إلى ما قبل إصدار هذا الكتاب (معالم عدن)، لم أعرف أن جمال محمد أحمد دين مؤلف الكتاب، منشغل أو مهتم بالثقافة والأدب اهتمامًا عميقًا إلا اللمم، فهو إداري في قيادة مصافي عدن سابقًا، وتحمل مسؤوليات فيها، ومن ضمنها -كما أعتقد- مديرًا لإحدى الإدارات بالمصفاة.
لم أدرك أن جمال الدين، ذلك الشاب الهادئ الصوت والرزين الفعل، سيكون على مرمى حجر من الدخول في المدينة الفاضلة للثقافة والأدب، إلا حين رمى إليّ عبر الواتس نماذج من صفحات قال عنها إنها كتاب ألفه، طالبًا مني إبداء رأي أو أية ملاحظات حول مسودة مؤلفه.
صحيح أنني تحمست لصياغة بعض ملاحظات فنية وهامشية على بعض ما رأيت استحقاق الملاحظات عليه، لكنني وقتها ولانشغالي المهني يومذاك في قيادة الصحيفة التي ترأست تحريرها، أهملت إكمال الملاحظات، بل وأهملت إرسال ما توفر منها لدي إلى المؤلف جمال، وهذه عادة سيئة أقترفها ودائمًا تجعلني في حالة اندماج كامل مع العمل إلى حد الإدمان، يضاف إليها مشاغل الحياة اليومية، تجعل من كل وارد من عدا هذين الانشغالين في سلة إهمال الذاكرة.
وحسنًا فعلت أنني لم أرسل أية ملاحظات على المسودة، ففي حين أعتقد أن جمال يحسن الظن بي في تشجعيه وفي إطرائه على توجه فريد يرى أنه سيدهشني به، فإن التفضل بإبداء ملاحظات على فعل اجتهادي من ابن خالي جمال، بدا لي بعد حين أنه استعلاء مني على مجهود ثابر فيه المؤلف واجتهد وتحمل مشقة البحث المعلوماتي فيه عن كل مَعْلَم من معالم عدن، قدّمه في الكتاب، وسيبدو تدخلي في أي نقطة في المسودة انتقاصًا من قيمة العمل ومشروع التأليف.
عن مؤلف الكتاب
جمال محمد أحمد دين أو كما اختصر اسمه جمال الدين محمد، هو الابن السابع أو الثامن من أحد عشر ابن وابنة، أكبرهم القاص الراحل كمال الدين محمد، وهم أولاد خالي محمد أحمد دين.
في هذه العائلة كانت الهيمنة الثقافية والأدبية والإبداعية طاغية في كل أركان البيت، فالكتب المرمية هنا وهناك، والصحف المتداولة بصورة يومية على المكتب والسرر والأرض وكل منتوج ثقافي وصحفي، كان يشغل مكانه في البيت بفعل ما يتداوله القاص الراحل كمال الدين من شغف الاقتناء والقراءة والمداولة مع إخوته في أمور أقرب إلى الانشغالات الثقافية العامة، رغم اختلاف توجهات الأبناء والبنات في هواياتهم وتوجهاتهم، فإن الشاغل الثقافي العام كان يحضر بقوة في أية نقاشات أو مداولات أو استفسارات أو قراءات من وحي الصحافة والمجلات والكتب.
البداية كانت منشورات مقتضبة في الفيسبوك عن المعالم العدنية، باعتبارها اهتمامًا فرديًّا في البحث والتجميع وجمع المعلومات الشفاهية والمكتوبة في بطون الكتب وفي صفحات الصحف والمجلات، وباستمرار النشر الإلكتروني، صارت المادة المنشورة ذات نسق منهجي وتواتر معلوماتي يرصد معالم عدن المتنوعة.
وأنا ابن عمتهم، كنتُ على مقربة من هذا الجو ومتأثرًا به، بل ومنشغلًا في أتونه، بحكم توجهنا كمال وأنا، في اشتغالنا في عالم الأدب والصحافة.
في هذا الجو الثقافي العام الذي كان يسود بيت خالي محمد، بفعل هيمنة الجو الثقافي والفكري الذي كان كمال الدين الأخ الأكبر، ينشره في أرجاء البيت، كانت نبتات ثقافية وإبداعية عامة تزهر في نفوس إخوة كمال الدين، حتى لو لم تجد لها اختطاطًا واضحًا في الاشتغال فيه.
