عبد الرحمن الرَّيمي

فتح ذراعيه لمعانقة حياة سبتمبر الجديدة
د. علي محمد زيد
July 25, 2024

عبد الرحمن الرَّيمي

فتح ذراعيه لمعانقة حياة سبتمبر الجديدة
د. علي محمد زيد
July 25, 2024

كان عبدالرحمن إسماعيل نورالدين (المعروف باسم عبدالرحمن الرَّيمي) أحد من فتحوا أذرعهم لمعانقة الحياة الجديدة بقيام الجمهورية سنة 1962، فكان من أوائل مَن استجابوا لنداء الجمهورية من ريف ريمة، واعتنقوا بسرعة مبادئها ورفعوا شعاراتها المبشرة بالتغيير ومغادرة سجن ماضي الجهل والفقر والمرض. 

فقد التحق عبدالرحمن الريمي بعاصمة الجمهورية في صنعاء ودخل التعليم الحديث الذي أوجَدَتهُ الجمهورية لأول مرة في تاريخ اليمن، وكان أحد علامات التحول الكبير الذي أحدثته الجمهورية ونقلت به اليمن من شيوع الأمية والجهل والعزلة إلى أن يصبح التعليم حقا لكل طفل وانفتاح البلاد على العالم الحديث في المجالات الثقافية والاقتصادية والسياسية.

كان مِن أبرز طلبة أول دفعة في أول مدرسة تم بناؤها في مكان الخراب الكبير الذي وجَدَته الجمهورية ممثلا بانعدام المباني المدرسية ومقرات المؤسسات الحكومية وغياب النمو الحضري عموما. إنها مدرسة الثورة الإعدادية الثانوية التي تغيَّر اسمها في مطلع سبعينات القرن الماضي إلى مدرسة جمال عبدالناصر اعترافا بجميل مصر في عهد عبدالناصر التي بنت بصورة مستعجلة ثلاث مدارس في صنعاء وتعز والحديدة وساعدت في تطوير التعليم وتحديثه ليستجيب لحاجة الأجيال الجديدة لمغادرة سجن الماضي المظلم. فقد وضع التغيير التعليمي الجمهوري نهاية لاقتصار التعليم على معلامات نادرة لا يزيد ما تُعَلِّمه على القراءة والكتابة ولا تتجاوز القسمة في الحساب، وكان تعليم الدين واللغة العربية محصورا في بعض المساجد وبعض الفقهاء، يسعى إليه القليل من ذوي الهمم العالية ومَن يمتلكون القدرة والصبر على المكاره لاكتساب شيء من التعليم الديني. وجاء التعليم الجمهوري الحديث ليضع نهاية لغياب التعليم العام الذي يشمل البلد كله. واضطرت مصر بسبب غياب المعلمين المؤهلين والإدارة المدرسية المجرِّبة لأن ترسل من القاهرة معلمين أكْفاء لإدخال التعليم الحديث في المدارس الثلاث التي بنتها لتكون نموذجا يتم تطوير التعليم في اليمن وتحديثه من خلال تعميم تجربتها. وقد عُرِف عبدالرحمن الرَّيمي في تلك المدرسة باعتباره طالبا مميَّزا، حاد الذكاء، نحيل الجسم، مقبلا على التعليم وعلى المعارف الحديثة باندفاع وشغف.

 البحث عن المعرفة 

وكان لا بد لي أن أعرفه، أنا القادم، بعد قيام الجمهورية بسنة، من ريف ريمة المعزول إلى مدينة صنعاء التي لا أعرفها، لأنه من أنجح الطلبة وأذكاهم بحيث يمكن أن يكون قدوة في الإقبال على التعليم والبحث عن المعرفة، وهو طالب مُجِد ومثابِر بلا كَلَل على التحصيل العلمي يرغب أي طالب طموح في التعرُّف عليه والاقتداء به، وهو بالنسبة لي أيضا ابن إسماعيل نورالدين، أول عامل (مدير) جمهوري في ناحية (مديرية) الجعفرية، كنت أشاهده حين يخرج من مركز الحكومة غير البعيد عن بيتنا. وعلمتُ فيما بعد أن الجمهورية عيَّنَت ابنه محمد إسماعيل عاملا في ناحية السلفية. 

