لم يكن الفنان أحمد بن أحمد قاسم (1938-1993)، ذلك الفتى الوسيم والأنيق، مجردًا من الموهبة الموسيقية حينما التحق بمدرسة (بازرعة)، مطلع الخمسينيات، بل كان موهوبًا ومنفتحًا على عالم الموسيقى والغناء، وذا إرادة قوية، ويحلم أحلامًا كبيرة بدافع من طاقة هذه الخصال، بأن يكون نجمًا لامعًا في سماء الأغنية اليمنية، لا نيزكًا يُضيء بسرعة ثمّ يحترق، وما أكثر النيازك في تاريخ الأغنية اليمنية في الماضي والحاضر، فمثل هؤلاء لا تحتفظ بهم السماء؛ لأنَّ طموحهم لا يتعدى أكثر من التربع على مسارح المخادر، والعزف على العود في حدود الإدراك الضيق الذي يحصر عالم العود النغمي في القدرة الطربية لهذه الأداة الموسيقية التي تكتنز بالتراكيب، والأنغام الصوتية التعبيرية، لكن الوعي القاصر عند هؤلاء العابرين في دروب الفن، جعلهم يختزلون هذه الأداة في البُعد الطربي فحسب.
وقاسم لم يكن من هؤلاء السذج، فقد كان على وعي بأهميّة هذه الأداة؛ لذا حاول بقدر ما يستطيع أن يجعل لها مكانًا خاصًّا في أغلب مقدمات أغانيه برفقة الإيقاع الذي كان بارعًا في الضرب عليه منذُ وقت مبكر، ومَكّنته هذه البراعة من أن يُولِي عنايةً خاصة بالإيقاع في أغانيه حينما عزم على التجديد، ولعلَّ المستمع المتابع لأغانيه يلفته التلوين الإيقاعي الحاضر فيها، وهذه المزيَّة وضع الفنانُ والباحث الموسيقي جابر على أحمد يده عليها، ورأى أنَّه أسهم في تجديد الأغنية اليمنية.
لا معايير تحكم الفن سوى الفن
إنَّ قاسم تمكن من أن يخلّص العود والإيقاع من دائرة الطربية المحدودة، ويُحلّق بهما، إلى حدٍّ ما، إلى فضاء التعبير المفتوح، المسكون بالمشاعر الإنسانية النبيلة. إنَّ موهبة (قاسم) تبدّت مذُ التحق بمدرسة بازرعة، ووضع العراب الموسيقي لهذه المدرسة الأستاذ (يحيى مكي) العين عليه، فاعتنى به ومدَّه، بإخلاص، بخبراته الفنية، وفي المدرسة نفسها تعرَّف على أغلب المقامات المتداولة في المشهد الغنائي في عدن التي كانت مدينة حاضنة للغناء والموسيقى، لقد أثمر الاعتناء بقاسم نتيجة لصالحه، وهي توليته قيادة الفرقة الموسيقية، فزادته هذه الولاية ثقة بقدراته الموسيقية، وتحفّز وتجرّأ بأن يخوض تجربة التلحين قبل أن يذهب إلى الدِّراسة في القاهرة. ولعلّ هذه الخطوة تدل على سيطرة قاسم على أدواته الموسيقية منذ وقت مبكر، وتمخضت التجربة عن تلحين أغنية (طيف الخيال)، وهذه التجربة لها دلالة عميقة تدل على حب قاسم للفن والشغف به، وليس الارتزاق منه وحسب، فقيمة الارتزاق في واقعنا قيمة طاغية على أغلب الفنانين، وغالبًا ما يكون على حساب التجديد والإبداع.
لقد تتلمذ (قاسم) على أيدي موسيقيين كبار من أمثال مكي، وعاشر شعراء بالقامة نفسها من أمثال لطفي أمان، ومهّدت له هذه الرفقة الفنيَّة أن يصير كبيرًا في المستقبل، ولأنَّ طموحه وتطلعه الفني لا يُحد، فهو لم يكتفِ بما حصل عليه من خبرة موسيقية في مدينة عدن، فشدّ الرحال إلى القاهرة لتلبية طموحه، والتحق بالمعهد العالي للموسيقى العربية، وهناك مُنح شهادة الدبلوم، ومكّنته هذه الدِّراسة من أن يتعرّف على الكثير من أسرار الموسيقى، وتوسّعت مداركه الفنيَّة، وأول ما عاد من القاهرة كوَّنَ الفرقة التجديدية الخاصة به، ودراسته في المعهد الموسيقيّ لم تخفف من تأثير أساليب النموذج المصري على منظومته الغنائية، بل عمّقت هذا التأثير، والسطور اللاحقة سوف تمس بعض صور هذا التأثير.
