عبدالواسع ..

وما أدراك ما (سُبْلَة)!
عبدالرحمن بجاش
August 13, 2023

عبدالواسع ..

وما أدراك ما (سُبْلَة)!
عبدالرحمن بجاش
August 13, 2023
.

كان يجلس كالعادة قبل ظهر يوم صيفيّ ماطر أمام باب درج طابق الدار الثاني، ربما لضبط حركة الأولاد الصاعدة الهابطة.

ذلك اليوم بالتحديد لم يأتِ أحدٌ منهم. حدّث نفسه:

  • ربما هم في "الكَرِيف" يسبحون.

صاح بأعلى صوته:

  • يا مرة، أَخِّري الغداء حتى يعود العيال.
  • تمام.

ردت فاطمة، وعادت إلى المطبخ، هنا في قرانا يسمونه "المِنداد".

غفَا قليلًا، صحَا على وقع أقدامها، ذهبت، عادت، وجدته يصيح:

  • لحظة الراجل طالع، لا تظهري.

أطلّت برأسها، قالت:

  • لا يوجد أحد.

وذهبت.

عادت، ليرتفع صوته:

  • انتي ما تستحيش، راعي الرجال طالع.

عادت تنكر وجود أحد.

ظل يحذرها من المجيء: "الرجال طالع؛ ما تشوفي؟!".

ذهبت إلى مطبخها، عادت لأنه صمت أكثر من اللازم.

وجدته ميتًا!

من دار أحمد سلام وإلى كل القرى التي تحيط بها الزراعات، يرددون الحكاية إلى اليوم:

  • أكيد الذي شافه عبدالواسع سبلة هو عزرائيل بشحمه ولحمه...

* *

خمدت الحياة في الصندوق الحديدي الكبير الذي أتى به محمد الحاج من مخلفات مؤسسة المياه، ليحوله سُبلة إلى ملتقى للشباب عصر كل يوم ومكانٍ لتسليم عائد ماطور الكهرباء.

انطفأ المكان، بانطفاء حياة سبلة الذي شغل الدنيا والآخرة؛ كما كان يردد درهم المجيدي.

ليس درهم وحده من كان يضايقه وجود "سُبلة"، الآخرون كذلك، كلٌّ يعبر عن عدم رضاه عنه بطريقته.

لكنهم بمجرد مرور أيام على موته، بدت لهم الحياة اليومية جافة بدونه.

كنت كلما التقيته، يهمس في أذني:

  • "ليت الشيخ يموت". يقصد عمي عبدالوهاب (رحمة الله عليه)، ويعود يقولها:
  • "نفسي يموت الأعرج. شاورّيك كيف شَفْعل بمحمد الحاج". لكنه تُوفِّي قبل عمي.

الثلاثة البررة في صنعاء حزنوا بطريقتهم على عبدالواسع، ولا يزالون يتذكرون كيف كانوا يفعلون به:

استطاع أن يشتري سيارة "بيجو"، وصار يؤجرها على طريق صنعاء-تعز، وصارت عنوانًا لسُبلة، وصارت الزاوية الكائنة شمال دكان علي لقطع غيار السيارات ملكًا له، "يا ويل من يقف عليها"، هنا تسمع قطعًا من الشتائم التي تظل عالقة في أذنيك لجمال معانيها طوال العمر.

عند الثالثة عصرًا، يركن البيجو، يعدل جلسته بحيث يرتزح (يستند) ظهره إلى باب السائق، يفتح المسجل على صوت أيوب، ويبدأ مشواره اليومي مع القات "الصوطي"، أقول:

  • يا عبدالواسع، الصوطي يجنن بالواحد.

يضحك:

  • يا ابن الشيخ، مستقبلي مضمون، الله يخلي علي.

ما إن يبدأ ينسجم مع كل ما حوله، حتى يسمع طرقًا خفيفًا من وراء ظهره.

يلمح الطارق، يدري أنه أحد البررة الثلاثة من أولاد الخال أولاد الحاج:

  • هيا أيش قد في؟ بتخلّوا لي حالي؟

يكون زجاج السائق مفتوحًا بعض الشيء:

  • أيش قلت؟
  • انتبه لبابور الحاج.

هنا تبدأ الحكاية ...

يلتف بجسده ليوجه لمن قال إنّ البابور حق الحاج، ما تيسر من أزكى الكلام وأشهاه.

قال الحاج وكان الجميع في ديوان شقة عبدالجليل:

  • يا اولاد هاتوا "متافل" للمخزنين. 

لبوا النداء. أمام عبدالواسع وضعوا "بالدي" إلى نصفه تراب!

كتمت ضحكتي، لكن صوته تهادى معبرًا عن اللحظة:

  • مش قلت لك يا ابن الشيخ إنهم "..."، ما همش عيال الحاج.

شعرت بالبرودة تسري في ركبي:

كيف أضحك والحاج موجود.

وجدت الحاج نعمان يضحك بشدة لأنه سمع ...

كان الحاج رجلًا مكتمل الصفات، يعرف أنّ ابن أخته يجمع في شخصيته كل "الملاح والخياب"، ولذلك تراه يضحك للنكتة مثل التي رآها وسمعها. ورث صفاته من والدته (فُنُون) التي جاءت مع والدها الفقيه من عُتمة إلى صبر إلى كدرة قدس، لتتحول في بضع سنين إلى أحد كبار ملاك الأراضي، قالوا إنّ فنون كانت تجالس الرجال وإن عبدالله عثمان جلس في دارها مع عسكر الإمام عندما جاؤوا ينفذون خطاطهم على قدس بتهمة أن الأقدوس قتلت عسكري الإمام، راجت من بعد تلك الحادثة ما يردده الناس إلى اليوم "قدس... نجس ...".

