حري بأسرة الأدب والثقافة في عموم الوطن، وفي الصحافة العدنية بالخصوص، أن تشعر بالأسى والحزن لفقدان الزميل الراحل عبدالله علوان وتكون في مقدمة مفتقديه؛ لأن الراحل كان واحدًا من هذه الأسرة، وابنًا بارًّا من أبنائها النجباء، وواحدًا ممن جعل كتاباته منذ الثمانينيات من القرن الماضي وشمًا على صدر صفحات الصحف الصادرة في عدن وفي بيته الأثير صحيفة "14أكتوبر".
لم يكن عبدالله علوان مجرد "موظفٍ" في هذه المدرسة الصحفية العريقة، بل كان يحمل صفةً قلما حملها منتسبوها، وهي صفة "محرر بدرجة مثقف".
هذه الصفة لا تندرج ضمن النسق التوظيفي في كشوفات الوظيفة، بل اجترحها بسلوكه وكتاباته وبكونه مثقفًا وناقدًا ومفكرًا ومبدعًا مبرزًا، تجاوز صفة المحرر الصحفي التي حملها الكثيرون في الصحيفة، وفرض نفسه كقلم مبدع وناقد متمرس سطر في كتاباته على صدر الصحيفة الكثير من النصوص والآراء النقدية والإبداعية والإشكاليات الثقافية.
صحيح أنه كان يعد وظيفيًّا محررًا في القسم الثقافي، ولكنه بمقامه الإبداعي والنقدي كان يعلو على الوظيفة، ويسمو فوق أي توصيف وظيفي يمكن أن يطلق عليه؛ لأنه كان من طينة المبدعين والكتاب النقاد لا المحررين الصحفيين الذين يتناوبون على العمل التحريري البحت .
ولا غرو أن كان عبدالله علوان كما كان من قبله، الشاعر والكاتب الراحل القرشي عبدالرحيم سلام منتسبين وظيفيًّا للقسم الثقافي في الصحيفة، ويعادلهما في المقام الشاعر الراحل عبدالله الدويلة والقاص الراحل إبراهيم الكاف وغيرهم، إلا أن هؤلاء جميعًا كانوا رجال ثقافة وإبداع قبل أن يكونوا محررين صحفيين، وهي حالة نادرة في الصحافة الوطنية.
عبدالله علوان بكتاباته النقدية والإبداعية كان أحد المواظبين على تمكين ما تأسس سابقًا منذ تأسيس الصحيفة من حرية نشر في مجالات الإبداع والفكر والثقافة، وأحد المساهمين في خلق مساحة حرية وازنة في نشر الكتابات الإبداعية والثقافية والفكرية لأجيال المبدعين، وخاصة الشباب
ولا انتقاص في هذا التوصيف من قيمة المحرر الصحفي، بل إن القيمة تأتي في علو كعب هؤلاء المبدعين كرجال ثقافة وأدب وإبداع سطروا مكانتهم في أروقتها، وهي ميزة امتازت بها "14 أكتوبر" منذ بداياتها؛ فرئيس تحريرها المؤسس الشهيد عبدالباري قاسم كان أديبًا وقاصًّا، ومحمد عمر بحاح أحد أوائل مديري تحريرها أديب وقاص، والقائمة تطول في ذكر الصحفيين الأدباء؛ لذا جعلت هذه الصحيفة من الشأن الثقافي همًّا تحريريًّا في صفحة يومية ضمن صفحات العدد اليومي، مثلها مثل الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي وغيره من أول عدد صادر.
الراحل عبدالله علوان، كان شأنه شأن الشاعر والصحفي الراحل أحمد مفتاح؛ يتميزان بخلالٍ جمعتهما، مع فروق خاصة بكل شخصية، فهما بوهيميان في التعامل الحياتي، زاهدان عن شغف الدنيا، وعلى غير هلع بالمناصب أو المكانة الوظيفية، وعلى مسافة متساوية مع الكل وبسيطا التعامل والمعاشرة .
كان همّ عبدالله علوان -كما كان أحمد مفتاح- أن يأتي صباحًا إلى مكتب الصحيفة، وفي يده وريقات كتاباته التي يزمع نشرها على صدر الصحيفة، دون تكلف وفي تواضع جم، وبعيدًا عن أي مغالاة في طلب النشر.
