على ضفاف منطقة الأحواض- شمالي مدينة الحديدة، وأنت تمر على الطريق الرئيسي القريب من المكان، ترى الأطفال والناس والحيوانات هناك يتنزهون قرب أحواض مياه الصرف الصحي (المجاري). يتبادر إلى ذهنك سؤال: كيف يمكن أن تكون هذه المنطقة صالحة للعيش؟ غير أن ظروف الحياة هي التي أجبرت الناس العيش بجوار تلك الأحواض.
منطقة الأحواض
بجسد نصف عار يجلس سالم (40 سنة)، [والاسم مستعار بحسب طلبه] على أريكة في إحدى زوايا فناء منزله الشعبي، المصنوع من قطع الخشب والخرق البالية، منشغل في إصلاح عطل في هاتفه؛ بينما زوجته منهمكة في رش فناء المنزل الترابي بالماء. تصل جارتها، أم حسن، لتخبرهم أن أحد جيرانهم ذهبت به أسرته إلى مشافي المدينة بسبب إصابته بوباء الدفتيريا.
يعيش سالم وزوجته (45 سنة)، مع المئات من الأسر ذوي الدخل المحدود والأشد فقرًا، جوارَ أحواض مياه الصرف الصحي للمدينة، والتي تبعد عنها حوالي خمسة كيلو مترات عن المدينة. إضافة إلى ذلك توجد مصانع ليست ببعيدة عن منطقة الأحواض، ليكتمل المشهد كأسوأ مكان يعيش فيه بشر، محاطًا ببيئة شديدة التلوث.
غير بعيد عن الأحواض، كانت تحرق النفايات القادمة من الحديدة بعد نقلها من منطقة "المحرقة" والتي تحولت هي الأخرى إلى منطقة سكنية تعيش فيها أكثر من 600 أسرة، جعلت من أراضٍ كانت تحرق فيها النفايات، منازل وحارات، ولنفس الظروف التي أجبرت أسرًا كثيرة على العيش بجوار أحواض مياه الصرف الصحي. ولحسن حظ السكان إلى خط الشام، الذي يبعد كثيرًا عن المنطقة.
لماذا أنتم هنا؟
رغم أن الحديدة تعتبر من المدن غير المكلفة من حيث إيجار العقارات، إلا أن إيجارات المساكن ارتفعت فيها بصورة جنونية، خصوصًا المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا. وإلى ذلك يطحن الفقر الشديد سكان أهم مناطق الساحل الغربي، حيث جعلهم عاجزين عن دفع الإيجارات التي صاحبها ارتفاع مهول في أسعار الأراضي، كل ذلك أجبر كثيرًا من الأسر على العيش بجانب أحواض مياه الصرف الصحي (المجاري)، أو في العراء.
في رده على سبب بقائهم في المكان، يقول سالم إنه يفضل البقاء بجوار أحواض الصرف الصحي على تعسف المؤجرين، وتكبد مرارة الإيجار المرتفع للسكن. "حتى لو أنت عايش تحت ظل شجرة؛ بيتك بيتك"، يضيف سالم بحسرة كانت لتكون أكبر لو أنه لم ينقذ نفسه وعائلته في اللحظة الأخيرة.
يروي سالم لـ"خيوط"، قصةَ وصوله للسكن هنا، مختصرًا إياها في الفقرة التالية: "قررت شراء أرضية البيت هذا بـ100 ألف ريال بعدما عجزت عن تسديد الإيجار. قبل سبع سنوات استأجرت بيت في حي الزهور، بـ15 ألف ريال، وبدأ مالك البيت برفع الإيجار لما وصل إلى 25 ألف ريال. البيت اللي كنت مستأجره وصل الآن إلى 50 ألف ريال، من أين لي هذا المبلغ؟ البقاء جنب أحواض المجاري أرحم لنا من نار الإيجارات".
