قالت: انظر إليها هناك.
قلت: من هي تلك الواقفة في الزاوية؟
أشارت إليها أن اقتربي.
عادت تقول: شفيقة تريد أن تتعرف عليك.
كنت في بيتنا بتعز أيامها في العام 2013، أتلقى العزاء بوفاة والدي، تقدمت مني: أنا شفيقة زوجة عبدالغني علي أحمد. رحبت بها طويلًا. أبدت انزعاجها من كتاب أصدره شقيق عبدالغني: "كتاب لا يليق به..."، فيما بعد أمّنت على ما قالت بعد أن اطلعت عليه، مع الاحترام لشخص أخيه.
هناك كتيب لسلطان أحمد زيد، وهو المرجع الوحيد عن الرجل الشامل، الذي ارتبط اسمه بالدولة التي ظهرت بوادرها أيام ذلك الرجل العظيم المشير السلال، الذي حارب على كل الجبهات. ظهرت مؤسسات تؤسس لدولة بادية للعيان، وتحمل بصمات الرجل الذي سرق جهده المدعون !
البنك اليمني للإنشاء والتعمير، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة الآن، وجرى قتله لحظة السماح للبنوك الخاصة، الذي جاء نتيجة فكرة عبدالغني بدمج "الأهلي" و"الإندوشين"، لتتوالى مؤسسات الدولة الاقتصادية والمالية وفي رأس الهرم وزارة الخزانة، لم يعد البنك قادرًا على إعطائك مبلغًا صغيرًا جدًّا من حسابك!!!
لجنة النقد اليمنية، المحروقات، القطن، في تعز كم شاهدنا في الستينيات سيارات تحمل على جوانبها "شركة المخا للزراعة"، ثم "مشروع جميشة وسردود"، وفيما بعد البنك المركزي وليدًا من رحم لجنة النقد. وقبل الثورة كان عبدالغني، الذي ذهب من عدن إلى القاهرة للدراسة، ليحظى بالكاد بمقعد من الدولة المتوكلية، ومنها إلى أمريكا لنبوغه، ليعود ويكون عضوًا في "المجلس الأعلى للإنعاش"، تعبيرًا عن إنصات البدر لأفكار عبدالغني، لكنه كما قال أبيه: "حاكي لك سَلَبَة"*. لم يكن قويًّا بما يكفي وينقل البلاد إلى طور آخر. ظل حبيس سطوة أبيه، يعلنها: "شعبي العزيز؛ سأسير على خطى والدي"، ما جعل الجيش يتدخل ويحسم الأمر الذي لم يحسم بسبب المال السعودي والبائعين نقدًا! لتدخل البلاد في دوامة حروب لم تنتهِ، أرهقت العباد ووأدت حلم الدولة.
يُذكرون جميعهم، ممن لا أدوار لهم، إلا عبدالغني علي، صاحب الدور الأكبر، الذي كان السلال يثق فيه، فتواجد على كل الجبهات الاقتصادية والتنموية إن صح التعبير، وظلوا يدفنونه بعد السلال، ولكنه لم يدفن، فالريال الجمهوري الورقي حمل اسمه، كما لو كان إحساسًا بأن معاول الهدم والتآمر على الثورة والجمهورية ستصل إليه، فظل اسمه حيًّا حتى اللحظة.
للأسف الذي ما بعده أسف، أن ذلك الرجل، عبدالغني، لم نجد له ذكرًا في جامعة صنعاء، ولا في تفكير من ألفوا الكتب في مناحٍ كثيرة، إلا الجبهة التي ناضل فيها الرجل الشامل بحق من اعتبره السلال أكثر من وزير وأكثر من مقدرة، فعمل مستشارًا للسلال في كل شيء كان طالبو المغفرة أعلى صوتًا.
ما حقّقه عبدالغني علي، كان يفترض أن يتحول إلى مادة تُدرّس لطلبة الإدارة المالية والنقدية، وكل ما له علاقة بالتنمية، وكذلك دوره في تمثيل اليمن، الذي يفترض أنه خُلّد في إرشيف الخارجية اليمنية
السلال النقي، الذي لم يشِر يومًا إلى الجهة التي جاء منها عبدالغني، التي تحولت فيما بعد إلى "لعنة الفراعنة" تصيب كل من ينتمي إليها، وانظر كيف يحاولون وأد اسم عبدالعزيز عبدالغني، الذي كان يسير في خطٍّ موازٍ لعبدالغني، فتولى أولًا لجنة النقد اليمنية، ويقود فكرة إعادة رؤية الدولة إلى مسارها أيام إبراهيم، فرأينا الجهاز المركزي للميزانية، كبديل محتمل متطور سيحل، كما كان مقررًا، محل وزارة المالية التي نخرها الفساد بعد السلال. كذلك كان مشروع تطوير التعليم والجهاز المركزي للتخطيط، ليأتي أيام إبراهيم، الجهاز للرقابة والمحاسبة، ونيابة الأموال، ومن ثَمّ اللجنة العليا للتصحيح.
في الأخير، كما يقال، "لا يصح سوى الصحيح"، فلن يغيب الرجل الذي قال عنه البردُّوني :
"كان عبدالغني علي قوي الحس بالوطن، ومن ذا يستطيع أن يقول هذه عمارة عبد الغني علي، ومن ذا يستطيع القول هذه أرصدة عبدالغني علي، وهذه مزرعة عبدالغني...، لقد خرج من المناصب الوزارية نقيًّا خروج الأمطار من ضمائر السحب".
سيظل عبدالغني علي في الجيب اليسار لكل يمني، حيث كانوا يضعون الريال على القلب مباشرة، يحمل توقيع وزير الخزانة التي أسسها هو، فمثل ذلك الرجل لن يتوارى حتى إن لم يسلط على أدواره أحد دكاترة الجامعة، في الاقتصاد والتجارة تحديدًا، الضوء.
ما حقّقه ذلك الرجل الشامل كان مفروضًا أن يتحول إلى مادة من مواد تدرس لطلبة الإدارة المالية والنقدية وكل ما له علاقة بالتنمية، ودوره في تمثيل اليمن أيضًا يفترض أنه خُلّد في إرشيف الخارجية اليمنية.
برغم أن لا كرامة لنبيٍّ في وطنه، إلا أن إحساسًا يتولّاني في أن هناك من سيأتي يومًا ويزيل الغبار عن اسم الرجل الذي ترك، ليس بصمة واحدة وبهدوء ودون ادعاء، بل بكل الأصابع ترك آثارًا.
عاش الرجل فقيرًا لا يسأل عنه أحد في مصر، حتى توفي عام 1977، ولم تُجر له حتى جنازة رمزية.
عبدالغني علي، متعدد المواهب، لن يُنسى؛ لأن اسمه اقترن بثورة سبتمبر 1962، التي مهما حاول المقاولون قتلها فلن تموت؛ لأنها كانت ولا تزال، ثورة ضرورة قصوى، نحتاجها الآن أكثر من أي وقت مضى.
------------
* باللهجة الصنعائية: "كلّم لك خشبة"، ويشار بذلك للغبي.