برغم الدخل القليل الذي يكسبه، وتراجع الغناء اليمني خلال السنوات الماضية، ما زال عبدالله زيدان مستمرًا بالعمل في مهنته التي أحبها، والتي تعد مهنة مرتبطة ارتباطًا وثيق بالفن اليمني، ويعمل بها أشخاص معدودون في البلد، فهي مهنة تفنن نادرة. شغفه بالعزف على آلة العود، كان السبب وراء تعلمه للمهنة والاستمرار بها حتى اليوم، وفي المكان ذاته الذي بدأ عمله به منذ ثلاثة عقود حتى الآن.
شغف وعزف
في أحد المحلات الصغيرة في شارع هائل، يعمل عبدالله زيدان منذ ثلاثين عامًا، بصناعة آلة العود وكذلك ترميمها وإصلاحها، هذه المهنة التي قاده شغفه بالفن والغناء اليمني للعمل بها، فهو لم يتعلمها أكاديميًّا، بل تعلمها بنفسه، ووجد راحته وذاته فيها.
يقول لـ"خيوط": "كنت منذ طفولتي مفتونًا بآلة العود، وأتساءل: كل هذا النغم الجميل يصدر من هذه الآلة الخشبية؟ وحينما وصلت مرحلة الشباب، أغرمت بالفن اليمني. بدأ الشغف يكبر، ولم أستطع مقاومته، فبدأت بتعلم العزف حينما كنت في الرابعة عشرة من عمري، في مدينة تعز".
لكن الأمر كان أكبر من تعلم العزف، بل يتعدى ذلك إلى صناعة هذه الآلة، هنا بدأ مشواره مع هذه المهنة التي وجد ذاته فيها وأصابته بالإرهاق، وفق حديثه؛ إذ لم يكن يدرك بأن الشغف سيقوده إلى ترك تعليمه ومدرسته من أجل مواصلة العزف، ومغادرة مدينة تعز وهو في الخامسة عشرة من عمره، خصوصًا بعد وفاة والديه، المنتميَين لمحافظة عمران، والبحث عن فرصة عمل، في مكان آخر.
يقول عبدالله زيدان، إن العود هو كل حياته؛ فهناك علاقة ارتباط وثيقة بينه وبين هذه الآلة التي تمنحه الحياة والجمال ويشعر أنه يتحدث إليها، خصوصًا الأعواد التي تحتاج لترميم، التي هي بالعادة أعواد خاصة بفنانين، يخاطبها، ويسمع حكايتها، ويتعرف من خلال أوتارها على أي لون عزف بكثرة
قرر الغربة والهجرة عن الوطن، لكنه لم يستطع تحمل قساوتها، فعاد سريعًا إلى صنعاء منتصف عام 86، لمواصلة البحث عن عمل. لم يكن يخطر في باله العمل كمدرب للعزف على العود، أو صناعته وترميمه، ن شغفه وحبه قاداه نحو خيار آخر، فقرر الاستقرار في صنعاء، وفتح محل صغير، وبدأ الإعلان عن دورات تدريبية للعزف، وأيضًا الشغل على نفسه لتطوير مهاراته، وإتقان ترميم وإصلاح آلة العود.
تطورت مهاراته بعد فترة وجيزة، وأصبح يتقن ترميم وإصلاح كافة الآلات الموسيقية الوترية، بدأ الوسط الفني يسمع عن مدرب وعازف اسمه زيدان يقيم دورات في العزف، أخذ صيته يصعد وزادت معرفته بالوسط الفني والفنانين وتوسعت دائرة معارفه، وعرفه أغلب الفنانين، وأصبح للكثير بمثابة معلم، وموسيقار.
ورغم الإنجاز الذي حققه خلال أربع سنوات من العمل كمدرب وترميم آلة العود، إلا أن زيدان لم يشعر بإنجازه، فشغفه وطموحه وهدفه التوصل لإتقان صناعة العود من الصفر حتى النهاية.
