لطالما كانت الطبيعة الخلابة والجمال الساحر الذي اتسمت بها سواحل مدينة عدن (جنوبي اليمن)، سببًا رئيسيًّا لتصنيفها كأحد أجمل وأهم السواحل في المنطقة العربية. هذه السواحل جعلت المدينة قبلة يحج إليها الزائرون من كل مناطق اليمن، ومن دول الخليج العربي، وكثير من بلدان العالم.
مع مرور الوقت ونشوب الصراعات والنزاعات المسلّحة، تغيرت الكثير من الملامح الجمالية للمدينة، لا سيما ملامح القطاعين السياحي والبيئي، التي بدا الإهمال عليها ، بما في ذلك سواحل البحر. ومؤخرًا وصل هذا الإهمال إلى الحد الذي عرّض هذه السواحل والكائنات البحرية لمخاطر لم تقتصر على المياه وكائناتها، بل امتدت لتشكل تهديدًا على حياة سكان المدينة.
أسباب متعددة ونتيجة واحدة
على مر السنين، شهدت سواحل عدن العديد من المخاطر التي زادت بشكل ملحوظ، من الكوارث البيئية، وعادت بضرر كارثي على الحياة البحرية.
ومع غياب الرقابة البيئية على المياه الإقليمية، تتعرض المنطقة البحرية في باب المندب وخليج عدن للتلوث الذي تسببه مياه التوازن (إدخال مياه إلى خزّانات إضافية من أجل الحصول على وزن إضافي، يؤمّن عملية الثبات والتوازن للسفن) وغيرها من المواد والزيوت المستهلكة التي تفرقها ناقلات النفط التي تدخل المياه الإقليمية لترسو في ميناء المعلا في العاصمة عدن أو في ميناء المنطقة الحرة، إلى جانب عملية الصيد غير المشروعة للأسماك من قبل سفن دولية تقتحم المياه الإقليمية اليمنية المطلة على عدن.
لم تكن واقعة التسرب النفطي من السفينة "ديا" الأولى من نوعها التي شهدتها المياه القريبة من سواحل مدينة عدن، لكنها شرارة أولى للكشف عن العديد من الانتهاكات البيئية التي تغض الحكومة المعترف بها دوليًّا، الطرفَ عنها
ولم يقتصر الأمر على السفن في إلحاق الضرر بمياه البحر في عدن، إلا أن المخلفات البشرية، وخصوصًا البلاستيكية منها، تنتشر بشكل كبير ومفزع على طول السواحل، في ظل انعدام الرقابة والغياب الكلي للدور التوعوي.
شكلت السفن المهجورة والراسية، التابعة لمتنفذين في موانئ عدن، خطرًا كبيرًا على البيئة البحرية في المنطقة بسبب تسرب الزيوت منها واحتمالية غرقها. وبالرغم من صدور مذكرات قضائية بتحريك السفن من المياه القريبة من سواحل عدن، إلا أن محتوى تلك المذكرات بقي حبيس الورق.
ويحظر قانون حماية البيئة البحرية في اليمن كل إلقاء مقصود لمواد ملوثه أو فضلات في البحر من السفن أو الطائرات أو الأرصفة أو غير ذلك من المنشآت الصناعية و المصادر الأرضية، وكل إغراق مقصود للسفن أو المنشآت الصناعية و غيرها في البحر.
وتشير اتفاقية إدارة مياه الاتزان التي اعتمدتها المنظمة البحرية الدولية عام 2004 إلى أن مياه الاتزان التي تحملها السفن أدت إلى نقل الكائنات المائية الحية خارج نطاقها الطبيعي، مما تسبب في أضرار على البيئة وصحة الإنسان والممتلكات والموارد. تشتمل اتفاقية إدارة مياه الاتزان على لوائح ومبادئ توجيهية تم تصميمها للمنع والتقليل والقضاء في نهاية المطاف على مخاطر مثل هذه الآثار السلبية وفى نفس الوقت تجنب الآثار المترتبة على عملية مراقبة وإدارة مياه الاتزان نفسها.
بالمقابل، تمتلك اليمن شريطًا ساحليًّا يبلغ طوله أكثر من 2000 كم، غنيًّا بالأسماك والأحياء البحرية، تمتد فيه التداخلات والتضاريس الجبلية والرملية ومنحدرات الأودية التي تصب في البحر وكونت خلجانًا، والتي تشكل في مجملها حوالي 20% من طول الشواطئ، وبذلك فإن طول الشريط الساحلي اليمني يزيد عن 2000 كيلو متر، بحسب خارطة الثروة السمكية، ابتداءً من الحدود اليمنية-العمانية في بحر العرب، وحتى منتهى الحدود اليمنية–السعودية في البحر الأحمر.
