أصدر الباحث والكاتب د. علي محمد زيد، كتابًا جامعًا عن سيرة الشاعر الراحل عبدالله البردّوني، معتمدًا على قراءات معمقة في منجزه الشعري والنثري، ليصير هذا الكتاب المسمى (عزَّاف الأسَى - دراسة لحياته ولجميع أعماله شعرًا ونثرًا)(1)، مرجعًا حقيقيًّا للدارسين والمعتنين بسيرة البردّوني وإرثه الكبير.
جاء في تمهيد الكتاب:
"لا يمكن تقدير أسطورة الشاعر المبدع والكاتب اليمني الكبير عبدالله البَرَدُّوني، والمسافة التي قطعها من كنف الضياع والمعاناة إلى ما بلغ مِن شهرة ومكانة عالية ومجد، دون نقل المشهد الحزين التالي، شديد التأثير والوطأة على نفسه وعلى حياته كلها. وهو مشهد يرسم البداية المستحيلة التي انطلق منها ليبدأ سيرة المجد والنبوغ، ومواجهة حوادث الوجود القاسي المحيط به، واستخدام مواهبه وقدراته وإحساسه المرهف بما حوله في قراءة الواقع الذي يلامسه، حتى التفاصيل الدقيقة، للبحث عن منافذ -ولو بسيطة- لشق طريقه الصعب، بصبر وهدوء، ولكن بذكاء حادّ،، وجرأة واندفاع، ومثابرة عنيدة، حتى خرج بالتدريج من مأزق الوجود العابث في واقع لا يوفر وسائل النجاح للغالبية الساحقة من الناس المعذبين بالحياة في بلد كان منكوبًا بفقره وحرمانه، منطويًا على نفسه وعلى مأساته، في ركنٍ قصيّ من جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، ومجتمع كان يتدبر أمره بكثير من المشقة والعناء، وسلطة لم تكن تتحمل مسؤولية رعاية مواطنيها، وبخاصة الفقراء والمحتاجين الذين يشكّلون غالبية السكان، ولا توفّر لهم الحماية من الأوبئة الفتاكة التي تترك الكثير منهم ضحايا ومعوَّقين ومشرَّدين وباحثين عن عيش الكفاف، وبالذات من وجدوا أنفسهم خلف جدران العمى وانعدام المساعد والمعين.
يُلخِّص هذا المشهد وضعَ البردّوني غداة المجيء به في مطلع شبابه من مدينة ذمار الصغيرة آنذاك، التي كان قد بدأ يألفها وباشَر في أحد جوامعها تعليمَه وتمرُّسَه بالشعر، إلى صنعاء التي لا يعرفها، إلى مدينة يضيع فيها القادم المبصِر دون مصدر للرزق، ودون مَن يُعرِّفه بطرقاتها وأزقتها، فكيف بكفيف لا يستطيع تبيُّن موضع قدميه، ولا إلى أين يتجه وإلى مَن يلتجئ. ردَّهُ سجن القلعة رافضًا الإبقاء عليه داخل أسواره باعتباره سجينًا كفيفًا يفرِض على السجانين عبئًا إضافيًّا لمساعدته على الحركة وتدبير أموره من مأكل ومشرب، فأُلقيَ به نحو سجن "الرَّادِع" الذي لفظَه بعد فترة قصيرة وأخرجَه إلى عراء الشارع دون أن تُفرِج السلطات عنه. حتى السجن يرفضه، فلا أطلق سراحه صراحة ولا أبقاه سجينًا. ترَكَه في وضع غريب، بين السجين ومطلق السراح، لأنّه لا يستطيع الفرار حتى لو أراد. ألقوا به إلى الضياع خارج جدران السجن، لأنّه لا يشكِّل أي خطورة أمنية أو سياسية، ولا يملك سوى فَمٍ يتحدث ويطالب بما يساعده على البقاء حيًّا حتى في السجن"(2).
الأستاذ عبدالباري طاهر، قال عن الكتاب:
"يربط الباحث زيد عميقًا ما بين تعاظم محنة البؤس: العمى، والفقر، والتشريد، ومقدرة البردّوني طفلًا ويافعًا وشابًّا وكهلًا، على الصبر، والإبحار نحو المعرفة- القوة، كما يسميها بيكون، والفرار من الأمية- السوأة، كما يراها أبو حامد الغزالي.
كان الشعر العصا السحرية التي ضرب بها البردّوني بحر الأمية والفقر، ومحيط العمى؛ حتى انفلق، وعبر من خلاله إلى عالم الثقافة والفكر وعالم الشعر؛ وليصبح الأكثر إبصارًا من معاصريه".
موهبة زيد إخلاصه للبحث؛ فقد تتبع البردّوني في رحلته منذ الطفولة، وانتقاله إلى منزل أخته في القرية الأخرى (المحلة)، ورعيه للأغنام، وهو الأعمى، والصغير في بيئة وعرة شديدة الخطورة على المبصرين، وتعشقه للتعلم، وانتقاله إلى القرية الكبيرة ذمار.
كما يقرأ الباحث الرؤية الازدرائية للأعمى في بيئة شديدة الفقر والجهل والقسوة، حيث القيمة الوحيدة فيها لحامل السلاح أو الأقوى.
يصف شغفه بالقراءة في ذمار، وفيها خفق قلبه للحب. سجن؛ لأنّه يتدخل فيما لا يعنيه، وكنَّ نساء ذمار أرحم به من رجالها. حفظ آلاف الأبيات من الشعر، وأتقن في زمنٍ قياسي الشريعةَ وألاعيب الأحكام القضائية. تصدّى في المحاكم لنقض الأحكام، وسجن؛ لأنه تسبب في نقض حكم عمده الإمام يحيى، ومهره بختمه.
يدوِّن الباحث تفاصيل حياة البردّوني في ذمار، ففيها عمل في البداية سقّاءً يوصل المياه إلى المنازل، ثم وكيل شريعة لاحقًا. يعتبر الباحث ذمار أول الغيث.
(1) دار نشر عناوين بوكس، القاهرة، الطبعة الأولى 2022، 372 صفحة- قطع كبير.
(2) عزاف الأسى، ص 5 وما بعدها.
(3) https://belqees.net/articles/