تختلف الروايات حول تاريخ ميلاد الفنان أبوبكر سالم بلفقيه، هل كان عام 1933 أو 1939، لكن أغلبها ترجح الأخير. ومع ذلك تتفق جميعها تقريبًا على أن بدايته الفنية في إذاعة عدن كانت في ١٩٥٦، وأن سفره إلى بيروت لأول مرة كان في ١٩٦١، وأن هناك ثلاث سنوات بين بدايته وسفره إلى بيروت قضاها في تدريس اللغة العربية، وثلاثًا أخرى في العمل في السعودية.
بحسب معارف أبوبكر وأهله، كانت السعودية محطته الأولى، ثم التدريس وإذاعة عدن. إن كان ميلاد أبوبكر في ١٩٣٩، إذن فقد سافر إلى السعودية للعمل في الرابعة عشرة، وبعدها بثلاث سنوات توجه إلى عدن وسجّل أغنياته الأولى وبدأ بالتدريس. في الوقت ذاته، يبقى هناك عامَان مجهولَا الأحداث بين انتهاء سنوات تدريسه الثلاث في عام ١٩٥٩ وسفره إلى بيروت في ١٩٦١.
يبدو أن هناك خطأَين في الرواية الرسمية؛ ميلاد أبوبكر وعام بدايته الغناء، كونه لا مجال للشك في عام سفره إلى بيروت، الذي لطالما أكده بنفسه إلى جانب من قابلهم هناك. أقرب خط زمني إلى المنطق هو أن أبو بكر ولد عام ١٩٣٧.
أكمل تعليمه في سن الثامنة عشرة، وهاجر إلى السعودية عام ١٩٥٥، وهناك عمل لثلاث سنواتٍ أو نحوها، ثم عاد في ١٩٥٨ ليسجل أولى أغنياته في إذاعة عدن إلى جانب العمل كمدرّس (ترجِّح هذا التاريخ أيضًا المقابلة التي أجريت مع أبوبكر عام ٢٠٠٨، للاحتفال باليوبيل الذهبي لمسيرته)، وبعد تحقيقه نجاحًا كبيرًا في وقتٍ قياسي، وجد الوقت مناسبًا للخوض في مغامرة أكبر، وسافر إلى بيروت في ١٩٦١، عاصمة الفن العربية الأولى وقتها، بحسب أبوبكر.
ما زالت هناك تسجيلات لأولى إصدارات أبو بكر من لبنان، إلى جانب أولى فيديوهاته، والتي تُظهر أهمية رسم خط زمني واضح للبدايات، حيث بدأ بـ: "إمتى أنا أشوفك"، و"٢٤ ساعة"، و"تسلّى يا قليبي"، وهي من كلماته وألحانه.
وحول ما اعتبره أبوبكر أصعب تجربة مر بها، حين سُئل عن ذلك بعد انقضاء ربع القرن الأول من مسيرته، أجاب: "بيروت. كان صعب علَيّ إني أخاطب الفرقة الموسيقية لتنفيذ العمل اللي أنا أبغاه بنفسي. من ناحية تنفيذ الإيقاعات، تنفيذ الأغنية ككل. كنت أعيش في تعب وعذاب؛ كيف افهّمهم هذا اللون".
في هذه الأغاني أصعب ألحان وتوزيعات وحتى كلمات الستينيات على الإطلاق، بشكلٍ قد يفخر بمثله محمد عبدالوهاب وبليغ حمدي؛ وفي أداءاته المصوّرة في تلك الفترة -سواء في الكليبات أو على المسرح- ثقة وشغف وقيادية واضحة للفرقة الموسيقية، يصعب معها تصديق أن الموسيقى والغناء لم يكونا دومًا خطته الأولى.
لم يدرُس أبوبكر سالم الموسيقى، لكنه كان يوزع ويلحن ويؤدي بمهارة وحساسية منقطعتَي النظير، ويقود فرقته الموسيقية. إذن كان أبوبكر "سمّيعًا" مُحنكًا، وصاحب موهبة فريدة يصعُب ألا يقع صاحبها في حبها ويُحمّلها أحلامًا كبيرة، أكبر مما تتيحه عدن. ربما لم تسمح ظروف عائلته المادية بتلبية أحلامه بالسفر حيث تتواجد الإمكانيات اللازمة، فجرّب العمل في السعودية لجمع ما يلزمه من المال، وحين لم يفلح اتجه إلى التدريس، مستغلًّا هذه السنوات في رسم الخطط المستقبلية لما سيجنيه بالعمل مع الفرَق الكبيرة، والاستماع أكثر لاستلهام تلك الخطط، كاستماعه لـ"أنور أحمد قاسم".