لعلّ مفهوم الفن الذي ترسخ في ذهنية (قاسم)، كان هو السبب الرئيسي في هذا الانحياز والولع بأساليب نموذج الغناء المصري، والأخذ بها عند صناعة ألحان أغانيه المعتمدة على الكلمة الشعرية الفصيحة، فمثل هذا المفهوم لا يبالي بالتراث، ويضع الفنان في مساحة حرة لا وجود فيها لقيود التراث، إذ لا معايير تحكم الفن سوى الفن ذاته، وليس أيّ شيء آخر اسمه التراث أو الموروث، والمهم بالنسبة للفنان هو خَلق التراكيب النغميَّة المؤسّسة على التناسب بين الأصوات، وعليه، لم يجد (قاسم) حرجًا من الأخذ بالنموذج المصري وأساليبه والسير على هديه، فالفنان عنده هو ذلك الذي يستطيع أن يُعبّر عن ذاته وَفقَ أيّ شكل غنائي جمالي، بصرف النَّظر عن محليّة هذا الشكل أو لا محليته، إذ لا علاقة بين الفن والهوايات المحليّة.
على الرغم من أنَّ الموسيقى فنٌّ زمنيّ ليس له أبعاد، ولكن هذا البعد يمكن أن يُفهَم داخل بنية الأغنية بوصفها كيانًا متماسكًا يتشكّل في الذاكرة من غير تجزئة، وأسلوب التلوين المقامي قاد (قاسم) إلى التحرر نسبيًّا من الطربية، وأدخله إلى الأجواء التعبيرية.
إنَّ مثل هذا المفهوم للفنّ، جعل (قاسم) ينظر بتعالٍ للتراث المحلي، وهو يشترك في هذا المفهوم للفن مع الفنان (خليل محمد خليل) الذي ينظر إلى التراث بدونية، وهذا ما جعل جابر علي أحمد يصف موقف (قاسم) من التراث بأنَّه عدمي، ولكن هذا الحكم لا يثبت عليه جابر إلى النهاية، بل يتخلّى عنه بعد أن يقرَّ بأنَّ (قاسم) تزحزح عن موقفه العدمي من التراث في وقت متأخر، حينما وجد نفسه محاصرًا بملاحظات، فراجع النظر في موقفه السلبي من التراث، واضطر إلى الأخذ بعناصر تراثية في أغانيه الشعبية التي تعتمد على المفردة العامية، وجابر يقرُّ بنفسه بأنَّ أعماله القليلة التي تضمّنت عناصر تراثية أنبأت عن مدى أهمية توجهه التجديدي الذي لا يتطابق مع مفهوم العدمية من التراث، ولعل أغنية (عدن عدن، يا ريت عدن مسير يوم) مثالٌ جيد للأغنية اليمنية الجديدة.
من مظاهر التأثر بالفن المصري
إنَّ تأثير النموذج المصري على منظومة قاسم الغنائية، تمثَّلَ في الآتي:
- أغلب الموازين التي استخدمها في أغانيه، لا تخرج عن دائرة الميزان الرباعي والثلاثي والسداسي، والموازين الرباعية بالذات لها تقسيم داخلي يشبه التقسيمات نفسها التي يجدها المستمع المحترف مشاعةً في الأغاني المصرية. ومثل هذه الطريقة في التقسيم، هي السمة الغالبة على معظم أعماله الفنية، وما هو لافتٌ في طريقة قاسم، براعته وقدرته على السيطرة على أدواته الفنية، بسبب احترافيته العالية التي مكّنته من أن يجذب مستمعيه، ويقنعهم بما يقدّم لهم، على الرغم من أنَّ مثل هذا التقسيم خارجٌ عن تقاليد الغناء اليمني، ووثيق الصلة بالنموذج المصري.
- لم يتردّد قاسم من استخدام بعض المقامات الشرقية التي لم تتعود عليها الأذن اليمنية، ومرجعية هذا الاستخدام تعود إلى تأثره بالنموذج المصري.
