ عقدين من الزمن- الصمت والتجاهل واللامبالاة من قِبل الدولة التي لم يحدث أن تدخلت بأيّ شكلٍ من الأشكال؛ للحدّ من هذه الظواهر التي أبرزت فنّانين كُثر ودفعتهم إلى دوائر الشهرة على حساب تراث بلدها. فضلًا عن أنّ الدولة لم تسعَ في أيّ لحظة من اللحظات إلى توثيق أو أرشفة هذا التراث، مثله مثل غيره من أصناف التراث المستباح، وأغنية (يا حادي العيس) واحدة من الأغاني التي تم السطو عليها، لحنًا وكلمات، مع تعديلات طفيفة في مطلعها.
كلمات أغنية (يا حادي العيس) كتبها الشاعر عبدالله مقادح، وهو من أبناء محافظة أبين، قبل أربعين عامًا، ولحّنها وغنّاها لأول مرة الفنان محمد علي ميسري، وأحبّها اليمنيون، وتغنّوا بها؛ لِمَا في كلماتها من شجن وحنين، ولما في صوت مؤدّيها من نبرة حزن وامتداد وخفة، ثم صارت جزءًا من هُوية هؤلاء الناس الموسيقية، وجزءًا من تراث البلد كله، وهو تراث مهدور بامتياز.
إنّ غياب الدور المحوري للجهات المختصة قد لعب دورًا كبيرًا في نهب تراثنا -وما أكثره- من فنّاني الجزيرة العربية، إلّا ما ندر، ولعل أجمل ما غنّاه فنانو الجزيرة يعود إلى التراث اليمني، ويمثّل جوهره ومصدر الجمال فيه، غير أنّ ثمة تراثًا ما يزال مغمورًا.
ومقادح الشاعرُ الفنان الإنسان -كما يشير غلام علي، في مقالٍ له في صحيفة الأيام بتاريخ 19 مارس 2018م- قد عانى كثيرًا من التهميش وهَضْمِ الحقوق؛ فهو بحسبه: فنان قدير، شاعر وملحن ومطرب، ومدير فرقة الفنون الشعبية، وراتبه لا يتجاوز 24 ألف ريال، وأغانيه منهوبة. وهو ما يؤكّد الظلم المركب الواقع على الفنّان مقادح، بوصفه نموذجًا للشعراء والفنّانين والملحّنين اليمنيين عمومًا؛ الظلم في الحقوق، وفي الصمت تجاه نهب نتاجاتهم، كما يشير إلى أنّ هذا النتاج الضخم والساحر نتاج يتجاوز المصاعب والمعيقات، وأنّ الفنّان اليمني منتِج برغم كلّ ما يحيط به من معيقات وأسى.
لقد أعجب الفنان (خالد الملا) في حينه بأغنية مقادح (يا حادي العيس)، وحرَّف بعض الكلمات في مطلعها، فبعد أن كانت في الأصل:
"شي معك لي أخبار
قل لي وا حادي العيس
لا تخيب ظنوني
كيف شفت المكلا
والحبايب في الديس
عاد شي يذكروني"
حرَّفها الملا لتغدو:
"ما معاكم خبر زين
يا رسول السلامة
لا تخيب ظنوني
بسألك عن البحرين
كيف أهل المنامة
عادهم يذكروني"
وهذا السطو لا يدلّ على احتراف، بقدر ما يدل على أمرين؛ الأول: الإعجاب بهذا التراث، فلا يمكن لأحد أن يسرق -كما يقال- إلّا إذا كان مُعجبًا أو محتاجًا، والثاني: الحاجة، إذ يبدو أنّ الملا -كغيره- لديه المنزعان معًا (الإعجاب والحاجة)، أي إنّ الملا كغيره لا يمتلك رصيدًا تراثيًّا بهذا الحجم والجودة والأناقة؛ لذلك لجأ إلى هذا التراث فسطا عليه، وحاول -لشدة إعجابه به- نسبته إلى نفسه، وهو يدرك كل الإدراك أنّ هذا النص جزءٌ من تراث سائب، لن يدافع عنه أحد، ولن يحاول أن يستردّه، وهو ما جعله ينسبه، بكل ثقة وأريحية، إلى نفسه لحنًا ونصًّا.