ومع أن عبدالرحمن الريمي كان يسبقني في سنوات الدراسة، كان الإقبال على القراءة والتوق للحصول على الكتاب الوسيلة التي قربتني منه وربطت بيني وبينه. فإلى جانب حرصي وحرصه على التفوق في الدراسة كلٌ في صفِّه، كان بالنسبة لي مكتبتي التي أستعير منها الكتب للقراءة والاطلاع لأنه كان يستطيع الحصول على الكتب بانتظام ويحرص على قراءتها إلى جانب الكتب المدرسية حين كان الكتاب المدرسي الذي يعتمده النظام التعليمي في يمن تلك الفترة المبكرة ما يزال الكتاب المقرر على المدارس المصرية، لأن اليمن لم تعرف الكتاب المدرسي قبل قيام الجمهورية، ولم يكن فيها أي نظام تعليمي لا قديم ولا حديث. 

بدا لي عالم عبدالرحمن الريمي في البداية أوسع من عالمي وأفقه أرحب من أفقي، فكان لذلك مرجعي لتفسير ما يبدو لي عسيرا على الفهم في الحياة الجديدة من حولنا وفي العالم العربي والعالم الأوسع. وكان يتطوع بالتفسير والتوضيح بجرأة بدت لي في غاية الإقدام والثقة بقدراته وبمعارفه. وبمرور الأيام اقترح أن نتشارك حين يتاح لنا الوقت في قراءة الكتب معا، بحيث يقرأ أحدنا نحو نصف ساعة، ويقرأ الآخر نصف ساعة، ونلخِّص ما قرأنا لنتأكد من أننا فهمنا ما نقرأ ولم نمر على ما نقرأ دون فهم. فقد كان المضمون والاستفادة المعرفية ما يهمه وليس فعل القراءة فقط. وكان يسخر ممن يقرأون ولا يهتمون بالتأكُّد من أنهم فهموا ما قرأوا، ويتساءل لماذا يشغلون أنفسهم بتمثيل مشهد القراءة دون فائدة تذكر.

كان يأخذ نفسه بصرامة في الاجتهاد والمثابرة في التعليم وفي اكتساب المعارف، وكان يقول إن الله ميز البشر بالعقل، فإذا لم يستخدموه أهدروا القيمة الوحيدة التي تميزهم عن غيرهم من المخلوقات. وكان من الشباب الجمهوري المتطلع للحياة الداعي للتغيير والتحديث والتنمية. وكان يصدع بالحق ويأبى الظلم والتسلط، ولا يجامل على حساب الحقيقة.

وعُرِف عنه في تلك الأيام تعلُّقه باللغة الإنجليزية، لا يفارقه كتاب الإنجليزية في الشارع وفي المقهى، وحتى في صالة السينما التي عرفتها البلاد لأول مرة بمجيء المصريين إلى اليمن. وقد استدرجني تعلقه باللغة الإنجليزية للاهتمام بهذه اللغة، فبدأت أحرص على تحسين قدراتي في القراءة والكتابة بالإنجليزية وفهم معانيها وقواعدها. وأحيانا كانت هذه اللغة فيما بعد مصدرنا لتحسين ظروف معيشتنا ونحن طلبة في المدرسة الثانوية، عن طريق تدريسها بعد الظهر للراغبين في دراستها مقابل أجور زهيدة لكنها في ظروفنا كطلبة نعيش في مدرسة داخلية كانت مفيدة في تحسين معيشتنا. 

ومن طرائف هذا التدريس للإنجليزية أن تلميذا مُوْسِرا وكريما طلب مني تعليمه الإنجليزية وأعطاني موعدا لأول لقاء في باب مخبازة بعد الخروج من المدرسة. ومع أن هذا التلميذ كان طموحا، فقد كان كسله يزيد على طموحه. ذهبت إليه في اليوم الأول فعزمني على وجبة غدا دسمة وبعدها قال لي دعنا نؤجل الدرس إلى الغد، وهكذا في اليوم التالي وما بعدها. مضت أيام دون أن أعطيه أي درس سوى محاولتي أن أؤدي عملي بتعليمه بعض الكلمات أثناء الغداء. وفي الأخير دفع لي أجوري فرفضت استلامها لأنني لم أعطه أي درس، ولكنه أصر وأقسم. وحين قال لي نلتقي في الغد اعتذرت له بأن لدي ما يشغلني. وكنت محرجا وأريد أن أساعده فاقترحت عليه أن أرسل له عبدالرحمن علَّه ينجح في إعطائه الدرس الذي يرغب فيه. لكن التلميذ الكسول كرر معه الطريقة نفسها، فلم يتحمل سوى ثلاثة أيام تركه بعدها غاضبا من أنه يهدر وقته دون فائدة تذكر. 