في مقابلة على تلفزيون أبو ظبي عام ١٩٩٧، ذكر أبوبكر ربما أهم معلومة صدرت عنه في لقاء تلفزيوني، وهي تعرُّفُه في بداياته على من يعتبره أستاذه وملهمه الأول، أنور أحمد قاسم. تكمن الأهمية في غرابة الاختيار بالنسبة لسمّيعة كبار مطربي اليمن وقتها -أي الخمسينيات، حين تعرف على قاسم، فقد كان هناك محمد جمعة خان، مطرب الدان الحضرمي- مكان تخصص أبوبكر- الأول، وصالح العنتري الذي اعتُبر أهم أستاذ لكل من جاء بعده، ومحمد مرشد ناجي المطرب المتمكن من كافة ألوان الغناء في اليمن أداءً وعلمًا حتى أصبح من أهم الكتاب والباحثين في الغناء اليمني، وأحمد عبيد القعطبي الذي يعتبر بالإجماع أستاذ أنور أحمد قاسم الأول، خاصةً بحرص قاسم على استلهام أدنى تفاصيل الغناء والعزف من القعطبي لدرجة الخلط بينهما لدى سماع التسجيلات القديمة. لِمَ اختار أبوبكر نسخةً عن القعطبي، بينما الأصل موجود؟
بين ما سجله القعطبي وأعاد أنور أحمد قاسم تسجيله، قصيدة "ملك الفؤاد وقد هجر" من كلمات عائشة التيمورية وألحان القعطبي (ربما الأصل هندي أو اللحن متأثر بالموسيقى الهندية). لدى مقارنة النسختَين، نلاحظ تفوق القعطبي أداءً وعزفًا، لكن أمرًا غريبًا يلفتُ المستمع ويجذبه لإعادة الاستماع في نسخة قاسم. لدى السماع بتأنٍّ نجد أن ذلك الأمر هو تطويرٌ ما أحدثه قاسم في اللوازم القصيرة والطويلة، فأصبحت القصيرة أشبه بجوابٍ مبتكر للجملة المغناة، بينما لا يكتفي في الطويلة بعزف لحن المذهب أو التقسيم (البديع) كما في نسخة القعطبي، بل يضيف إليها ويفكك تفاصيلها ويعيد تركيبها. هذا مذهبُ أبوبكر الذي لازمه حتى وفاته، والذي يمكن لمسه بوضوح في حيوية توزيعاته والصولوهات البديعة في أغانيه، ما جعله يضاعف إفادته من الموسيقى اليمنية وتراثها. فقد أنتجت الطبيعة التكرارية في التراث اليمني حرصًا على أن يكون للحن المكرر جاذبية استثنائية، تجعل المستمع نفسه يطلب هذا التكرار ويذوب طربًا كلما زِيْدَ منه، ليأتي أبوبكر بذلك اللحن الملفت ويُضيف إليه حذاقته في تطوير اللوازم والتوزيع واستثمار كل آلة على حدة، فيجبر المستمع على ألّا يكتفي بالتكرار ضمن الأغنية نفسها، ويعيد الأغنية كاملةً مرارًا مهما كان طولها، كما في: "غزاني الشيب"، "يا زارعين العنب"، "يا مسافر"، "يا عين لا تذرفي الدمعة"، و"سير وتخبر".
مثالٌ آخر نجده في مقارنة أبرز ثلاث نسخ -بعد الأصل- لأغنية "يا نسيم الصبا" من كلمات يحيى عمر اليافعي وألحان القعطبي. سجلها بدايةً أنور أحمد قاسم، على عوده وبمصاحبة آلة إيقاع ومزمار، ثم غناها محمد مرشد ناجي على عوده مع إيقاع وناي وفرقة وتريات، وأخيرًا محمد عبده مع عود وإيقاع وكمان وأورج. بين اختيارات الثلاثة للتوزيع بقي اختيار قاسم الأبسط هو الأجمل والأكثر حيوية، إذ لا يمكن تخيل آلة تقدم ما قدمه المزمار في نسخته. بسماع المثالَين السابقَين، بالإضافة إلى "قد أذقت القلب" و"فدتك الجوانح" من قاسم، ومعرفة كونه صاحب أول مشروع تحقق لفرقة موسيقية كاملة من الآلات الفلكلورية في اليمن، يمكننا أن نعتبر أن أبوبكر كرّم أستاذه وملهمه الأول بنجاحه، ففي حين انحلت الفرقة التي حلم بها قاسم طويلًا بعد وقتٍ قصير من تأسيسها، أصبح أبوبكر من آباء الأغنية الخليجية الخالدي الذكر.
