عبده علي عثمان، ضميرنا الإنساني الحي واليقظ، ومسيح جديد لم يُدِر خدَّه لأحد، ولم يلطم أحدًا، مَلَكٌ يمشي على قدمين.
عبده علي عثمان الحكيمي، إنسانٌ فادٍ نذر حياته للمعرفة والكفاح الوطني. يطلق المتصوفة، وفي مقدمتهم عبدالكريم الجيلي (أحد أقطاب التصوف في زبيد)، على أمثال ابن عثمان "الإنسان الكامل"، وعبده علي عثمان إنسان كامل خَلقًا وخُلُقًا، فعلُه قوله، وقولُه فعلُه.
أنموذج رائع للحزبي والسياسي اليمني قل نظيره، فالحزبيون اليمنيون -وإن شئت قلت العرب أيضًا إلا من رحم ربك، وقليل ما هم- لا علاقة لديهم بين القول والفعل، والسياسيون يعتقدون -أو بالأحرى يمارسون- السياسة "الشطارة" بالمعنى اللغوي.
عبده علي عثمان، من الحالات الاستثنائية في حياتنا العربية. غاية في الاستقامة والخلق. حياته كلها منذ عرفته مطلع السبعينيات من القرن العشرين الماضي، وهو وكيل في وزارة الخدمة المدنية، أبًا روحيًّا لكل أبناء شعبه، محبًّا لكل الناس، لا يعرف الحقد أو الكراهية إلى قلبه سبيلًا.
كانت الستينيات والسبعينيات في المنطقة العربية ميدان تصارع بين اليمين واليسار، بين الإسلامي والعلماني، بين الحركي الناصري والبعثي، وكان ابن عثمان، وهو الزعيم البعثي المرموق، محل حب وتقدير الجميع؛ فهو داعية محبة وسلام حقيقي، وعندما أُطلِق عليه اسم غاندي، كان ذلك تعبيرًا عميقًا وصادقًا عن جنوح الرجل ورفضه للكراهية والعنف الذي أوصلنا إلى هذا المستنقع الذي نعيشه.
كانت المعرفة وحب المعرفة رسالته في الحياة. التحق بالتعليم الحديث، وانتسب منذ الخمسينيات في القرن الماضي إلى حزب البعث ليصبح واحدًا من أبرز قياداته ومؤسسيه، ومنذ أن ترك البعث وانضم إلى الطليعة الشعبية، ومنها إلى الاشتراكي، ظل رفاقه البعثيون ينظرون إليه كأب روحي، ويتعامل معهم ويتعاملون معه بقدر كبير من الود والاحترام.
ورغم إغراء المناصب الوزارية والإدارية الكاثرة إلا أنه تركها، وكان في طليعة المؤسسين لجامعة صنعاء، وتخرج على يديه المئات والآلاف من الطلاب، وكان ابن عثمان أحد المؤسسين للتجمع الوطني لمناضلي الثورة- اللبنة الأساس لجماعة نداء السلام.
غاندي اليمن والأمة، داعية سلام، وكان إلى جانب رفيق دربه يحيى محمد الشامي في قيادة المقاومة الشعبية، ورفض ابن عثمان دعوات الجاهلية الأولى: العصبيات القبائلية والطائفية، والمناطقية، والقومية الشوفينية.
كان انتماؤه لحزب البعث العربي الاشتراكي انتماء للهوية القومية ذات البعد الكفاحي المعرفي والحضاري، فهو بحق وصدق حمامة سلام.
آثار وتراث هذا العالم الاجتماعي والمناضل الكبير جديرة بالتوثيق والدراسة والنشر، وهي مسؤولية الجامعة ومؤسساتنا البحثية ودور النشر، وتلاميذ ورفاق وأصدقاء الفقيد على كثرتهم
كان في رأس تيار واسع وعريض في الأحزاب والمنظمات اليسارية الماركسية والقومية التي ترفض العنف، ولا ترى الاحتكام إلى السلاح في حل معضلات الثورة الوطنية الديمقراطية، ويميز الدكتور عبده عثمان أشد التمييز بين الكفاح المسلح لطرد المستعمر البريطاني، وبين المواجهة المسلحة مع قوى داخلية مضادة أو بين الشمال والجنوب، أي نظامين سياسيين مختلفين بغض النظر عن طبيعة كل منهما.