ومن هذا التوصيف، رأيت أن جمال الدين الذي لم يكتب قصة أو قصيدة أو مقالة كان مشبعًا بالجو الثقافي العام، الذي لم يفارقه في ظل توجهه الوظيفي في الإدارة، وهذا الأمر أبطل لدي الدهشة من اقترافه فن الكتابة والبحث الثقافي، وجسده في هذا الكتاب.
وبالإضافة إلى هذا التشبع الثقافي، استطاع المؤلف أن يُوجد لنفسه مكانًا في اقتراف مهنة الكتابة، من حيث هي اهتمام معلوماتي ثقافي في المعالم من جهة، ومن جهة العمل على كتابة توثيقية تعتمد على المثابرة الشخصية في تنكب نوعية المعالم وتأريخيتها ومدلولاتها.
البداية عند جمال كانت في نشر منشورات مقتضبة في الفيسبوك عن المعالم العدنية باعتبارها اهتمامًا فرديًّا في البحث والتجميع وجمع المعلومات الشفاهية والمكتوبة في بطون الكتب وفي صفحات الصحف والمجلات، وباستمرار النشر الإلكتروني، صارت المادة المنشورة ذات نسق منهجي وتواتر معلوماتي يرصد معالم عدن المتنوعة.
كتاب (معالم عدن) جهد توثيقي بيبليوجرافي مبسط وسلس لمعالم عدن الأثرية والسياحية والتراثية والدينية وغيرها، عبر المكان الممتد لعروس البحر العربي، هذا المكان العبقري الذي احتضن بنايات ودواسر ومساجد وكنائس ومراقد وحصون وقلاع وصهاريج احتضنتها هذه المدينة الساحلية الساحرة عبر زمان ممتد، أوله حضارات العربية السعيدة، وآخره بقايا من معالم بعضها أطلال أو شبه مندثرة، وبعضها الآخر باقٍ وصامد في وجه التاريخ والزمن، تقاوم عوامل التعرية الزمنية والمكانية.
رؤية توثيقية بارعة
المعالم عمومًا مساحة مكانية وزمانية للتأمل في الفكر والثقافة والتاريخ والسياحة والاستذكارات، وهي دالة تاريخ المدينة مكانيًّا وزمانيًّا يمكن من خلال رصدها الحصول على معلومات تفيد الباحث، أي باحث، أن يستنهض الكتابة التاريخية والنقدية لديه من خلال البحث في سلسلة الأحداث والمواقف والحالة السياسية والاجتماعية والحضارية التي شملتها هذه المعالم.
ومن هنا تكمن أهمية الكتاب الراصد لمعالم عدن، بأن يجعل إمكانية البحث التاريخي في أي معلم كدالة على حالة سياسية أو حضارية أو دينية ما، قابلةً للتقصي، ويكون المعلم ذاته إحدى أدوات البحث المنهجي. فالمكان القادم من الماضي هو أحدوثة تاريخية لاشتماله الشكل الحضاري في كينونته، وكل معلم دال على حالة وقضية ووضع.
فمثلًا بنجلة الشيطان دالة مكانية لكتابة تاريخية عن حقيقة التجمع الماسوني في عدن الذي جلبته السلطة الاحتلالية (بريطانيا)، وقبور الأولياء الصالحين دالة مكانية لكتابة تاريخية عن تغلغل الصوفية في عدن، ومعلم الصهاريج دالة مكانية للبحث التاريخي والبيئي عن ارتباطه بحضارات أو تجمعات حضرية سلفت، كان الماء حالة قيمية للوجود والعيش الحضري الذي قد يستتبع حديثًا عن تاريخ أمم سالفة.
لم ينسَ الكاتب أن يذكر ضمن هدفه المرتجى في إدارة هذه المعالم، أن يؤكد على أهمية ربط التراث بالخدمات، وإنشاء المواقع الحديثة من مطاعم ومشارب ومنتزهات متنقلة، إلى جانب الصروح والمواقع الحديثة ذات القيمة الخاصة بالتراث، التي ستحقق إيرادات وأرباحًا هائلة مع المحافظة على التراث وحمايته.