غياب الدعم اللازم الذي أدى إلى انحلال فرقة قاسم مثالٌ مهم على ما كان ينتظر أبوبكر لو بقي في اليمن. لكن أبوبكر لا يُلام عادةً فقط على اغترابه، بل وعلى نجاحه. ربما يرتبط الأمر بفترة حساسة في تاريخ اليمن هي التي بزغ فيها نجمه بسرعة قياسية. ففي عام ١٩٦٢، بعد عام واحد من سفره إلى لبنان، قامت ثورة ٢٦ سبتمبر في اليمن مشعلةً حربًا استمرت لثماني سنوات وخلّفت مئات الآلاف من الضحايا. كانت تتوالى إصدارات أبوبكر الضاربة خلال الحرب حتى كُرّم عام ١٩٦٨ بالأسطوانة الذهبية من شركة أسطوانات يونانية، بعد بيع أربعة ملايين نسخة من أغنية "٢٤ ساعة".
كانت أنجح أغانيه وقتها أكثرها خفة وإبهاجًا، مثل: "تسلّى يا قليبي"، و"إمتى أنا اشوفك"، و"٢٤ ساعة"، و"شلنا يا بو جناحين"، و"يوم الخميس". ما جعله عرضة لانتقادات الإعلام العربي بعناوينها المعتادة، التي اعتبرت "الإسفاف والابتذال" أسباب نجاحه الأولى، متجاهلةً قدر الذكاء في دخوله السوق وقتها بأغانٍ كهذه تجمع الخفة والحداثة مع الفن الكبير، مقدمةً صوتًا فريدًا بوضوح.
أنمت تلك الانتقادات داخل أبوبكر إحساسًا بالذنب كبُر معه. فنجده ينتقل من: "ما في شك إن الأغنية الخفيفة، لما تيجي من الشباب، ولو إنها طبعًا تنقصها الخبرة الفنية وفيها ضعف شوية، لكنها صادقة؛ ودائمًا الأغنية لو فيها صدق سواءً الشعر أو اللحن تكون أحلى. فأنا يبدو لي إن قديمي أحلى من جديدي"، في مقابلته على تلفزيون عدن عام ١٩٨٣، إلى: "القديمة فيها كثير من الاستسهال والسرعة في الأداء. إنما الجديد فيه التؤدة، فيه التمعّن. ما في شك إنه اختلاطي وخبرتي مع كثير من الموسيقيين العرب الإخوان علمني الكثير ولا أزال أتعلم الكثير. يبدو لي إنه جديدي أحسن من قديمي"، في مقابلته على تلفزيون اليمن عام ١٩٨٧. ثم "طبعًا مع الشبابية في هذيك الأيام في بيروت أنتجت أغاني كثيرة، الآن لما اسمعها ما افرح بها. أقول يا ريت ما عملتها"، في مقابلته على تلفزيون سلطنة عمان عام ١٩٩٤. ربما لهذا السبب تحوّل من ذكر أغنية "يا ورد ما احلى جمالك" (كلماته وألحانه) على أنها أولى أعماله، إلى ذكر قصيدة "أقبلت تمشي رويدًا" (كلمات حسن البصري وألحان أبوبكر) على أنها الأولى، مستبدلًا البساطة بالفخامة. رغم أن من عزف العود مع أبوبكر لدى تسجيل "يا ورد ما احلى جمالك" كان أستاذه وملهمه أنور أحمد قاسم.
أولئك الذين يربطون شهرة أبوبكر بالتنازل الفني في بداياته، يستشهدون عادةً بأمثال أحمد بن أحمد قاسم (لا علاقة له بـأنور أحمد قاسم سابق الذكر)، محمد مرشد ناجي ومحمد سعد عبدالله، لكون شهرتهم متواضعة نسبيًّا خارج اليمن اليوم؛ رغم أنهم -بحسب المنتقدين- ليسوا أقل منه اهتمامًا بجودة وحداثة ما يقدمون. تُسقِط هذه المقارنات كل ملامح خصوصية تجربة أبوبكر تقريبًا. فبدايةً بالصوت، كانت مواصفات صوت وأداء أبوبكر جديدةً كليًّا، وغريبةً عن وسط الغناء اليمني تحديدًا.