بعد قرابة أربعين عامًا من كتابة نص أغنية (يا حادي العيس)، تستعيدها الذاكرة لتملأ شقوق شيءٍ من الحنين إلى المكلا والديس، وحضرموت عمومًا، وهي المدن التي تغمر الروح دومًا بِرِقَّة أهلها، وطيبتهم، وسكينتهم، وعشقهم اللامحدود للفنّ والموسيقى والطرب والحياة؛ إنّه شغفٌ لجزءٍ من الحب الذي تموضع في الذاكرة، واحتل الروح.
هؤلاء الحضارم تحديدًا، يتواجدون بكثافة في البحرين ذاتها، وفي سائر أقطار الجزيرة العربية، بل وقد يكون منهم من يسكن بجوار منزل الملا نفسه، وهو ما يطرح سؤالًا عن غياب ذلك الحضور للحضارم عن ذهن الملا، وهم الذين يدركون تفاصيل هذه الأغنية بدقة متناهية ويعشقونها، وهل وضع الملا حينها نصب عينيه إجابة عن: ماذا سيكون رد فعل الحضارم حينما يستمعون إلى هذه الأغنية المنسوبة إليه؟ ليضع نفسه -من ثَمّ- موضع اللص الذي سيتم كشف لصوصيته الفنية من محيطه الأقرب أولًا، ومن ثَمّ من أبناء اليمن الذين سيستمعون إلى هذه الأغنية.
لعله لم يتساءل أصلًا، ولم يكن يعلم أنّ هذه الأغنية تعود إلى التراث اليمني، ولربما ظنّها سائبة -وهي كذلك- فضمّها إلى أملاكه الشخصية، والفنّ السائب يُعلِّم السرقة، إنّها سرقة -وإن اعتذر الفنان عنها- لن ينساها له التاريخ الممتد، ولن تمّحي.
بعد أكثر من ثلاثين عامًا على أداء الأغنية، انفتحت على الذاكرة فانفتحت الذاكرة على مأساة تراثنا اليمني المهدور بإهمالنا وتسيّبنا، وعدم جدّيتنا في توثيقه، أو جمعه وتدوينه، وأعني هنا التراث المادي واللامادي عمومًا، إنّه تراثٌ مهدور من اليمنيين ذواتهم؛ إذ يغيب كليًّا الدور الرسمي في الجمع والتدوين والتوثيق، وكذلك يغيب الدور الفرديّ منّا؛ لأنّنا لا نتفاعل معه ولا نحاول أن نقف مع قضايا إهداره.
إنّ الفنّ اليمنيّ منذ أكثر من ثلاثين عامًا، يتعرّض للسطو والتحريف والتزييف، والبيع في مزادات العالم، والدولة تعلم ذلك، لكنّها لا تحرك ساكنًا، وهو ما يضع جملة من التساؤلات، ويوجّه الأصابع صوب هذه الدولة التي لا تبدو في موقف المتفرّج فحسب، بل في موقف المتواطئ، ولربما صانع الحدث ذاته.
إنّ غياب الدور المحوري للجهات المختصة قد لعب دورًا كبيرًا في نهب تراثنا -وما أكثره- من فنّاني الجزيرة العربية، إلّا ما ندر، ولعلّ أجمل ما غنّاه فنّانو الجزيرة يعود إلى التراث اليمني، ويمثّل جوهره ومصدر الجمال فيه، غير أنّ ثمّة تراثًا ما يزال مغمورًا، وسيأتي عليه الدور لا محالة، وهو ما يحتاج إلى وقفة جادّة من الجهات المختصة، ومن مؤسسات المجتمع المدني أيضًا التي يمكن أن يكون لها دور فاعل في ذلك.
هناك العشرات -إن لم يكن المئات- من ألحان اليمن، وكلمات أغانيه قد تمّت سرقتها وضمّها بالفعل وبالقوة إلى أملاك فنّانين ودول مجاورة بكل بساطة، بل إنّ هذه الألحان والكلمات قد شكّلت رصيدًا فنّيًّا لدول لم تكن تملك أيّ رصيد فنّي على مرّ التاريخ، وشكّلت حلقة شهرة وانتشار لفنّانين لم يكن أحد ليعرف عنهم أيّ شيء لولاها، وهي "لَعمري تلك إحدى المعجزات".