كان له -إلى جانب رفيقه عبدالحافظ ثابت نعمان، وهما طالبان في الثانوية العامة في عدن- دورٌ نضالي إلى جانب أبيهما الروحي محمد عبده نعمان، زعيم الجبهة الوطنية المتحدة منتصف خمسينيات القرن الماضي.
كان ابن عثمان شوكة ميزان أو "بيضة القبان" في الخلافات السياسية بين مختلف الأطراف، وكانت طبيعته السَّلامية، وعقلانية تفكيره، وبساطته وتواضعه، وعدم العدوانية، تتركه قريبًا من الجميع؛ فهو أب لكل الفرقاء السياسيين، ومحل حب واحترام للجميع، بمن في ذلك من يختلف معهم.
في الصراعات السياسية المحتدمة بين الفرقاء السياسيين، وبين الشمال والجنوب لم يعتقل الدكتور عبده علي عثمان إلا مرة واحدة، وتحديدًا بداية حركة الـ13 من يونيو 1974، بعد إقالة حكومة محسن العيني. فقد اعتقل الأستاذ عبده علي عثمان وزير البلدية إلى جانب المناضل الكبير الفقيد سلطان أمين القرشي وزير التموين والدكتور عبدالوهاب محمود وزير الاقتصاد والزعيم السبتمبري أحمد الرحومي، وقد أفرج عنهم بعد فترة قصيرة.
كان عبده علي عثمان شخصية عامة وأكاديميًّا مرموقًا، ويعد من مؤسسي جامعة صنعاء، وأحد بناة لبناتها الأولى، ومن أوائل أساتذتها.
الباحث الاجتماعي أخلص للمعرفة والعلم وعلم كما تعلم، وكان يربط القول بالفعل؛ فهو الأكاديمي والمثقف العضوي والعالم الجليل.
في العام 1967، وكان وكيلًا لوزارة الإدارة المحلية، وقد كان مقرها حينذاك في ميدان التحرير- زرته ورفيقه عبدالجليل نعمان، واستعار منه عبدالجليل نعمان أول ديوان لخليل حاوي، الشاعر اللبناني المجدد والمنتحر؛ ردًّا على اجتياح إسرائيل للبنان- "نهر الرماد"، فقرأناه معًا.
كثيراً ما التقينا بعد ذلك، خصوصًا في منزل زعيم الجبهة الوطنية المتحدة محمد عبده نعمان، وأحيانًا في منزله في عمارة الأوقاف بعد أن باع منزله المتواضع في الصافية الجنوبية.
تقلد العديد من المناصب الوزارية، وكان مثلًا أعلى للنزاهة والزهد ونظافة اليد ونقاء الضمير وصدق المسلك واستقامة الخلق، وكان شديد الوفاء والإخلاص للقيم النبيلة والرائعة وللمبادئ والصداقات.
إرث ابن عثمان الفكري كبير وكثير، درس وقيَّمَ الانتخابات التعاونية، وله مبحث قيّمٌ عن التماسك الاجتماعي، مشارك في دراسات الصراعات القبلية، ودارسة المدن الثانوية، ودراسة حول الأوضاع الاجتماعية لجماعات الفقراء المهمشين في مدينة تعز، ودراسة حول الصلات الثقافية بين اليمن والمستوطنات الحضرية في شرق أفريقيا، ودراسة حول صنعاء المدينة والآخر، ودراسة حول جزيرة سقطرى، ودراسة حول التركيب الاجتماعي للسكان والهجرة، وكتابه المهم عن التاريخ الاجتماعي للمجتمع اليمني، وله العديد من الدراسات والأبحاث في التاريخ والثقافة.
إن آثار وتراث هذا العالم الاجتماعي والمناضل الكبير جديرة بالتوثيق والدراسة والنشر، وهي مسؤولية الجامعة ومؤسساتنا البحثية ودور النشر، وتلاميذ ورفاق وأصدقاء الفقيد على كثرتهم؛ ليقوموا بالتوثيق لهذه الأبحاث والعمل على نشرها.