ملك أبوبكر مساحة صوتية استثنائية، وقدرة لافتة على التنقّل وأداء القفزات ضمنها بين أخفض قرار وأعلى جواب بأسلوب أداء بارز الخصوصية، يبتعد فيه عن الاستعراض الذي تغري به قدراته ليوظّف تلك القدرات في خدمة النص، جامعًا تفاصيل الأداء اليمنية التي قد لا يُدرك جمالياتها الكثيرون خارج اليمن، إلى جانب التفاصيل الانفعالية شبه عالميّة التأثير، كهمسه شَجَنًا مرة، ووعظًا مرة، وتنهيداته وصيحاته. لم يتوفر مقابلٌ لذلك حتى عند فنانين بوزن قاسم وناجي وعبدالله. ما منح أبوبكر مساحةً انفعاليّة أوسع، فأصبح من الصعب سماع العديد من أغانيه إلا منه، مثل "شل صوتك وسيبوه"، خاصةً مع تميز وعمق القرار عنده بحيث يشعر المستمع لدى انتقاله إلى أخفض قرار وكأن الكلمات تصدر من باطن الأرض، ويجب بالتالي الإصغاء لما يقال، فحمل أداؤه لأغاني الحكم الحياتية والشعبية شيئًا يشبه الوصاية المستحقّة.
جانبٌ آخر لا يقل أهمية في الشخصية الغنائية لـ أبوبكر هو حضوره على المسرح، وهو ما يغيب عن حضور أحمد بن أحمد قاسم أو ناجي أو عبدالله برصانتهم التقليدية. ينطبق ذلك على حضوره أمام الكاميرا (بمعايير ذلك الزمن)، خاصةً في أغانيه المصورة من الستينيات وبداية السبعينيات.
هناك ثلاث نقاطٍ أخرى تقدّم -مجتمعةً- أبوبكر على جميع منافسيه. الأُولى: اختياراته التي اتسعت لتشمل كل المواضيع المتاحة، الحب والوطن والغربة والحكم الشعبية والتراث، بمعظم اللهجات اليمنية وبالفصحى، بألحانٍ إن سلك فيها طريق الخفة تفوق على الجميع حيويةً وتفاعليّة (يا سلوة الخاطر، يا مروح بلادك، يا حامل الأثقال وفي سكون الليل)، وإن سلك طريق الفخامة التأليفية نافس أكبر موسيقيي عصره (التقينا وافترقنا، بهزك غصن القد، أعيش لك وإنتي وين).
كان طموح أبوبكر دومًا يشمل ما وراء جماهير الجزيرة العربية، فإن كان النص الذي بين يديه يحتمل بعض التبسيط ليصل إلى جمهورٍ أكبر بسّطه، وإن كان محليًّا قُحًّا تركه على حاله واكتفى بجاذبية اللحن والأداء، والتوزيع، وهو النقطة الثالثة وموضع تفوق أبوبكر الأهم في هذه المقارنة.
تعتبر الموسيقى الآلاتية عند أبوبكر سالم مطربًا آخر لا يقل أهميةً عن صوت أبوبكر نفسه، وحاملًا لخصوصية محلية. إلى جانب اختيارات الآلات المحلية، يمكن اعتبار الصولوهات بصمة أبوبكر التوزيعية الأبرز، والتي لطالما أبدع في توظيفها، إلّا مع آلة واحدة هي الأورج، حيث لم يوفق في توظيفه له إلا في مرات معدودة على مدى مسيرته، كما في "عشقة الخرد" و"يا ويل المولع" و"سير وتخبر"، وجاء دخيلًا على النفس المحلي في أغانيه.
هناك عاملٌ آخر يُكتفى به عادةً لدى الحديث عن أسباب تفوّق أبوبكر، وهو الثنائية التاريخية التي شكلها مع الشاعر والملحن اليمني الحضرمي الكبير حسين المحضار، التي وصلت لدرجة من التلازم، زاد معها الخلط بينهما لدى محاولة الفصل بين كلمات وألحان كلٍّ منهما في نتاج أبوبكر، كحال الأخوين رحباني.