يقول: "صنعت أول عود عام 1991، وبعته بالعام نفسه بمبلغ 500 ريال فقط، فرحتي يومها لا تسعها الدنيا، أخيرًا أتقنت ما أطمح له، وهنا انتقلت لمرحلة جديدة من العمل في محلي الصغير؛ تدريب العزف والصناعة والترميم".
وحيدًا برفقة العود يعيش عبدالله (57 سنة)، في محله، الذي قسمه نصفين؛ مكان للعمل ومكان مخصص للعيش، يسكن وحيدًا فهو لم يتزوج، و"من يكن رفيقه العود، فلا يحتاج لرفقة أحد".
حينما تصل لمحله تجده متكئًا في زاوية المكان، يحدق في الجدار المقابل له والمثبت عليه خمسة "أعواد" من صناعته، ويبتسم، ويعود للنظر إلى أمامه مباشرة، حيث يكون هناك عود آخر، ويستمر بالتحديق به، كأنه يحدثه، وهكذا يستمر ناظراه بالتنقل بين الأعواد المعلقة بالجدار والعود الذي أمامه، لا يشتت نظره أبدًا.
يضيف عبدالله زيدان، أن العود هو كل حياته، فهناك علاقة ارتباط وثيقة بينه وبين هذه الآلة التي تمنحه الحياة والجمال ويشعر أنه يتحدث إليها، خصوصًا الأعواد التي تحتاج لترميم، التي هي بالعادة أعواد خاصة بفنانين، يخاطبها، ويسمع حكايتها، ويتعرف من خلال أوتارها على أي لون عزف بكثرة.
تفاصيل كثيرة ودخل ضئيل
الحب والشغف أساس المهنة، ثم الجهد والتركيز العالي، والاستمتاع وإتقان تفاصيلها الكثيرة، ابتداءً بالنحت وانتهاءً بالزخرفة، برغم تفاصيلها المتعددة لكن دخلها ضئيل ومتقطع، مقارنة بمهن أخرى كثيرة.
وذلك بسبب انحصار سوقها على الفنانين والعازفين بالدرجة الأولى، والهواه، وانحسار وتراجع الفن اليمني في العقدين الماضيين، والحرب، أسباب تدفعك للتخلي عن مهنتك والبحث عن مهنة أخرى لمواجهة الحياة، خاصة سنوات الحرب. إلا أن زيدان ظل متمسكًا بها وبشدة، لا يجيد ولا يحب سواها من المهن، رغم الظروف القاهرة التي يمر بها.
بحسب عبدالله، فقد كان دخله مناسبًا من هذه المهنة أول ما بدأ مشوار العمل فيها، لكن الأمر اختلف بعدها، فلم يعد هناك من يبحث عن شراء أو ترميم وتصليح آلة موسيقية، إلا نادرًا، ازداد الوضع صعوبة وأصبح كل عام أسوأ مما قبل.
رغم ذلك، ازداد تمسكه بهذه المهنة، لدرجة إقدامه على العمل طبّاعًا في جامعة صنعاء أواخر التسعينيات لتحسين دخله، مع استمراره مساءً بالعمل في مهنته، حيث كان مردود العمل -وفق حديثه- ضئيلًا جدًّا، ويتناقص مع مرور السنوات، حتى جاءت الحرب وأقفلت كل الأبواب.
فكر وقتها بترك صناعة الأعواد والعمل بمهنة أخرى، لكنه لم يستطع، يضيف عبدالله، أن هناك شيئًا منعه، حيث لا يجيد مهنة غيرها؛ لذا لم يكن أمامه من خيار سوى مواصلة العمل في مهنته الحقيقية في صناعة الأعواد.
يواصل عبدالله قائلًا، "شعرت بأن هذه الحرب ستدفع الناس للفن والغِناء بعد مشاهد الموت والدم، فيجب أن أكون موجودًا في محلي، أصنع الأعواد وأزخرفها وأجعلها جاهزة، لتلك اللحظة التي يعود فيها اليمن للفن والغناء، وينتعش السوق، أقلها كما كان في السابق".
