وأنت تحثّ الخطى إلى وسط مدينة سيؤون عاصمة وادي حضرموت (جنوب شرقي اليمن) لرؤية أحد أكبر المباني الطينية في العالم (قصر السلطان الكثيري أو قصر سيئون)، يشدُّ ناظريك زقاق ضيق إلى الجنوب الغربي من أيقونة المدينة؛ ممر يبلغ عرضه مترًا ونصفًا، تصطف على جانبيه الدكاكين وينتهي بانفراجة دائرية، تتشعب منها ثلاثة مخارج، ينفذ كل منها إلى سوق آخر.
هذا الممر كان اسمه سوق "قَسْبَل"، ثم أطلق عليه حديثًا اسم "سوق الحنظل". هو أحد أقدم الأسواق الشعبية بمحافظة حضرموت، وتباع فيه أنواع من المكسرات، أبرزها "الحنظل" (الزعقة) الذي تشتهر بإنتاجه مدينة سيئون، ويعتبر أحد ركائز جلسات الأُنس الحضرمية، وفاكهة الهدايا بين الناس بمعية العسل والحناء.
سوق الحنظل يشابه سوق الملح بصنعاء في أهميته، وكان سوقًا عشوائيًّا بسيطًا ليتحول اليوم إلى رئة تنفس تسوقية سياحية تجتذب سكان سيئون وضيوفها. أصبح أعجوبة بلون اللؤلؤ وعبق التاريخ الحضاري. السوق هو التحفة الاقتصادية الثانية التي تحظى بذات بصمات وحدة الموروث الثقافي في #سيئون، موئل الثقافة الحضرمية الفريدة.
يقول عاقل السوق الحاج/ صالح باصبيع في حديثه لـ"خيوط"، إن الحنظل أهم السلع التي ارتبط بها هذا السوق بشكل وثيق منذ القدم، على الرغم من احتوائه على سلع أخرى مثل الحنطة، "اللخم" والسمك المجفف (الحنيذ) وبقية الكماليات ومحال بيع الجملة التي خرج منها أكبر تجار الجملة الحضارم.
وأردف: "كانت تتواجد في تفاريع السوق قديمًا ساحة تشرف على عدد من الآبار، وبقربها مذابح يأخذ منها كافة المدينة لحم جمعتهم وعيدهم".
عادات متوارثة
"قسبل"، الذي يعتبر اسم عزلة في منطقة شبام بحضرموت، لم يكن اسم تاجر معروف ولا عالم ولا شيخ قبيلة ولا سلطان، ففي البحث عن سبب التسمية ترى عجيب المفارقة بين ما يحمله هذا السوق من بهجة وما تحمله دلالة التسمية؛ فحسب الباحث في التاريخ، عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف فإن سبب تسمية السوق بهذا الاسم تعود لحرب وقعت بين السلطنتين الكثيرية والقعيطية، إبان الحرب العالمية الأولى وكانت معركة صورية لتجنيبهم إعلان المواقف من الحرب العالمية، وحسب ابن عبيدالله "فالمعركة كانت شرقي (مدينة شبام) التاريخية التي كانت بخط التماس بين السلطنتين".
المباني الطينية للسوق وجدرانه أصبحت متهالكة بفعل الزمن والعوامل المناخية. الأمطار أثرت عليها كثيرًا، وهو ما دفع جهود الترميم نحو تنفيذ الصندوق الاجتماعي للتنمية في العام 2018، مشروع ترميم لـ65 محلًّا تجاريًّا، بالإضافة إلى رصف ممرات السوق وتدشينه بحلة فريدة تجذب إليه الزوار من جميع مناطق محافظة حضرموت
الدخول إلى السوق يعيدك في زيارة جديدة للتاريخ الحضرمي؛ ليس بما يتواجد في السوق من بضائع تباع وتشترى، فالتاريخ ليس حفنة حنظل ولا أوقية من اللبان ولا كيس من الحناء الحضرمي الرائع، ولكن التاريخ الحضرمي يكمن فيما يكتنف هذه البضائع من أسلوب البيع والشراء.
أمانة التجارة، بشاشة الوجه، وسماحة النفس. بذلك التعامل الذي لا تجده ظاهرًا بهذه الصورة إلا في سوق الحنظل، تعود بك الذاكرة إلى تاريخ التجار الحضارم القدامى، والذين حملوا تاريخهم ودينهم أخلاقا ومعاملة، ففتحوا بهما القلوب قبل الأراضي، وكانت لهم بهذا جولات وصولات في شرق آسيا وإفريقيا والهند، وكافة المناطق التي وصلوا إليها في هجرتهم الكبرى.
"هي عادات متوارثة من الباعة في السوق". يقول سليمان بازياد، أحد الباعة في سوق الحنظل، في حديثه لـ"خيوط"، "ستلاحظ كيف يمر الناس وسط السوق وبإمكان أي واحد منهم أن يغترف من البسطة ما تأخذه يده من حفنة حنظل دون أن يدفع سعرها، ولا تجد أي اعتراض من قبل مالك الدكان أو البسطة، بل ستجد ابتسامة عريضة من قبله تعطي إشارة للسماح والرضى وطلب البركة لتسود في محلات السوق". يبتسم سليمان وهو يخبرك بأن الباعة في هذه الدكاكين والبسطات لا ينادون الزبون عند مروره في الممر الفاصل بينها. ذلك أنهم يؤمنون، بقناعة راسخة، بأن مكان الرزق الذي وضعه الله، سيتوقف فيه الزبون للشراء.
تحديث السوق
يحدث مثل هذا السلوك التجاري عالي الرفعة، رغم أن غالبية تجار السوق يبيعون نفس الأصناف. هي روح التسامح والمباركة التي نشؤوا عليها متوارثين إياها من أسلافهم، منذ كانت حضرموت إحدى ممالك اليمن القديم الرائدة في التجارة والزراعة.
المباني الطينية للسوق وجدرانه أصبحت متهالكة بفعل الزمن والعوامل المناخية. الأمطار أثرت عليها كثيرًا، وهو ما دفع جهود الترميم نحو تنفيذ الصندوق الاجتماعي للتنمية في العام 2018، مشروع ترميم لـ65 محلًّا تجاريًّا، بالإضافة إلى رصف ممرات السوق وتدشينه بحلة فريدة تجذب إليه الزوار من جميع مناطق محافظة حضرموت، إذ ركزت عملية ترميمه على محاكاة الطراز المعماري القديم باستخدام مادة الطين والنورة واللِّبْن الطيني في البناء، كما تمت تغطية سقف السوق بأشجار الأراك وأعواد شجر السُّمُر كما كان قديمًا.