لا شك أن للمحضار نصيبًا كبيرًا من الفضل في إرث أبوبكر، لكنه لم يقصر قصائده وألحانه الغزيرة على أبوبكر. كان المحضار ملحنًا استثنائيًا لا يعزف على أي آلة موسيقية، صاحب موهبةٍ موسيقيةٍ كبيرة دون الرؤية الموسيقية، فجاءت رؤية أبوبكر لتصل بكلمات المحضار وألحانه إلى أقصى إمكانياتها. نجد خير دليل على ذلك في المقارنة بين نسخ محمد جمعة خان ونسخ أبوبكر للأغاني المحضارية ذاتها، مثل رضى الهاشمي، بالأغاني التي غناها محمد سعد عبدالله أيضًا، "ما مع العاشق"، "سلم حتى ولو بكف الإشارة"، "يا رسولي توجه بالسلامة"، "بشراك"، "الكوكب الساري" و"عيني تشوف الخضيرة".
قد تكون أكثر زاوية مثيرة للحديث عن تجربة فنان بحجم أبوبكر هي البحث عن جانبه المظلم، القادر على الاستئثار بالفرص بأساليب لا يعوزها المكر، الذي اعتدنا ترافقه مع تحقيق المطرب نجاحًا استثنائيًّا، كما في حالة أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم مثلًا، لكن مواقف هذا الرجل وردوده تجهض كل محاولات البحث هذه. فرفَضَ تسميته شاعرًا غنائيًّا وإن كان لا بد فـ"شويعر"، رغم أنه كتب على الأقل نصف أغانيه، وإن سُئل عمن يحققون من وراء أغانيه كسبًا ماديًّا وجماهيريًّا دون استئذانه، قال هذا حبٌّ منهم لفني في المقام الأول وقد يُحسنون أكثر مما فعلت، ثم ختم الحديث بعتاب المُحِبّ بخصوص الاستئذان، رغم الثروة التي أمكنه الحصول عليها إن سلك طريق الدعاوى القضائية، عدا عن الإفادة من التغطية الإعلامية لأمرٍ كهذا؛ وإن وُصف بالريادة أو الاحتراف، رفض الوصف وأكد أنه يحاول ما في وسعه، واعتذر عن التقصير إن وُجِد؛ ولو حاول محاوره تملقه بذكر جوائزه وإنجازاته، حجّمها منعًا لسوء الفهم والتضخيم في غير محله، كما حين بيّن أن فوزه بالأسطوانة الذهبية كان عن توزيع أربعة ملايين نسخة لأغنيته، بينما فوز عبدالحليم بالجائزة نفسها في العام ذاته كان عن توزيع قرابة ثلاثين مليون نسخة، رغم أن محبيه يفضلون ذكر فوز الاثنين بالجائزة نفسها في العام ذاته دون بيان هذه الأرقام للإيهام بأن شعبية أبوبكر نافست شعبية عبدالحليم وقتها. كذلك حين سُئل عن تصنيف اليونسكو له كثالث أفضل صوت في العالم، حرص على بيان أن المعيار لم يكن الجمالية أو المستوى الفني، وإنما كان تقنيًّا بحتًا ومتعلقًا بمساحة الصوت.
حين ناهز الستين من العمر وسُئل عن رأيه بـ"هبوط" فن الجيل الجديد، أجاب ببيت الشعر: "رُبَّ يومٍ بكيتُ منه / ولما صرتُ في غيره بكيتُ عليه"، وأكد أن الانتقاد ذاته طاله في شبابه، وأن لكل زمانٍ أهلَه. كل هذا بالإضافة إلى دعمه كل موهبة شابة رأى فيها ما يحب؛ ما أثمر عدة أصوات مهمة متسيدة على الساحة الخليجية اليوم، مثل عبدالمجيد عبدالله وعبدالله الرويشد وراشد الماجد ونبيل شعيل. حتى الحفلات التي تمثل عاملًا جوهريًّا في الانتشار كان مقلًّا فيها، راضيًا بما وصل إليه، وحريصًا على ألّا يضر انشغالُه بفنه علاقاتِه.