وأكثر ما كان يرتجيه أن يفتح حوارًا مع زملائه ونقاشًا حول مسألة أو حدث ما، ويواصل حديثه مع أقرانه المشاركين بلغة المثقف والسياسي ورجل الحياة المجرب وصاحب معاناة واغتراب سياسىي وذي تجارب وخبرات إنسانية اختبرها بوصفه واحدًا من الناس الذين اعتصرتهم تجربة الفقر والزهد الحياتي والقناعة، وعايش هموم المواطنين كواحد من شريحتهم، لا يعلو عليهم إلا بكونه ذا عقل راجح ورؤية تحليلية وزاوية نظر خاصة به ترى العالم والأشياء من خلالها. يناقش ويحلل الأمور والأحداث بكل تواضع العارف ببواطن الأمور والحياة وترى الآخرين منصتين كأن على رؤوسهم الطير.
كان عبدالله علوان منذ وصوله عدن في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي ماكثًا فيها مكوث المحب في كنف أهلها وناسها، يملأ بوجوده الفاعل وحضوره المتواضع مركز اشتغالها اليومي، وتكتسب قيمة إبداعية منه ومن أمثاله، الذين كانوا من الصحافة أقرب إلى الثقافة، وفي الحضور اليومي أقرب إلى مثالية الإنسان، وله بصمة لا تمحى في ذاكرتها وذاكرة الصحافة الثقاقية.
لم يستنكف عبدالله علوان أن يظل محررًا في الصفحة الثقافية؛ لأنه أراد من الصحافة أن تكون وسيلة لنشر الثقافة وتأسيس الوعي النقدي، ولم يتوانَ عن الكتابة دون كلل أو ملل وبصورة متواترة وشبه يومية، إلى جانب ما ينشر في الصحف والمجلات الأخرى كصحيفة "الثوري" ومجلتي "الثقافة الجديدة" و"المسار"، لكنه كان يشعر أن "14 أكتوبر" بيته المؤنس، وكان يلتقط منها الشعرة الضئيلة التي تفصل بين الثقافي والصحفي، ويبتهج أن تكون إلى جانب كونها منبرًا صحفيًّا أن تحمل على عاتقها المسؤولية التاريخية في التوعية والتنوير والإبداع والتثقيف، وهو هم كان يشغله ببساطة المبدعين وتسامق التنويريين.
ولذا فإن الصحافة العدنية حينها -وصحيفة "14 أكتوبر" تحديدًا- تفتقده دونًا عن مثيلاتها من الصحف والمجلات التي كان يواظب على الكتابة فيها؛ لأنها كانت الصدر المفتوح الذي احتضنته في قمة يأسه وغربته، وفتحت أبوابها لكتاباته طوال أكثر من عقدين ونيف، دون أن تسأله أو تساءله: ماذا، وعم، ولماذا، في كل ما يكتب، رغم التقلبات السياسية وتناوب رؤساء التحرير والمدراء ورؤساء الأقسام عليها، فظل عبدالله علوان صامدًا يعشق الكتابة فيها ليس لأنها -الصحيفة- مصدر رزقه، بل لأنه كان يعي قيمة هذه المدرسة الصحفية العريقة منذ تأسيسها، وكانت على مستوى من الانفتاح اللامحدود لنشر آرائه النقدية وتجسيد عقيدته السياسية، بل عدم الالتفات والتغاضي العديد من شطحاته الفكرية ومغامراته الكتابية لا بالسؤال أو المساءلة أو الحذف والشطب. فقد كان حرًّا فيما يقول ويفكر وبما يمهر من مقالات نقدية، بعضها مبالغ أو متطرف فكريًّا؛ لأن المقياس الذي كان يعامل به عبدالله علوان أنه كان رجل فكر وثقافة وأدب، وما ينشره هو في هذا المستوى، خاصة أن من ترأس على الصفحات الثقافية في الصحيفة أدباء ومثقفون وشعراء وقاصّون، أمثال الإعلاميين المرموقين شكيب عوض وعوض باحكيم، والقاصَّين إبراهيم الكاف وعادل ناصر، والشعراء عبدالله الدويلة وأنا العبدلله وجلال أحمد سعيد وغيرهم. وكانوا على مستوى وعي وفهم وإدراك لقيمة ونوعية ما يكتب علوان، وعدم شعور بأي تقاطع أو اختلاف يجيز لهم تضييق مساحة رأيه الثقافي والفكري والسياسي، بل كانوا مؤازرين له ويجدون تعبيرهم الثقافي والإبداعي فيما يكتب، ويشكلون حائط حماية له من أي رقيب سياسي أو تحريري قد ينبز هنا أو هناك، وخاصة في الظروف الاستثنائية بعد أي تبدلات عنفية تحدث في أدوات السلطة أو عند دورات عنف تشهدها البلاد وتؤثر على سياسة أي قيادة تحريرية صاعدة من رحم هذا الصراع.