تحسن دخل عبدالله قليلًا جدًّا في العامين الماضيين، برغم سنوات الحرب العجاف، يقول: "تحسن الدخل قليلًا وكان هناك إقبال -وإن كان ضعيفًا- على شراء الأعواد وترميمها من قبل الهواة والفنانين وحتى المواطنين العاديين، وهذا حافز يمنحني الهدوء، والأمل".
تضحية وحلم
خلال الثلاثين عامًا من العمل في المحل الصغير، استطاع زيدان وضع اسمه، كعازف، وصانع أعواد، وتوسعت دائرة علاقاته، فدرب المئات على العزف وصنع المئات من الأعواد، أتاح له فرصة للتعامل مع أغلب الفنانين الكبار والمعروفين على مستوى مختلف الأجيال الفنية. الجميع يعرفه، وتربطه بهم صداقة قوية، والكثير منهم يعتبرونه أستاذهم، الذي لا يبخل بنصائحه لهم، خاصة الشباب.
كان لدى عبدالله حلم يسعى لتحقيقه عندما قرر العمل بهذه المهنة، وهو أن يكون صاحب اسم كبير يشار له بالبنان، أفضل وأجمل مَن صَنع العود وعزف عليه في اليمن، حُلمٌ دفع مقابله الكثير جدًّا من حياته وحقوقه ووقته وصحته، وعمره، وضَعُفَ سمعُه كثيرًا خلال الفترة الأخيرة.
يؤمن عبدالله بأن الفن هو المدخل الأهم والأكثر تأثيرًا لإحلال السلام، ويعتقد بأن اليمن اليوم بحاجة أكبر إلى الفن، أكثر من أي وقت مضى؛ فالفن رسالة تخاطب الروح والقلب
لا يشعر عبدالله بالندم -كما يقول- على هدر كل سنوات عمره في مهنته التي أحبها، فهو عاشق للأوتار، لا يشغله إلا صناعة عود جديد، وتدريب طلاب جدد، وإتقان العمل، والوصول للحلم الذي رسمه.
بعد عشرات السنوات من العمل والجهد، والتضحيات الكبيرة التي قدّمها، يرى عبدالله زيدان، أنه حقق حلمه بقدر المستطاع، ويكفي شهرته وما يلقاه من تقدير واحترام من قبل مختلف المشتغلين في الوسط الفني، نظرًا لما قدمه في خدمة آلة العود والأغنية اليمنية.
يشعر بالبهجة التي تمسح كل أحزانه كما يقول، عندما يصادف فنانًا يعرفه، ويصافحه ويحتضنه بقوة، ويعرف أصدقاءه عليه بالأستاذ وأفضل مَن صنع العود باليمن، لا شيء يبحث عنه الفنان والعازف سوى محبة الناس والوصول إليهم. يؤكد عبدالله أنه ليس هناك فنان في اليمن لم يشترِ عودًا من صناعته، أو الأخذ بمشورته، أو ترميم الأعواد.
رسالة الفن
أثّر غياب الاهتمام من قبل الجهات الرسمية، على عبدالله زيدان بشكل كبير، بالإضافة إلى المضايقات التي تعرض لها منذ بداية تعلمه للعزف، ومستمرة حتى الآن، فالبعض ما زال ينظر لعمله في مجال الفن بأنه مخالف للعادات والتقاليد والدين.
يقول عبدالله، إن إهمال الجهات الرسمية للفن تسبب في انغلاق المجتمع، رغم ما تمتلكه اليمن من تراث فني زاخر، وبحر كبير، تحلم به دول كثيرة، مع ذلك استمر بالعمل وحيدًا، لا ينتظر أي دعم من أحد.
ويؤمن عبدالله بأن الفن هو المدخل الأهم والأكثر تأثيرًا لإحلال السلام، ويعتقد بأن اليمن اليوم بحاجة أكبر إلى الفن، أكثر من أي وقت مضى؛ فالفن رسالة تخاطب الروح والقلب، نحن بحاجة ماسة اليوم للغناء وللعزف وللفن، فالحروب لا تأتي إلا بالموت والدماء والدمار، بينما الفن رسالة عظيمة لا يأتي إلا بالحب والمشاعر، والسلام.