رافقت الأغاني الثوريّة، الأحداثَ السياسية المُهمّة في البلدان العربيَّة، فحملت كلماتها وألحانها، حماسًا وزخمًا ثوريًّا حقيقيًّا، فكان صوت المُغني، هو الثيمة المسؤولة عن استنهاض الروح الوطنيَّة لدى المُستمع.
عبَرَت الأُغنيةُ الوطنية الحدود، وكانت قصة كل بلد، حكاية تُروى في كلّ دار، يُغنّيها الأطفال في المدارس، ويردّدها طُلَّاب الجامعات في المظاهرات، كانت قضايا الأوطان العربيَّة تحمل بُعدًا قوميًّا مُشتركًا.
عندما تقف جوليا بطرس على المسرح لتغنّي (غابت شمس الحق)، تُطالع الجماهير الحاضرة وهي تعيش الأغنية، وتستحضر الحكاية، فتصبح قضية الجنوب، قضيةَ كل الأوطان المسلوبة.
غابت شمس الحق وصار الفجر غروب
وصدر الشرق انشق، تسكّرت دروب
منرفض نحنا نموت قولوا لهن رح نبقى
أرضك والبيوت والشعب اللي عم يشقى
هو إلنا يا جنوب، يا حبيبي يا جنوب
غير أنّ المطلع على ثورات الربيع العربي، وما صاحبها من حروب، يجد أنّ النفس الثوري اختلف، واتخذ من أغاني الراب، والهيب هوب، والمقطوعات السريعة، فرصةً للتأثير في شباب الساحات والميادين.
يعيش المواطن في دول الربيع العربي الأوضاعَ المتردية نفسها؛ هي الحكومات الفاسدة تتناسخ، هي التدخلات الخارجية عينها، حتَّى إنّ هندسة واختلاق المعارك مُتشابهة، وجميعها تهدف إلى تشكيل خارطة جديدة في الدول محطّ النزاع.
ويرافق حرب الشوارع نوعٌ آخر من الغناء، ولنقُل المقطوعات القصيرة، فعندما نتحدث عن الحرب التي درات رحاها في عدن عام 2015، فإنّنا نعني المُغني الشعبي (تُمْبَاكي)، الذي كان حاضرًا الحرب، يتنقل بين اللجان الشعبيَّة التي كانت تواجه الحوثيين في المدينة.
صُوّرت مقاطع لتمباكي، وهو يغني أغنية تندرج فيما يُمكن تسميته بـ(فنون الشوارع)، حيث استطاع أن يضع بصمته في مقطوعة خاصّة به. والمميز في هذه الأغنية هو: رتم الإيقاع المنتظم، والذي يؤدّيه تمباكي بصوته، وطرافة حركاته.
انتصارات بأغنية (تمباكي)
ارتبطت أغنية (تمباكي) بمقاومة الشباب في عدن، فكانت الأغنية تعبيرًا عن حالة خاصة للشباب المدني الذي حمل السلاح لأول مرة، عندما تُركت المدينة لتواجه قدرها.
جبهة عدنية ... تُمباكي
مقاومة عدنية ... تُمباكي
بعد انتهاء المقاومة المُسلّحة، بقي تُمباكي، في الشوارع ينقل مُعاناة الناس، وفساد المسؤولين، بمَقاطعه الغنائية الساخرة.
ون تو ثري فور
ساعة لاصي، وثلاث طافي
ساعة لاصي لاصي، وثلاث طافي
والشعب يحرق يشتي مطافي
والشعب يحرق يحرق يشتي مطافي
والمسؤول طرطور على بيته ماطور
من كثر السرقة قام اشترى بابور
اقتحمت أغاني (تُمباكي) الشوارع العربية، وغزت مواقع التواصل الاجتماعي، وتناقلتها الوكالات الإخبارية التي كانت تغطي الحرب في اليمن، وكرّرها الفنّانون، والمؤثرون على مواقع التواصل الاجتماعي في داخل الوطن العربي، وخارجه. وعلى الرغم من بساطة كلمات الأغنية فإنّ انتشارها كان مدعاة للتساؤل؟
وعن تأثير الأغنية في الجمهور، أشار يُسري سلام في حديثه عن (أغاني الثورة بين الالتزام وركوب الموجة)، إلى أنّ نجاح أغنية دون سواها ليس بالضرورة، منوطًا بجودتها، "بل بمدى تعلّق مضمونها بالحدث السياسي الآني، وبما ترغب أن تسمعه شريحة من الناس في لحظة معينة ...".
كان الشارع قد تناسى (تمباكي) منذ وفاته نهاية عام 2018، غير أنّ الأحداث السياسية التي طرأت في السودان، أعادت الزخم المرتبط بزهوة الانتصار للمقاتلين والذي عبَّر عنه الجنود في الجيش السوداني بمقاطع صُوِّرت وهم يغنون أغنية (تُمباكي).
إنّ الحرب التي تشتعل في شوارع السودان، تشبه حدَّ التطابق الحربَ في اليمن، فسيناريو الحرب في اليمن، يتكرر في السودان، وكل ما مر به اليمنيّون خلال ثمانية أعوام، يرونه اليوم يتكرر في السودان.