بيئة غير صالحة
يقول سالم، إن المنطقة لا تصلح فيها زراعة الأشجار سوى الأشجار الشوكية (أشجار البذريات كما يسمّيها سكان الحديدة)، وهي أشجار لا تزرع إلا في التربة الصحراوية. ويؤكد سالم أنهم حاولوا زراعة أشجار أخرى لكن دون جدوى، مشيرًا إلى أن بذور هذه النباتات وسيلتهم الوحيدة لمحاربة البعوض الذي يتواجد بكثرة في المنطقة، خاصة أن مداخيلهم الضئيلة لا تساعدهم على شراء وسائل مكافحة البعوض الأخرى التي يعتمد عليها سكان المدينة، مثل لفائف أدخنة مكافحة البعوض، وكريمات ذات روائح منفرة للبعوض تطلى على الأجساد، سعرها سبعون ريالًا (ما يعادل 2 سنت)، إضافة إلى الناموسيات التي ارتفع سعرها في الفترة الأخيرة.
يوضح سالم أن السكان في منطقة الأحواض لا يملكون سوى تجميع هذه البذور وإحراقها في فناء منازلهم ليلًا، حيث تنبعث منها أدخنة كثيفة تطرد البعوض أثناء اشتعالها، مستسلمين للأضرار التي قد تسببها تلك الأدخنة.
قام سالم بالحفر داخل فناء منزله من أجل الصرف الصحي، كما يفعل بقية السكان في المنطقة الملوثة، حيث يغطون حفرة الصرف الصحي (البيّارة) بأقمشة وكراتين، وهي حفرة صغيرة لا يستطيعون تعميقها ولا تغطيتها بالخرسانة. ويشير إلى أن المكان تنتشر فيه الكثير من المستنقعات جراء تصريف مياه المطابخ والاستخدام المنزلي، وهذا ما يزيد من تلوث المكان.
أما زوجة سالم، فتحاول جلب الطيور إلى فناء منزلها بنثر الحبوب وبقايا الطعام، لكي تحط في الفناء وتبعث بزقزقتها قليلًا من السعادة والسكينة في المكان، وتغطي بشاعة وبؤس الحياة في منطقة مقفرة.
مئات الأشخاص يسكنون في أكواخ، بلا ماء ولا كهرباء ولا مدرسة ولا مركز طبي، ويناشدون السلطات المحلية في الحديدة، والمنظمات الإنسانية لمساعدتهم.
مئات الأشخاص يسكنون في أكواخ، بلا ماء ولا كهرباء ولا مدرسة ولا مركز طبي، ويناشدون السلطات المحلية في الحديدة، والمنظمات الإنسانية لمساعدتهم
انعدام الخدمات
رحمة، وهي من سكان منطقة الأحواض، تقول لـ"خيوط"، إن المكان يفتقر لجميع الخدمات؛ لا مياه سوى الخزانات الموزعة في أرجاء المنطقة، وهي تابعة للمنظمات التي تقوم بتعبئتها بشكل يومي، ولولا هذه الخزانات -بحسب رحمة- لما وجد الناس الماء.
وتشير إلى أن الأطفال لا يدرسون، وأن فرصتهم الوحيدة للالتحاق بالمدرسة، هي الذهاب إلى المدينة، وذلك ما يعيق غالبية الأطفال عن مواصلة تعليمهم في المدرسة. تضيف رحمة: "أطفالنا بلا مدرسة"، مؤكدة أن قلة من الأطفال يذهبون للمدارس، وهؤلاء إما يكون لدى آبائهم دراجات نارية أو لديهم أقارب يملكون ميكروباصات، أو من تستطيع أسرهم منحهم مئتي ريال (قرابة 35 سنت) لدفعها أجرة مواصلات عبر أقرب شارع إلى المنطقة، مشيرة إلى أن باصات نقل الركاب نادرًا ما تدخل إلى منطقة الأحواض.
