كان الأكاديمي قبل الحرب يمثّل سياجًا منيعًا يصعب المساس به أو إرباكه أو إدخاله في معمعة الحياة المبتذلة، وما يستتبعها من تيه ومعاناة، كان وقورًا ومُنكَبًّا على أداء مهامه البحثية الجليلة المنوطة به، كان مكتفيًا ذاتيًّا، كان في مأمن، كان لا يعبأ بتبعات الحياة ومشاقِّها، كان عالِمًا مهيبًا ملءَ السمع والأبصار، وما يزال، ولكنه متعبٌ كثيرًا، متعبٌ بالظروف، متعبٌ بالحرب وتبعاتها، متعبٌ بقسوة المتصارعين وعدم اهتمامهم.
في 2014، اندلعت الحرب، ثم تداعت تبعاتها على الحياة كلها، في بلدٍ غيرِ مستقر في الأساس، غير أنّ الكرامة كانت محفوظة فيه بقدر مقبول، والأمن النفسي كان متوفرًا في حده الأدنى، والراتب كان يفي بالغرض إلى حدٍّ ما، كان يسد الرمق. وكان يستطيع الأكاديميّ توفيرَ متطلبات أولاده، ويواجه مشاقّ الحياة، ويقتني قنينة عطر، وعلبة صبغة لتلميع أحذيته. الآن صار بلا أحذية، صار بلا مأوى، أصبح يتوق إلى الخبز، ويتمنّى دفع الإيجار، ويحلم بالأمن والطمأنينة.
في 2016، انقطع الراتب، بعد أن تم نقل البنك من صنعاء إلى عدن، من حينها بدأت التغريبة الأكاديمية تمتدّ وتستطيل. بدأ الأكاديميّ يتهاوى، تضاعفت القسوة، بدأ يستنفد المخزون الاستراتيجي، ثمّ صار يستدين، وما أقساها حياة الديون! ثم وجد نفسه في الأرصفة بعد مواجهة المؤجِّرين والدائنين، وعجزه التامّ عن مواجهة متطلبات الحياة.
لقد حصدت جائحةُ الأوبئة عشراتِ الأكاديميين في الجامعات اليمنية في ظل الحرب، ولعل أكثرها تأثُّرًا جامعتَي صنعاء وعدن، وخلال ذلك لم ينتبه إلى ما يحدث لهم أحدٌ، ولم يهتم أحد بمعاناتهم مطلقًا، لقد فقدنا خِيرة العلماء في جامعة عدن وذمار وغيرها، ووصلت المعاناة إلى حدّ أن تُوفِّيَ أحد الزملاء في جامعة صنعاء، في شقّته جرّاء جوعٍ وعطش امتدّا به لأيام، ومنعته عزة النفس من مدّ يده لأحد، والكارثة الأقسى تمثّلت في أنّ جيرانه لم يتنبهوا لما يحدث له إلا بعد وفاته بأيام، حينما انبعثت رائحة جثته التي تفسّخت، لم يشعر أيٌّ من جيرانه بمأساته. لم تكن أخلاق اليمنيين على هذه الحال الرثة؛ إنها الحرب.
منذ أن تاه الراتب، صار الأكاديميون يتناقلون أخبار عودته من مواقع غير معروفة تارة، بكل لهفة وشغف وتفاؤل، وتارة يتناقلون أخبار اصطفاف القضاة والمحامين للمرافعة والدفاع عن حقوقهم المنهوبة، وتارة يتناقلون أخبارًا عن الأمين العام للأمم المتحدة تؤكد ضغطه على المتصارعين من أجل عودة الراتب.
عرض كثيرٌ من الزملاء مكتباتهم للبيع، في محاولات يائسة وحزينة لمواجهة عنت الحياة وعنفها وضراوة إذلالها. عمل معظمهم في مخابز، وعملوا سائقي أجرة، وبائعي قات، وفي مصانع الطوب، ومناشير الأحجار، وانكفأ معظمهم في منازلهم يقتاتون الحسرة والألم وينتظرون الفرج، يحلمون بعودة الراتب، والراتب حياة، لقد صار كلٌّ منهم يتلقف الشائعات المتعلقة به، وهي شائعات أحالت هذا الحلم إلى حلم يشبه أحلام الأساطير، لقد تأسطر الراتب وصار كل ما يتعلق به صورة لولبية، مستطيلة، دائرية، غير منتظمة في المخيال، تحوّلت إلى نظام يُدِرّ كثيرًا من الأمل بانفراجة، لكنها لا تأتي.
لم يكن يهتم الأكاديمي للشائعات طيلة حياته، وهو الإنسان المنظم الذي لا يعبأ إلا بكل موضوعيّ وشفّاف وصادق ومخلص، لقد صار يتلفت يمنة ويسرة لكل شائعات تتعلق بالراتب، صار يشعر بسعادة غامرة حينما تأتي إليه أخبار عن عودة قريبة للراتب، ولكنه لا يعود بعد أن ذهب في رحلة مكوكية إلى عدن وربما لن يعود، ولعله يتنزه الآن في ساحل أبين، أو قلعة صيرة، أو لعله تاه في صهاريج عدن، وقد يأتي مع المهدي المنتظر ذات يوم.