وتناقل رواد مواقع التواصل الاجتماعي في اليمن، التعليقات المازحة حول الحرب في السودان، فأحدهم يقول على صفحته: "من فاتته الحرب في اليمن، فليتابع الإعادة في السودان"، فواقع حال الجيش السوداني مع قوات الدعم السريع، لا يبتعد عن واقع ما دار في اليمن، عندما تحوّل الجيش الذي يُقاتل الحوثيين، إلى طرف في الصراع، وشُرعن للحوثيّين، حقّهم في القتال بمباركة دوليَّة، وانهارت المؤسسة العسكرية، واستعيض عنها بالكيانات العسكرية التي تُدين بالولاء للخارج. وتُرك اليمن خارطة مفتوحة للحوثيين، وللكيانات المتنازعة داخليًّا وخارجيًّا.
اختصر السودانيّون المعركة في حدود العاصمة، ومن يُسيطر على العاصمة يُصبح المُنتصر والمُتحكم في المشهد، وهو الأمر نفسه الذي حدث عند انقلاب الحوثيين وسيطرتهم على العاصمة اليمنية صنعاء، فتساقطت المُحافظات والمُدن اليمنيَّة تباعًا. حتَّى إنّ ملامح الانتصار عبّر عنها أفرادٌ من الجيش السوداني، مُستعينين بأغنية (تُمباكي).
تبقى أغنية (تمباكي) بمثابة ذكرى لبداية الحرب المُستمرة منذ ثمانية أعوام في اليمن، والتي يبدو أنّها تُشارف على الانتهاء برسم خارطة سلام آنيَّة يلفها الغموض بين أطرافٍ تتغير مواقعهم وفق مزاج مهندسي الحرب وتُجّارها.
وهو ما يعني أنّ تدبيج انتصارات الأطراف المتصارعة في السودان بأغنية تُمباكي، ستكون بداية لتدشين حرب قد تستمر لعقد من الزمن، لو لم يتنبه سياسيّو البلد إلى حال بلدان الربيع العربي، التي غدت ساحة صراعات لمطامع خارجية تتحارب بأدواتها التي تتحكم بها في الداخل.
معالم جولة أخرى
يعيش المواطن في دول الربيع العربي الأوضاعَ المتردية نفسها؛ هي الحكومات الفاسدة تتناسخ، هي التدخلات الخارجية عينها، حتَّى إنّ هندسة واختلاق المعارك مُتشابهة، وجميعها تهدف إلى تشكيل خارطة جديدة في الدول محط النزاع، وهو الصراع العربي، الإيراني، الأمريكي، الروسي، الذي بات يُدركه المواطن في دول الربيع العربي، الذي ضاق ذرعًا بحكوماته مسلوبة الإرادة.
في تشرين الثاني من عام (2019)، اندلعت مظاهرات تشرين في العراق، مطالِبة بإسقاط الحكومة الفاسدة، وتغيير الأوضاع، فخرج الشعب العراقي في مدينة بغداد إلى الميادين، وكغيرها من الثورات، واجهتها الحكومة العراقية بالقتل والسجن، وبالقمع، ولم تتمكن الحكومة من إقناع الشارع، بالإصلاحات التي زعمت تنفيذها.
غنَّى أيمن حميد أُغنية (ذيل أعوج)، وعبَّرت كلماتها عن حال الأمة العربية التي عانت من جاثوم الحرب، ومن أدوات السلطة الفاسدة والعميلة، والتي لا تمثّل تطلعات الشعب، ولا تهتم إلَّا بتحقيق مصالحها الشخصية.
ذيل أعوج
"لا، مو من طبعي الرجعة
لا .. هي الطلعة طلعة
لا حقنا نجيبه قوة، وكل فاسد ناوين نشلعه
ملّي .. حقنا بالملّي
واللي بايكنا خلي
يكلي .. إِيش راح يسوي لمن نبقى وهو
راح يولي
خلي يلحج ربعه .. كلهم سبعة في سبعة
واحنا الما بينا رجعة والقافل بينه شيرجعه؟
يوميّة النت يكطعه
وظلينا والا نجزعه
ما نسكت باقي الصوت وغصبًا عنك راح تسمعه
يومية نزيد وما نقل
نتواجه ما نحب نختل
الحق نجيبه قوة ننزل يومية ولا نمل
حيل؟ بينا حيل ونتقدم ولطلقاته ما نهتم
مسوي روحه زلمة وهو ديواجهنا ملثم
حيل؟ أي بينا حيل
ويل؟ شفنا صبح وليل
حيل ضايق من لمتنا وحقه يضوج لأنه ذيل
ذيل! ينطي بناسه وأهله
ذيل! أعوج يا هو يعدله؟".
يبقى صوت الحرب طاغيًا، ويتفرد صوت المدفع، والصاروخ، ليحدّدَ معالم السلام في اليمن بلدان الربيع العربي. تثمر البنادق على أجساد الأبرياء، تنتظر جولة أُخرى، تتبعثر الأُغنية في الشارع، والزقاق، تُنسى هناك بين كومة الجراح، تنتظر أن يلتئم الصوت، لعله يحبو ليقف ويُشكّل ثورة.