ويقول سالم بشأن الخدمات، إن المكان بأمس الحاجة إلى مركز صحي وصيدلية، مشيرًا إلى أن زوجته ذات ليلة كانت تعاني من ألم في بطنها، ومن أجل أن تحصل على إبرة مهدئة اضطر لقطع تلك المسافة لكي يصل للشارع، ثم انتظار سيارة أو دراجة نارية في طريقها إلى المدينة. ويضيف أنه لحسن حظه، مرت سيارة مسافرين توسل لسائقها كثيرًا فأخذه في طريقه بعد أن ضغط عليه الركاب الذين تعاطفوا مع سالم حين شرح لهم مرض زوجته. أما مشقة العودة للبيت، فلخصها بالقول: "خَلِّيها على الله بس"، ولم يبدُ راغبًا بتذكر تلك الليلة.
وعن خدمة الكهرباء في المكان، يشير سالم بإحدى يديه إلى جهة الشارع الرئيسي وهو يرتشف القهوة: "هذه المصانع فيها كهرباء وهي قريبة من المنطقة، لكن لم تصل إلينا بعد". ويضيف: "وسيلتنا الوحيدة للإنارة هي ألواح الطاقة الشمسية، وهذه ليست وسيلة كل الناس، إلا من استطاع إليها سبيلًا". ويؤكد سالم أن أغلب العائلات تستخدم مصابيح الكيروسين والشموع لعدم قدرتها على شراء ألواح الطاقة الشمسية، التي ارتفع سعرها بسبب زيادة الإقبال عليها بعد انقطاع التيار الكهربائي وارتفاع سعر تعرفة الكهرباء التجارية إلى 400 ريال للكيلو وات الواحد.
فقر ومخاوف
فقراء منطقة الأحواض ليسوا كأي فقراء، فـ"أغلب الأسر هنا تكتفي بوجبة واحدة باليوم". هذا ما قالته امرأة مسنّة رفضت ذكر اسمها وعمرها، كانت تجلس على رصيف الشارع الرئيسي القريب من المنطقة.
تقول هذه المرأة في حديثها لـ"خيوط"، إنها جاءت إلى المكان لكي تتفقد أرضية اشتراها أحد أولادها قبل 10 سنوات، كذلك لتزور أقرباء لها. وتضيف أن العائلات الساكنة في منطقة الأحواض "جائعة"، وإلا لما أتت لتعيش في هذا المكان. وتزيد قائلة: "لا بقالات ولا سوق ولا ضوء ولا ماء؛ مصدر رزق الأسرة هنا إما أنهم يعملون بدراجات نارية في المدينة، أو أعمال حرة مثل حمل البضائع أو باعة متجولين".
في الواقع، توجد في المنطقة محلات صغيرة تبيع المواد الغذائية البسيطة والخبز الذي يأتون به من المدينة. وحسب السكان، فإنهم يحصلون على مساعدات من المنظمات الإنسانية، وهذا يخفف من معاناتهم ويصبّرهم على تحمل الظروف المعيشية التي تحيط بهم.
مناشدة
وفي ختام أحاديثهم لـ"خيوط"، ناشد سالم وغيره من أهالي منطقة الأحواض، الجهات المعنية في محافظة الحديدة، لرفع أحواض الصرف الصحي وتغيير موقعها خارج المدينة، حتى يستطيعوا الحصول على حياة لائقة بالبشر، حد وصفهم. كما ناشدوا المنظمات بتقديم المساعدات الكافية لهم، ومساعدتهم بتوفير وسائل محاربة البعوض، وطالبوا المنظمات المحلية والدولية بضرورة الضغط على السلطة المحلية في المحافظة، من أجل رفع تلك الأحواض من المنطقة، إذ بلغ عددها 12 حوضًا.
كما أكد السكان مطالبتهم المنظمات الإنسانية والجهات الحكومية، بتوفير مركز طبي حتى يستطيعوا الحصول على حقهم في التطبيب، بدلًا من مشقة الذهاب إلى المدينة من أجل الحصول على "حبة مهدئ"، حد قول سالم.
تحرير "خيوط"