منذ أن تاه، صار الأكاديميون يتناقلون أخبار عودته من مواقع غير معروفة تارة، بكل لهفة وشغف وتفاؤل، وتارة يتناقلون أخبار اصطفاف القضاة والمحامين للمرافعة والدفاع عن حقوقهم المنهوبة، وتارة يتناقلون أخبارًا عن الأمين العام للأمم المتحدة تؤكد ضغطه على المتصارعين من أجل عودة الراتب.
لقد صار الأكاديمي متفرغًا لمثل هذه الأخبار التي لم يكن يتوقع يومًا أنه سيتخلى عن مهامه العلمية الأكاديمية ويهتم بها بكل إخلاص وشغف.
في 2011، وجّه علي صالح -حينما كان يترنح تحت ضربات الشارع- برفع مرتبات الأكاديميين 100%، لكن الأمر لم يتم، ومع ذلك كان الأكاديمي حينها سعيدًا جدًّا بهذا الأمر، وحينما لم يتحقق لم يهتم كثيرًا، كان الراتب يفي بالغرض، كان سقف راتبه عاليًا حينها، وهو -ربما- أعلى سقف للرواتب في اليمن. ولم يكن يفكر أنّ هذا الراتب سيذوب بين عشية وضحاها، وعلاوة على توقف هذا الراتب، فقد انخفضت قيمته إلى أكثر من 600%، كان حينها يعادل 1000 دولار، حينها كان سعر الصرف والقدرة الشرائية قويّين، أمّا الآن فقد أصبح لا يعادل 300 دولار تقريبًا، وحتى هذه الـ300 لا توجد. وخلال عام أو عامين يأتي نصف راتب (150 دولارًا)، ينتظره الأكاديمي بشغف مطلق، كما ينتظر الطفل ليلة العيد، صار الراتب نصفًا، والنصف لم يعد سقفه كما كان سابقًا، لقد تضاءل كثيرًا بسبب اضطرابات الصرف. لقد هوى وصار لا يفي بأي غرض مطلقًا.
هل يستطيع أحدٌ استشعار مدى المأساة التي حلّت بهذا الإنسان الذي ما يزال يعطي بسخاء، ويُعلِّم ويُؤهّل مجانًا، ويصرف من مديونياته أجور المواصلات والاتصالات من أجل الذهاب إلى مقرّ عمله في الجامعات ومراكزها البحثية، ومن أجل التواصل مع طلبته ومتابعتهم؟!
إنّ قطع الراتب عن الأكاديمي، ومثله بقية موظفي الدولة، جريمة، ومحاولة شرسة للنيل من كرامته والحطّ من مكانته العلمية، بل محاولة ممنهجة لجرّه إلى مربع الغياب والتيه والشلل الأكاديمي والدخول في متاعب الحياة. إنّها محاولات لجرّه إلى مربع الانزواء الذي يستتبعه إيقاف العمليات التعليمية والبحثية الرصينة، ومن ثَمّ تخريج دُفَعٍ مريضةٍ علميًّا مشلولةٍ فكريًّا، لا يُركن إليها، ولا يُعول عليها، وهي مخرجات متعبة بظروف الحياة ذاتها التي أتعبت الأكاديمي، ويُحيط بها الفقر المدقع.
ماذا سيتبقى من المجتمع إن أُطيح بالأكاديمي والجامعات ومراكز البحث العلمي، في بلد أطاحت به الحرب بكل فجاجة وابتذال؟!
إنّنا في زمن التجويد ومحاول ترقية الجامعات ومراكز البحث العلمي وتطويرها في سائر أصقاع العالم وفقًا لمعايير الجودة الدولية، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى العمل بها وإثباتها بكل قوة، لكن كيف والوضع هكذا؟! يمكن العمل بمقولة (جيب بوش) على الأقل: "ليس هناك شكٌّ في أنّنا بحاجة إلى معايير أكاديمية أعلى، وعلى المستوى المحليّ يجب أن تكون صرامة معايير الدولة الأساسية المشتركة هي الحدّ الأدنى الجديد في الفصول الدراسية"، لكنها مقولة -حتى على تخفيفها- لا يمكن تحقيقها في ظل الحرب، وقسوة المتصارعين، وعدم اهتمامهم بالأمور المهمة جدًّا التي لا يمكن تجاوزها أو إغفالها مطلقًا.
وعليه: هل يمكن السماح بإسقاط الأكاديمي، وشلل الجامعات، وتوقف مراكز البحوث؟
الأمر موحش ومتوحش؛ إذ بسقوطها أو شلل علمائها سيختل توازن المجتمع، إلا إذا كانت الحقبة القادمة هي حقبة تجهيل ممنهج، وإعادة ضبط مصنع الشعب والبلد إلى ما قبل التاريخ، والعودة إلى الألواح الخشبية، والفحم، والكتاتيب وبدائية التعليم، وربما إلغائه تمامًا، فالأمر مختلف.