غرق السفينة "ديا"
لم يعد غرق هذه السفن مجرد احتمال يستبعد تحققه؛ ففي يوم السبت الموافق 17 يوليو/ تموز 2021، أفاقت مدينة عدن على حادثة غرق السفينة "ديا" التابعة للشركة اليمنية «عبر البحار» المملوكة لرجل الأعمال أحمد العيسي، نائب مدير مكتب رئاسة الجمهورية في الحكومة المعترف بها دوليًّا.
للتوضيح أكثر بشأن هذه الواقعة، كشف خبير في البيئة البحرية، وأحد عاملي مؤسسة الشؤون البيئية في عدن، والذي فضّل عدم ذكر اسمه، في حديثه لـ"خيوط"، أن مثل هذا التلوّث تكرر على مرّ السنين، في ظل تحفظ "غير مبرر" من إدارة موانئ عدن والشؤون البحرية، مشيرًا إلى أنه "على مرّ السنين تسببت العديد من السفن بكوارث مماثلة جراء إفراغ حمولتها من الزيت المستهلك في المياه الإقليمية".
وأضاف أن "مثل هكذا حوادث لها تأثير كبير على الحياة البحرية، وتلقي بظلالها على مرتادي الشواطئ من أهالي المدينة أيضًا، إلى جانب تأثيرها بشكل كبير على عمل الصيادين، حيث تعيق سير عملية الصيد بشكل صحيح".
وعن التسريبات التي خلفتها السفينة "ديا"، قال خبير البيئة البحرية: "بقع الزيت التي انتشرت على السواحل الصخرية من خليج البربرية ستبقى لفترة طويلة جدًّا إلى أن تبدأ بالتصلب أو التبخر بفعل عوامل التعرية، وهو ما سيحول دون مقدرة الناس على العودة لزيارة هذا الساحل الذي اعتاد المواطنون الذهاب إليه".
أما بخصوص تأثّر الكائنات البحرية في منطقة التسرّب النفطي، ورغم صدور بيان تحذيري عن الهيئة العامة لحماية البيئة الأسبوع الماضي، عبر وكالة سبأ- النسخة التابعة لحكومة عدن، وتأكيد عدد من الصيادين المحليين اصطيادهم أسماكًا ملوثة، إلا أن خبير البيئة البحرية، أكد في حديثه لـ"خيوط"، أن اللجنة المعينة لمسح الأضرار، لم تلاحظ أي نفوق للأسماك والكائنات الرخوية، عدا تأثّر وتلوث الكائنات القاعية الصغيرة، مثل القواقع والأصداف، التي غطاها الزيت المتسرب. إلى جانب عدم حدوث ضرر كبير لبيئات الشعاب المرجانية والأعشاب البحرية والطحالب الموزعة على مواقع عدة في ميناء عدن.
مرتع لنفايات السفن
في العام 2014، رست السفينة "ديا" في موقعها مع العديد من السفن المتهالكة التي احتاجت إلى أعمال صيانة ضرورية، وكل ما كانت تحتاجه عملية الصيانة هو مسح قاع الميناء وإزالة الصدأ وفرض اللوائح البيئية. لكن السلطات المعنية فشلت في منع حدوث كارثة بيئية كان من الممكن تلافيها وتجنّب تأثيرها على سبل عيش الصيادين والمنتفعين من البحر، وعلى النظام البيئي فيه.
وتعد سواحل عدن مرتع لنفايات السفن وهو ما يهدد بتلوث البيئة البحرية الغنية بالأسماك والمنتجات البحرية، إذ لم تكن واقعة التسرب النفطي من السفينة "ديا" الأولى من نوعها التي شهدتها المياه القريبة من سواحل مدينة عدن، لكنها شرارة أولى للكشف عن العديد من الانتهاكات البيئية التي تغض الحكومة المعترف بها دوليًّا، الطرفَ عنها. فقد تناول العديد من الخبراء عبر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، صورًا ملاحية تثبت تفريغ العديد من السفن حمولاتها من الزيوت المستهلكة في المياه الإقليمية قبالة مدينة عدن، وهو خطر يهدد الثروة السمكية في هذا الجزء من المياه والسواحل اليمنية.
فيما تؤكد دراسة بحثية تطرقت لها "خيوط" سابقاً للباحث في البيئة البحرية عمر زياد، أن هناك كثيرًا من المشاكل البيئية القائمة بدون وجود قانون يلزم الصياد بواجبات معينة، في رحلة الاصطياد، إذ أعطى مثالًا بأن التلوث البحري إلى جانب مخلفات السفن يزداد بسبب استخدام بعض المعدات، التي تضر بالثروة السمكية، مثل الشبك الجر، والسخاوي، واستخدام الإضاءة عند الاصطياد، ورمي مخلفات معدات الاصطياد في البحر.