- لجأ قاسم إلى أسلوب التجاور النغمي، وتجلّى ذلك عنده في (أغنية عذبيني)، وسمة التجاور سمة مصرية وليست يمنية، فالغناء اليمني ينزع إلى القفزات الصوتية، وفي الموشحات اليمنية صورة واضحة لهذه القفزات الصوتية.
- انمازت ألحان أغانيه بالتلوين المقامي، وأسلوب التلوين المقامي هو أسلوب مصري. والتلوين المقامي أشبه بالتظليل في اللوحة الفنية التشكيلية، وقاسم يتقن هذا الأسلوب، إذ تتم عملية الانتقال المقامي في التلوين بطريقة سلسة لا اضطراب فيها، وجابر يرى أنَّ هذا الأسلوب يثري اللحن على المستوى الأفقي. على الرغم من أنَّ الموسيقى فنّ زمنيّ ليس له أبعاد، ولكن هذا البعد يمكن أن يُفهم داخل بنية الأغنية بوصفها كيانًا متماسكًا يتشكل في الذاكرة من غير تجزئة، وأسلوب التلوين المقامي قاد (قاسم) إلى التحرر نسبيًّا من الطربية وأدخله إلى الأجواء التعبيرية، وجابر يرى أنَّ أغنية (قمري تغنى) مثالٌ على هذه التعبيرية، فالسامع تنساب الى أذنه الجُمل الموسيقية، فيتفاعل معها وينتشي دون ملل.
واللحن في هذه الأغنية صوّر القمري وهو يصدح بالصوت المشحون بالشجن المتلازم مع ضرب حركة أرجله، وهي حالة تعبر عن حسرة الحبيب على فراق محبوبه، ومسألة التعبير في الأغنية مسألة ليست هينة، لا يتقنها إلّا من تسيد على أدواته الفنية، وجابر خص (قاسم) بهذه المزيَّة دون سواه من رموز المدرسة الثلاثية التي يمثل طرفها الأول (خليل محمد خليل)، وطرفها الآخر (محمد عبده زيدي)، وتأثير النموذج المصري على الفنان قاسم لم يكن استثناء، بل أثر على المشهد الغنائي في مدينة عدن، ففي ذلك التاريخ كان النموذج المصري حاضرًا بقوة، ليس في الغناء والموسيقى فحسب، بل وفي السينما وفي الأسطوانات الشمعية التي تباع في أسواق عدن وفي الإذاعة، وفي الصحافة والسياسة، ورغم ذلك التأثير حاول قاسم أن يتقدم خطوة لصالح تجديد الأغنية الشعبية بنكهة يمنية، وفنان بحجم أحمد قاسم كان لا يمكن أن يفوته أهميَّة العنصر الإيقاعي في التراث اليمني، وتجلَّى هذا الأمر حينما تعامل مع القصيد الغنائي المعتمد على المفردة العامية المستندة للمرجعية الشعبية المحلية الزاخرة بالإيقاعات المنتشرة في السهول اليمنية، ونجد هذا المنحى المؤسَّس على التلوين الإيقاعي حاضرًا في أغانيه (يا ريت عدن مسير يوم)، وهي أغنية يمنية جديدة، بحسب تعبير جابر، تقيّد فيها اللحن بالإيقاع البدوي، والتزم اللحن في مساره بضغوط الإيقاع، واقترب في علاقاته النغميَّة من نسيج الغناء اليمني، وهذا المنحى التجديدي عند قاسم نجده في أغنية (من العدين)، و(اليوم دائم)، و(حقول البن) للدكتور سعيد الشيباني، ومن المناسب هنا أن نلفت القارئ إلى أنَّ تلحين الأغاني المعتمدة على الكلمة الفصيحة أكثر تعقيدًا من الأغاني الشعبية؛ لأنَّ الشعر الشعبي المعتمد على المفردة العامية يساعد الملحن في صناعة اللحن، وقاسم واجه مشكلات جديَّة مع نمط التلحين الأول.
وبعد، فإنَّ هذا المقال هو نتيجة للتفاعل مع ما كتبه الناقد الموسيقيّ (جابر علي أحمد) عن مسألة إسهامه في تجديد الغناء عند (قاسم)، فهو يُعدّ من أهمّ النقّاد وألمعهم في اليمن.