لم يخطف أبوبكر من منافسيه الفرص أو يحجبها عنهم، وإنما استمر بصنع فرصه هو. غادر اليمن أيام المملكة المتوكلية التي أقامت كل الحواجز الممكنة بين اليمن والعالم الخارجي في الشمال، بينما يسيطر الاحتلال البريطاني على الجنوب، حاملًا على ظهره موروثًا هائلًا من الموسيقى، وأحلامًا وخططًا كبيرة؛ وكغيره ممن سلكوا طريق السفر ذاته، أحب ذلك الموروث ورأى فيه إمكانياتٍ لا حدود لها، لكنه على عكس الباقين، ملك الرؤية اللازمة لاستثمار تلك الإمكانيات بإضفاء قابلية جماهيرية استثنائية عليها، فأصبحت الإيقاعات غير المعروفة سابقًا خارج اليمن مألوفةً وجذّابة، وأصبح فن أبوبكر بابًا إلى الغناء اليمني القديم بأساليب الأداء والأنغام والإيقاعات الفريدة، والتي كانت ستتطلب دونه تعويدًا وتثقيفًا ليس لجيله ولا لجيل اليوم جَلَدٌ عليها. بالنتيجة تحولت أنظار الملحنين الخليجيين الناشئين من مصر ولبنان إلى اليمن، وولدت الأغنية الخليجية.
حين انتهت الحرب وأُعلنت الجمهورية اليمنية لم يعد أبوبكر. اعتُبر بالنتيجة ابنًا ضالًّا، بينما أشيد بفنان مثل محمد مرشد ناجي كابنٍ بار، وحين نشاهد مقابلة ناجي الأخيرة حين ناهز الثمانين (بين عامَي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩)، نجده يشكو من عدم تواجد الرعاية الموسيقية في اليمن وعدم قيام الحفلات وتدريب المغنين على الأداء مع فرقة موسيقية. كان أبوبكر على حق. لكن لعنة الغربة طاردته في المهجر أيضًا، فبعد مرحلة التأسيس والانتشار التي امتدت لـ١٥ عامًا في لبنان، حصد خلالها أمجادًا قلّما وصل إليها فنانٌ في جزيرة العرب، قامت الحرب الأهلية فترك لبنان إلى السعودية.
لشدة تعلق أبوبكر بذكرياته في لبنان بدا وكأن الزمن توقف عندها، وكأنه ترك شبابه هناك وشاخ بعد هذه الهجرة، ففارق الموسيقى والغناء لست سنوات، واستمرت حسرة الماضي في إثقال تطلعات المستقبل حتى وفاته. فبكى حين سمع صوت عزيزة من أيام الشباب في لبنان، وحين وجد ترحابًا وحبًّا من جمهور حفلته الأولى في صنعاء، وحين كُرّم بالدكتوراه الفخرية من جامعة حضرموت، خاصةً أنه نال هذا التكريم في البلد التي هجرها، ولم ينل مثله في البلد التي اختارها وطنًا ومثوًى أخيرًا بعد كل ترحاله، وكتب ولحّن وغنى أحد أهم أناشيدها الوطنية، السعودية. عاصر أبوبكر اثنتين وثلاثين دورة من مهرجان الجنادرية السعودي، لكنه لم يُدْعَ للمشاركة ولم يُدْعَ حتى كضيف؛ وبدل محاولة تغيير ذلك عن طريق علاقاته اكتفى بالصمت، الذي لم يكسره إلا بيتَي شعرٍ للعتاب بعد الإصرار على أن يُبدي موقفًا:
"أيا من صادني باللحظ مهلًا / فها قلبي تخرّق بالسهام
فخذه وغربل العشاق فيه / تجدني الزبد من أهل الغرام".
في يوم العيد الوطني السابع والثمانين للسعودية، ولدى تشغيل نشيد "يا بلادي واصلي"، فوجئ الجمهور بظهور مُبدع النشيد على المسرح لتكريمه، تغالب فرحته مرضه الذي جعلهم يرونه لأول مرة على كرسيٍّ مدولب. في النهاية، اختير تكريمُ أبوبكر ليكون عيدًا للوطن الذي قضى فيه أكثر من نصف عمره. بفضل هذا التكريم قابل أبوبكر جمهوره للمرة الأخيرة، غنى، وفي واحدٍ من أكثر المشاهد الحقيقية المؤلمة على الإطلاق، لم يساعده صوته على إكمال الأغنية فتوقف، ثم ختم قرابة ستة عقود ملأ خلالها بصوته الدنيا بجملة: "معلش، صوتي يا حبايبي".