كان رحمه الله يأخذ نفسه بصرامة في الاجتهاد والمثابرة في التعليم وفي اكتساب المعارف، وكان يقول إن الله ميز البشر بالعقل، فإذا لم يستخدموه أهدروا القيمة الوحيدة التي تميزهم عن غيرهم من المخلوقات. وكان من الشباب الجمهوري المتطلع للحياة الداعي للتغيير والتحديث والتنمية. وكان يصدع بالحق ويأبى الظلم والتسلط، ولا يجامل على حساب الحقيقة. ولذلك لم تهادنه الحياة، لكنه صارعها وعاكسته أحيانا. وكان شعلة من طموحات وآمال لتطوير حياته شخصيا، ولتنمية بلاده وتطورها، وتغيير عالم ينبغي أن يتسع للبشر كلهم دون ظلم أو استبداد أو حرمان.

 استخدام رشيد للعقل 

وحتى في دراسته التي كان متفوقا فيها، لم يكن يبحث عن السهولة، بل كان يختار الأصعب وكأنه يجرب نفسه ويجرب قدراته على مصارعة الحياة. فقد حصل على منحة دراسية إلى الجزائر في بداية سبعينات القرن الماضي حين كانت الدراسة في الكلية التي اختارها ما تزال باللغة الفرنسية، وتعلم اللغة الفرنسية أولا لكي يواصل الدراسة. وحين زار الجزائر أحد المسئولين اليمنيين قابله عبدالرحمن وقال له ما دمتُ أدرس باللغة الفرنسية فلماذا لا أذهب للدراسة في فرنسا نفسها. وكان هدفه الازدياد من المعارف ومعانقة العالم الأوسع. وحين وعده بالحصول على منحة إلى فرنسا أسرع بالعودة لمتابعة الحصول على تلك المنحة. وانتظارا للموافقة الفرنسية التي تأخرت عَمِل بالترجمة في وزارة التربية والتعليم. وبعد انتظار دون أن تأتي الموافقة لحِق بنا للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت. وحين قرَرَت الجهة المانحة نقل الطلبة الممنوحين إلى أمريكا بسبب حرب لبنان التي بدأت سنة 1975 وجد أن الجامعة التي نقلوا إليها ذات مستوى متدنٍ، لأن جامعات أمريكا تتدرج من أعلى المستويات في العالم إلى مستويات متدنية، وكل طالب يختار ما يناسب قدراته الذهنية والمالية. ولم يقبل عبدالرحمن الجامعة التي نقل إليها، بل طالب بنقله إلى جامعة أعلى وأهم مع أنه كان يستطيع أن يعود بشهادة مثل غيره ولن يفتِّش بعده أحد، لكنه فضل الفائدة المعرفية ولم يبحث عن السهولة. وهذا موقف يتفق تماما مع ميله لأخذ الأمور بجدِّية وصرامة في كل خياراته في الحياة. 

وكان إلحاقه بالعمل في وزارة الإدارة المحلية أمرا غريبا، لأنه لا يناسبها ولا تناسبه، فكان يتخفف من هذه الوظيفة أحيانا بعمل إضافي بالترجمة لهذه الجهة أو تلك. لكن من المؤكد أنه كان قد استشعر قبلنا جميعا الإحباطات التي بدأت تصدم الشباب الجمهوري المتطلع للتغيير والتطوير، وعانى من خيبة الأمل من عدم تحقيق الأهداف الكبرى التي قامت الجمهورية من أجلها، ومن استمرار غرق اليمن في الحرب الدائمة المتقطعة التي تفرض نفسها على تاريخ اليمن كله وما تكاد تتوقف حتى تعود من جديد في شكل آخر، ففرضت على بلادنا البقاء في آخر قائمة أقل البلدان نموا في العالم وأكثرها فقرا. فمَن من الشباب الجمهوري المتطلع إلى الأمام لم يصبه الإحباط بسبب التحديات الكبيرة التي أعاقت تحقيق الأهداف الكبرى للجمهورية ممثلة في التنمية والاستقرار ومكافحة الفقر والتخلف والانتقال من الاستهلاك إلى الإنتاج وتحسين ظروف معيشة المواطنين. ومَن لم يصدمه انزلاق بلادنا إلى ما هي عليه الآن من تمزُّق وتوقف عجلة الإنتاج والتنمية؟ 

•••
د. علي محمد زيد

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English