تُوفيت فنون عما يقارب الـ112 عامًا، وأنجبت الحاج و"نُعم" أم عبدالواسع.

و(نعم) كانت من تلك النساء اللائي كل واحدة منهن تساوي عشرة رجال، كان لها حضورها وهيبتها.

  • هيا يا ابن الشيخ ننزل رجل إلى شارع عبدالمغني، أنا فدى لك، نودّي الكوت يتغسل عند غسالة البعداني.

يومها كانت غسالة "سايك" الأتوماتيكية الوحيدة في صنعاء.

قلت:

  • هيا، على أرجلنا.

انتبهت عند فندق الزهراء أن عبدالعزيز انضم إلينا، همس سُبلة في أذني:

  • أيش جاب أمه.

ضحكت. مددت بالكوت إلى يد صالح البعداني:

  • باسم من يا بجاش؟
  • باسم ... 

قطعني صوت عبدالعزيز ضاحكًا:

  • باسم الزَّمّار

ابتسم البعداني:

  • الزمار.

علق سُبلة سريعًا:

  • هذا كان ... أمه في عدن.

ضحكت لحظتها حتى تعبت.

   * *

ذات صباح، جاء عبدالواسع بعربية إلى بيت خاله الحاج وتشرف على "كلية بلقيس"، سألته أم عبدالحكيم وكان لا يزال طفلًا:

  • العربية لأيش يا عبدالواسع، الحاج يشتي يحمل فيها أي شيء للمخبز؟

رد سريعًا:

  • هذه حقي، أيش رأيك أشل فيها عبدالحكيم أمشيه.

فرحت الحجة:

  • الله يجعل رزقك مثل السيل الجارف.

وكل صباح يأتي ويأخذ عبدالحكيم.

بمرور الحاج وبالمصادفة في ذلك الشارع من شوارع الشيخ عثمان شاهد العربية وعليها عبدالحكيم أمام أحد الدكاكين، اقترب وبدون أن يحس عبدالواسع، سمعه وهو يقول لصاحب الدكان:

  • تصدقوا على اليتيم.

كاد الحاج أن يُجن، عاد إلى البيت:

  • يا مَكْلف، أين ابنك؟

ردت بارتياح:

  • مع عبدالواسع، الله يرزقه.

رد الحاج وقد حاول أن يكتم غيظه:

  • الله يرزقكم الثلاثة من الدكاكين حق الشيخ.

"وين عاده سبلة، وين يوجعك يا عبدالواسع...". 

* *

  • يا ابن الشيخ ما عاد لي جلوس في صنعاء.
  •  طيب وإلى أين؟
  • بتجي معي الحديدة.

كانت المدينة الساحلية تعيش أحلى أيامها.

  • مقدرش أجي...

ييمم وجهه ومقدمة البيجو غربًا.

* *

يحل رمضان ضيفًا على صنعاء وبقية البلاد.

عصرًا، أذهب إلى دكان علي، أجد البيجو الأخضر أمام العمارة:

  • إذن صاحبي مثل الدِّم الذي يحب خانقه.

يدوي مدفع الإفطار، تجد الجميع يسألون عنه. يفتح عينيه يبحث عني:

  • أين ابن الشيخ؟

ينادونني، أذهب إليه ضاحكًا أسأله:

  • احميني من "...". 

نصعد إلى الأعلى، نتناول إفطار رمضان الذي يشهد فيه الجميع على ما يتيسر من الفعل وردات الفعل.

* *

يدوي المدفع مجددًا.

أكون أمام الدكان، يبدأ الجميع عجلين يتسابقون إلى الإفطار. يدوي صوته:

  • يا ابن الشيخ، الحقني.

أردد أنا:

  • يا الله، أغثني من عبدالواسع ومشاكله.

هرع إلى داخل الدكان إلى حيث ينام في غرفة تشبه البدروم وراء التخشيبة:

  • أيش؟

لأفاجأ بما جعلني موزعًا بين الضحك والألم، فقد تدلت شفته السفلى وارمة وعجيبة:

  • مالك؟

عبدالواسع يفتح عينيه على قصعة "الشمّة" العدني، لا يهمه شيء آخر، الخرمة لها أحكامها وضرورتها:

  • مالك؟ أيش في؟ من فعل بك هذا؟
  • أولاد الحرام ما فيش غيرهم.

تناول إفطاره بصعوبة.

بعد الإفطار، مسك بيدي:

  • ودّيني عند الدكتور وبرجع لأولاد الحرام.
  • طيب أيش حصل؟

- من شقاوتهم (الأفطس وعبدالحكيم وعبدالعزيز) راحوا اشتروا بسباس حيمي مطحون، وفي غفلة مني سرقوا القصعة وخلطوا الشمة بالبسباس.

ما عاد دريت كيف أضحك، ضحكت حتى دمعت عيوني.

* *

في تلك الصندقة كما كان يسميها الذين يأوون إليها في أماسي آب الماطرة ليسمعوا ويضحكوا، توقف الزمن لحظة أن عادت زوجته، فوجدته قد غادر دنيا عركته وخاضها بطريقته.

ترك دستة أطفال لنصيبهم في الحياة.

ظل كلما حضرت إلى ذهنه، اتصل بي:

  • آه، ليت الشيخ يموت.

وأضحك أنا.

كان للقدر رأي آخر، فقد تُوفِّي قبل الشيخ.

وأنا افتقدته.

ظللت، طوال حياته، أتعامل معه من منظور يخصني.

ربما كثيرون لم يكونوا راضِين عنه، لكنهم حزنوا لغيابه.

زمنه كان أجمل من هذا الزمن الصغير.

في شخصيته اجتمعت كل المتناقضات، لكنني وجدت طريقًا لأصل إليه.

رحمك الله يا عبدالواسع أحمد سلام.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English