بصعوبة بالغة، جرّت الحاجّة صفية ناصر جسدها الهزيل نحو أحد المخابز في مدينة عدن، وبصوت مبحوح بالكاد يخرج من حنجرتها، طلبت من مالك المخبز أن يبيعها أقراص "الروتي" المعتادة لعشاء أسرتها. كان في يدها المرتعشة ورقة من فئة الـ500 ريال، وكاد الذهول أن يأكل وجهها الذي كسته التجاعيد، حين أخبرها البائع بأن عليها إضافة 100 ريال لاستيفاء عدد الأقراص التي طلبتها. تنكس رأسها والحسرة بادية على ملامحها، معبرة عن عدم قدرتها على دفع ريال واحد إضافي. وبامتعاض أمسكت قرصًا بيديها، مندهشة من صغر حجمه مقارنة بالأيام الماضية.
أزمات عاصفة
تعابير وجه الحاجّة صفية وصوتها لا تختص بحالة فريدة تشهدها مدينة عدن، بل تختصر حال الغالبية العظمى من أهالي المدينة الذين عصفت بهم الأزمات واشتد بهم الجوع جراء توالي الأزمات المعيشية. همومهم المتزايدة بسبب هذه الأزمات المتكررة في ظل وضع اقتصادي صعب وغلاء حادّ في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، تتزامن مع زيادة معدل البطالة وانعدام فرص العمل وتوقف صرف الرواتب. وفي الوقت ذاته، تشهد العملة المحلية انهيارًا حادًّا أمام العملات الصعبة، حيث سجّل الريال اليمني هبوطًا قياسيًّا لم تشهده المدينة من قبل، ووصلت قيمته 1500 ريال مقابل الدولار الواحد، حتى لحظة كتابة هذا التقرير، مع توقعات باستمرار تدحرج عجلة الهبوط يومًا بعد آخر.
أسباب ارتفاع أسعار الرغيف
إضافة للعديد من الأزمات، بات الصراع في الآونة الأخيرة يتمحور حول رغيف الخبز، إذ لم تمضِ أشهر قليلة على آخر زيادة في أسعاره ليعود مجددًا ملاك الأفران إلى رفع السعر من 40 إلى 50 ريالًا، ما يعني تضاعف سعره 100% في عام واحد فقط، و1000% عن سعره في آخر ست سنوات، ليشكل بذلك عبئًا وهمًّا جديدًا يؤرق حياة السكان في المدينة.
جمعية المخابز والأفران بمحافظة عدن تقف عاجزة عن حماية المواطنين، وتكتفي، بين وقت وآخر، بإصدار بيانات تبرز من خلالها الشكاوى المقدمة من ملاك المخابز والأفران بخصوص ارتفاع أسعار مادة الدقيق والمواد اللازمة لصناعة خبز الأفران في الشهور الأخيرة. وقال مصدر في الجمعية إن "الارتفاع المفاجئ في الأسعار سبّب لملاك المخابز والأفران خسائر فادحة ومشاكل وعجزًا في تغطية نفقات العمل، مما وصل الحال ببعضهم للإفلاس وإغلاق المخابز".
بعد أن كانت أقراص "الروتي" الملاذ الآمن لموائد الفقراء ومحدودي الدخل، الذين يشكلون نسبة كبيرة من السكان في المدينة، تغير الحال ولم يعودوا قادرين على شرائه مع عجزهم عن إيجاد البديل الأرخص
عملًا بمبدأ "لا ضرر ولا ضرار"، وبسبب الارتفاع الجنوني في الأسعار وما ترتب عليه من خسائر مادية تضرر منها ملّاك المخابز والأفران وشريحة واسعة من العاملين والمنتجين، أقرت الهيئة الإدارية في الجمعية رفع سعر قرص "الروتي" إلى 50 ريالًا، مع الاحتفاظ بالوزن السابق في البيع للمستهلكين بالكيلو جرام وأجزائه، والتقيد بوزن 26 جرامًا كحدٍّ أدنى. غير أن غالبية ملاك الأفران لا يطبقون هذه التعليمات، بحسب شكاوى المواطنين، في حين تتوالى تأكيدات الهيئة الإدارية لجمعية المستهلك، على استحالة إنقاص وزن "الروتي" أكثر مما هو عليه لأسباب فنية، مثل كثرة التوالف وحجم القوالب في المخابز الرئيسية، وفقدان الخبز لمواصفات الجودة والفوائد الصحية.
وتحدث أحد ملّاك الأفران لـ"خيوط"، طلب عدم ذكر اسمه، شاكيًا بدوره من ارتفاع أسعار الدقيق، واعتبر أن ارتفاع سعر قرص "الروتي" "أمر طبيعي" نتيجة الغلاء المستمر الذي يعصف بالمدينة نتيجة انهيار العملة. وأكد أن رفع تسعيرة الخبز لم يتناسب مع ارتفاع أسعار الدقيق؛ الأمر الذي أجبر ملّاك المخابز على إنقاص حجم الأقراص لرفع عملية إنتاج الكيس الواحد من الدقيق إلى أكثر من 1400 قرص.
سخط كبير
ويعتقد الأهالي في مدينة عدن أن أزمة ارتفاع أسعار "الروتي" تأتي في وقت حرج وصعب، تشهد فيه المدينة ارتفاعًا مهولًا في أسعار المواد الغذائية، بينما لا ترتفع أجور المواطنين ورواتبهم، حيث بات راتب رب الأسرة بالكاد يغطي شراء "الروتي" في مجمل الشهر. يحدث هذا في ظل عجز "الجهات المعنية" عن اتخاذ أي إجراء، والتزامها الصمت إزاء ما يحدث.
وعبر عدد من الأهالي في أحاديثهم لـ"خيوط"، عن سخطهم وغضبهم من ارتفاع أسعار "الروتي"، وتصغير حجمه، كما انتقدوا غياب الرقابة على المخابز التي باتت تنتج أقراصًا بحجم إصبع اليد، بحسب وصفهم.
وناشد الأهالي "الجهات المعنية" في الحكومة المعترف بها دوليًّا، تحمل مسؤوليتها والإسراع في وضع معالجة فورية لخفض ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية، وعلى رأسها الدقيق، قبل أن تزداد رقعة الفقر في التوسع بين المواطنين.
وتحدث أحد المواطنين بسخرية عن أن قرص "الروتي" بات حاله مثل المواطنين؛ يعاني من مجاعة حادة، وأن ما يحدث له مشابه لما يحدث للإنسان الذي يفقد كرامته في المدينة، مضيفًا أن حجج مالكي الأفران بأن الزيادة في سعر "الروتي" ناتجة عن ارتفاع أسعار الدقيق والوقود، لا يبرر لهم تصغير الأقراص ورفع سعرها إلى هذه الدرجة.
لم يعد الرفيق الأحب
ويعد رغيف "الروتي"، الرفيق الأحب لغالبية الأسر في المدينة، كونه الأرخص مقارنة بالرغيف العادي وبقية أنواع الخبز الأخرى. وبعد أن كان الملاذ الآمن لموائد الفقراء ومحدودي الدخل، الذين يشكلون نسبة كبيرة من السكان في المدينة، تغير الحال ولم يعودوا قادرين على شرائه مع عجزهم عن إيجاد البديل الأرخص؛ كون الغلاء يعصف بهم من كل النواحي. أما إذا فكر البعض بالاستغناء عن شرائه وصنعه في المنزل، فإن الأسعار الجنونية لمادة الدقيق والغاز المنزلي وبقية الاحتياجات المهمة لصنعه في المنزل، تقف حائلًا أمامهم، خصوصًا العائلات الكبيرة.