لقد كان منطق الإبداع الخلاق والثقافة التقدمية والفكر الحر هو ما يحرك المثقفين المشتغلين في الصفحات الثقافية أو الملحقات الثقافية في "14 أكتوبر" قيادة وقواعد، وهي سياسة تحريرية لا تتغير أو تتبدل أو تراوح، وكان عبدالله علوان واحدًا من هذا المحيط الثقافي في الصحافة الرسمية السيارة في عدن، وكان في مجالها الحيوي يتحرك ويكتب وينشر، مهما بلغت درجة الاختلافات أو سوء فهم لقضايا النشر .
عبدالله علوان بكتاباته النقدية والإبداعية كان أحد المواظبين على تمكين ما تأسس سابقًا منذ تأسيس الصحيفة من حرية نشر في مجالات الإبداع والفكر والثقافة، وأحد المساهمين في خلق مساحة حرية وازنة في نشر الكتابات الإبداعية والثقافية والفكرية لأجيال المبدعين، وخاصة الشباب، واستخدام خبرته وثقافته العالية في ممارسة نقد بناء وطرح إشكاليات فكرية على بساط الصحافة، ساهمت في إماطة النقد والتحليل عن أصوات مبدعة في مختلف الفنون وفي نشر الوعي الثقافي التنويري، وكتاباته شاهد على ذلك.
وكانت هذه الصحيفة التي يتفاخر بالانتساب إليها حتى آخر يوم من أيام تقاعده شاهد على ذلك، بل إن حنينه امتد إليها بعد انتقاله إلى صنعاء حيث كان يواظب على الحضور إلى مكتب فرعها هناك يتقاسم مع موظفيه وصحفييه كسرة الكلام وخبز الحديث، وكعكعة الذكريات بصورة شبه يومية.
ولا يدانيه في هذا الانجذاب إلى دائرتها سوى شيخ الصحفيين اليمنيين صالح الدحان، فكلاهما ظلا حتى آخر يوم من حياتهما على علاقة وطيدة مع أبنائها، ولو عن بُعد، ومن خلال حديث الذكريات ومحاولة الإمساك بالقرب المكاني منها، في مكتبها بصنعاء.
فقيدنا عبدالله علوان افتقدناه كرجل متواضع السجايا، إنساني المعاشرة والصحبة، ولبق اللسان إذا حدث، وثري المعرفة إذا ناقش، ولطيف المعاملة إذا دخل على مجلس أو جمع من الزملاء، وحنينه أبدًا يعاوده لمعشوقته الصفحة الثقافية أو الملحق الثقافي.
ولذلك كله حري بصحيفة "14 أكتوبر" قيادة وأسرة تحرير صحفية -كما هو حري بكل الوسط الأدبي والصحفي في الوطن- أن تفتقد هذه الهامة الصحفية والثقافية والإبداعية، ويكون حزنها على فقدانه أعمق عن سواها، فقد كان فردًا مائزًا من أسرتها: موظفًا بسيطًا، وكاتبًا ومثقفًا رفيعًا، ومتقاعدًا بعد الخدمة لم تهمله الذاكرة المكانية لمعشوقته عدن والذاكرة الصحفية لبيته الثاني "14 أكتوبر" كأحد أعمدتها وأعلامها الثقافية، ولن يعدم هذا اللقاء الحار بغيابه عن هذه الدنيال الفانية؛ لأنه من علاماتها السامقة إذا جاء ذكرها، أو ذكر سطر من تاريخها، فيكون هو الحرف المضيء في واسطة عقدها.