لا يختلف اثنان حول تخلُّف النقد الأدبي في اليمن، عن مواكبة المشهد الإبداعي بعشرات الأميال.
فقد مرّ الأدب اليمني المعاصر بمنعطفات تاريخية، خاصة في تسعينيات القرن المنصرم والعقود التي تلتها، وشهدت الساحة الأدبية توسعًا كمّيًّا وكيفيًّا؛ فظهرت أجيال شابة من المبدعين، ونمت وتطورت أشكالٌ أدبية، كالرواية والشعر الجديد (قصيدة النثر)، كما ظهرت مؤسسات ثقافية، ونشطت حركة الطباعة والنشر...إلخ.
وأمام كل هذا الصخب الإبداعي، ظلّ صوت النقد خافتًا وخجولًا وعاجزًا عن مواكبة عجلة الإبداع.
فالقارئ المتابع لحركة النقد في بلادنا، يجد أنها تتشكّل من أكثر من تيار؛ فهناك الكتابات الصحفية التي كانت تزدحم بها صفحات ملاحق الصحف اليومية، وهي كتابات يغلب عليها الانطباعية والاحتفائية والمجاملة، وهناك كتابات رصينة ظهرت منذ منتصف الثمانينيات تقريبًا، قاربت نصوصًا وأعمالًا إبداعية بأسلوب رصين وعلمي، هذه الكتابات احتضنتها المجلات الأدبية اليمنية، مثل: اليمن الجديد، والثقافة الجديدة، والحكمة، وغيرها.
أما الرافد الحقيقي والأهم للمشهد النقدي اليمني، فتَمثَّلَ في الكتب والدراسات النقدية التي خرجت من داخل أسوار الجامعات اليمنية، وأقصد بذلك إسهامات الكادر الأكاديمي العربي بصورة خاصة، منذ أواخر سبعينيات القرن المنصرم، وحتى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، فقد تفاعل هذا الكادر الأكاديمي –طيلة عملهم في جامعاتنا– مع المنجز الأدبي اليمني طيلة هذه العقود، وقدّموا مقاربات تأصيلية وتحليلية لكثير من مفردات وأشكال هذا المنجز.
فعلى سبيل المثال لا الحصر: كَتَبَ عزالدين إسماعيل عن الشعر المعاصر في اليمن، وكَتَبَ عبدالحميد إبراهيم كتابين عن القصة القصيرة في اليمن، وكتب محمد رحومة عن المسرح اليمني، واستمر العطاء حتى أواخر التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة، حيث أسهم الكادر الأكاديمي العراقي أيضًا بنصيب وافر، فعلى سبيل التمثيل، كتب حاتم الصكر عن قصيدة النثر وكتب أيضًا (انفجار الصمت) عن الكتابات النسوية في اليمن، وعشرات الدراسات المفردة، إضافة إلى كتابات وجدان الصايغ، وصبري مسلم، وأحمد نصيف الجنابي، الذي كتب (عزف على أهداب القصيدة اليمنية المعاصرة)، وغيرهم، وبعد رحيل هؤلاء تراجع إسهام الجامعات اليمنية في المشهد النقدي، وأصبح هذا الرافد ضئيلًا.
والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح في هذا السياق: أين دور الكادر الأكاديمي اليمني، خاصة بعد التوسع في التعليم الجامعي، بحيث أصبح في كل محافظة يمنية جامعة؟
وهذا السؤال يقودنا إلى سؤال آخر: هل هناك علاقة بين أقسام اللغة العربية وآدابها في جامعاتنا، وبين المشهدين الأدبي والنقدي في اليمن؟
خمسة عوامل كرست القطيعة بين أقسام اللغة العربية وآدابها، وبين الواقع الأدبي اليمني المعاش، ومِن ثَمّ خفَتَ صوتُ النقد القادم من داخل الأسوار الجامعية خلال العقدين الأخيرين.