هذه المعالم الباقية والمتعالية في صمودها ومقاومتها مثالب الماضي البعيد أو القريب، إنما تحكي عن تواتر تاريخي لأقوام أو هجرات أو احتلالات شهدتها المدينة التي كانت وما زالت محط أنظار واهتمام محلي وإقليمي ودولي لعبقرية المكان في عدن الواصلة لثلاث قارات استحقت أن تكون مطامع الاستعماريين منذ حملات الفينيقيين إلى حملات البرتغال وفرنسا وبريطانيا وتركيا ومصر محمد علي باشا، حتى يومنا هذا الذي تتصارع فيه القوى الإقليمية والدولية من أجل السيطرة على حذوة الفرس البحري للميناء.
ومن هنا فإن التذكير التوثيقي والمعلوماتي عن هذه المعالم الذي استهدفه كتاب (معالم عدن)، إنما يسحب نفسه على ما وراء هذا التوثيق المهمل ليكشف دلالات تاريخية عن أهمية المكان (عدن)، والمعلومات التوضيحية لهذه المعالم ربما تنفتح على اهتمامات تتجاوز التوثيق إلى قراءة أعمق، ربما يستفيد منها الباحثون والمؤرخون.
المكان وكيفية استغلاله
يقدم الكاتب جمال الذين كتابه التوثيقي بالتعريف: "يتناول الكتاب نوعًا من أنواع ميادين التراث المادي، بهدف إظهار إمكانية إدارة التراث المادي لتحقيق الأسلوب الإداري الياباني، وهو التحسين المستمر (الكايزن) لتحقيق موارد طائلة يمكن أن تلعب دورًا في تطوير منشآت التراث وتطوير قطاعات الدولة الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، وخلق فرص عمل للشباب... ورفد الدولة بالعملة الصعبة". إذن، الكاتب وضع هدفًا براجماتيًّا ونفعيًّا في نشر التعريف بالمعالم، يرتجي تحقيقه على يد من بيده أمر إدارة هذه المعالم التي قد تصبح بعضها ذات هدف سياحي ذات مردود ربحي.
لذا كرس الكاتب تناوله للتراث المادي غير المنقول (الثابت)، ومنه تراث مادي أثري وديني وطبيعي وجيولوجي وعمراني تقليدي أو مواقع حديثة، مثل المباني والصروح ذات القيمة التراثية، ومن ميادين التراث المعالم والمواقع الأثرية، وتتمثل في المباني ذات الطابع المدني والديني والعسكري، وتتميز بطابعها الأثري والتاريخي والمعماري والجمالي.
ولا ينسى الكاتب أن يذكر ضمن هدفه المرتجى في إدارة هذه المعالم أن يؤكد على أهمية ربط التراث بالخدمات، وإنشاء المواقع الحديثة من مطاعم ومشارب ومنتزهات متنقلة إلى جانب الصروح والمواقع الحديثة ذات القيمة الخاصة بالتراث، وستحقق إيرادات وأرباحًا هائلة مع المحافظة على التراث وحمايته.
ويستدرك الكاتب أن الجرد والمسح الشامل والكامل لجميع مواقع التراث، لا بد أن يكون من جهات مختصة وشركات استثمارية متخصصة، مذكرًا بأنه رغم جهده الذي بذله في الجمع والتوثيق التي شملها الكتاب، لا يخفي مشاعره بأنه قد يكون ظلم عدن ولم يعطها حقها؛ لكون أن هنالك حصونًا متعددة وأحياء وحارات وشوارع وأزقة وأسواق ومساجد لأكثر من طائفة لم يذكرها الكتاب.
وفي رأيي أن التوثيق التخصصي مطلوب في لملمة شمل التراث والمعالم في تخصص تام، مثل الكتابة عن مساجد عدن، التي عمل على تجميعها الصحفي الراحل محمد زكريا، والأمر كذلك عن شوارع وحارات عدن ذات القيمة التراثية والمجتمعية، مثل حارة القاضي والعجائز والزعفران في كريتر، وحارة الهاشمي وشارع الحب أو الضباب، وحارة الأصنج والصباغين في الشيخ عثمان، والأمر كذلك حول معالم أخرى حول مدارس عدن مثلًا أو حصون وقلاع عدن وهكذا.
إن مثل هذا التوثيق المتخصص والمعمق حول نوعية محددة من المعالم، ستجعل البحث المطلوب أكثر شمولية وأعمق في الكتابة عن الخصائص وفي تحري التفاصيل التي قد تكون مهملة.