في اعتقادي أنه –باستثناء إسهامات الدكتور المقالح– يبقى إسهام الكادر اليمني خجولًا إلى حدٍّ كبير، فهناك قطيعة بين ما يدور في أقسام اللغة العربية وآدابها، وبين الواقع الأدبي والنقدي في اليمن، وهناك جملة من العوامل التي كرست هذه القطيعة، منها:
1- ضآلة المساحة المخصصة للأدب اليمني الحديث والمعاصر على خارطة المقررات الدراسية في أقسام اللغة العربية وآدابها، فليس هناك من بين عشرات المقررات التي يدرسها طلاب هذه الأقسام، سوى مقرر واحد يتيم اسمه (أدب يمني معاصر)، غالبًا ما تجبر المساحة الزمنية المقررة لهذه المادة (10-12 محاضرة فقط)، على الاكتفاء بالحديث عن شاعرين أو ثلاثة من الكبار (المقالح – البردّوني – الزُّبيري)؛ لذلك يتخرج طلاب هذه الأقسام غرباء عما يدور في الواقع الأدبي، إلا من رحم الله، ولديه نزعة ذاتية للاطلاع والتثقيف الذاتي.
2- آلية اشتغال الدراسات العليا في هذه الأقسام، تؤسس أيضًا للقطيعة مع الواقع الأدبي المعاش، فمعظم طلاب الدراسات العليا يعانون من الكسل العلمي، وليس لديهم الوعي الكافي بأهمية التأصيل والابتكار والبحث عن الجديد، فهمّهم الأساس هو تجاوز المرحلة الدراسية والحصول على المؤهل بأقل جهد؛ لذلك نجدهم يبحثون عن المطروق والمشهور الذي تتوفر عنه المراجع، فضلًا عن سلبة المشرفين الذين لا تمثّل لهم هذه الأطاريح سوى مصادر دخل إضافية.
3- الأطروحات العلمية التي قاربت عناصرَ أو أشكالًا من المشهد الأدبي اليمني المعاصر، تظل حبيسة أدراج صاحبها، ففرص النشر أصبحت ضئيلة ومكلفة، إن لم تكن معدومة، والجامعات اليمنية ليس في برامجها مكانٌ لنشر كتب وأبحاث منتسبيها أو على الأقل الإعانة على نشر هذه الأعمال.
4- معظم الكادر الأكاديمي اليمني يعاني هذه الأيام من الإحباط والعجز عن التفاعل مع محيطه نتيجة الظروف السياسية والمادية التي تمر بها البلاد؛ لذلك نراه يكتفي بالهرب والانغماس في الوظيفة الروتينية اليومية: الإعداد للمحاضرات، تصحيح الدفاتر، الإشراف على أطروحات الدراسات العليا...، ويؤجل مشاريعه العلمية.
5- هناك عامل آخر زاد من إحباط وعجز الكادر الأكاديمي وغيرهم من النقّاد، تَمثّلَ في توقف الدوريات والملاحق الأدبية، وتوقُّف المؤسسات الثقافية التي كانت تُشكِّل نوافذ يطل من خلالها القارئ العادي والناقد المتخصص على المشهد الإبداعي، ولم يبقَ إلا صفحات التواصل الاجتماعي المزدحمة بالهراء.
كل هذه العوامل كرست القطيعة بين أقسام اللغة العربية وآدابها، وبين الواقع الأدبي اليمني المعاش، ومِن ثَمّ خفَتَ صوتُ النقد القادم من داخل الأسوار الجامعية خلال العقدين الأخيرين، لكنه لم ينقطع، فلا يزال هناك نقّاد أكاديميّون يجاهدون –رغم الظروف– لمدّ شرايين النقد بالحياة، ومع ذلك يبقى ما يقدّمونه من كتابات، جهدًا فرديًّا، يظلّ عاجزًا عن مواكبة المشهد الأدبي اليمني المعاصر.