“القصر” في وعي اليمنيين؛ بناءٌ شاهق يسكنه الملوك. ويزعم المؤرخون أن “غمدان” أقدم قصور اليمن وأعظمها وأعجبها وأبعدها صِيتاً.
يقول أمية بن أبي الصلت، وهو يحتفل بخبر طرد الأحباش من صنعاء، مخاطباً الملك سيف بن ذي يزن:
فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً في رأس “غمدان” داراً منك محلالا
وإذا كان رواة التاريخ اختلفوا عمن بنى “غمدان”، بين من يذهب بعيداً إلى سام بن نوح، وبين من يقول يعرب بن قحطان، ومن يقول وائل بن حمير بن سبأ بن يعرب. وقيل أيضاً إن الذي أمر ببنائه إل شرح بن يحصب، ملك اليمن العظيم. لكن جميعهم اتفقوا أن عملية الهدم تمت بأمر الخليفة الأموي عثمان بن عفان.
وافتخر أبو الحسن الهمداني بصنعاء أمام شعراء العراق، إذ يفخرون بوصف مدينة بغداد في ذروة مجدها (القرن التاسع الميلادي):
أرضٌ تخيّرها سامٌ وأوطنها وأسّ غمدان فيها بعدما احتفرا
أم العيون فلا عينٌ تقدّمها ولا علا حجرٌ من قبلها حجرا
لا القيظ يكمل فيها فصل ساعته ولا الشتاء يمسّيها إذا اقتصرا
وقال أيضاً:
ما زال سامٌ يرود الأرض مطّلباً للطيب خير بقاع الأرض يبنيها
حتى تبوّأ غمداناً وشيّدها عشرين سقفاً يناجي النجم عاليها
فإن تكن جنة الفردوس عاليةً فوق السماء فغمدانٌ يحاذيها
وإن تكن فوق وجه الأرض قد خُلقت فذاك بالقرب منها أو يصاليها
وقد جعل المسعودي “غمدان”، خامس بيت من البيوت المعظمة. وساق في “مروج الذهب” عدداً من الأساطير والحكايات التي نُسجت حول هذا البناء العظيم، الذي قيل إنه “كان مربعاً، أركانه مبنية بالرخام الملون، وفيه سبعة سقوف طباقاً، بين السقف والسقف سبعون ذراعاً”. لكن الهمداني انتقد هذه الرواية المبالغة، وروى “أنه عشرون سقفاً على زعم بعض الروايات، وكل سقف على عشرة أذرع”.
ويحسب تضافر الروايات فإن غرفة الرأس العليا في القصر، كانت مجلس الملك. “وفي زواياه الأربع أسودٌ من نحاس أصفر خارجة صدورها، فإذا هبت الريح في أجوافها زأرت كما يزأر الأسد”. وفي هذا يقول الهمداني:
وبكل ركنٍ رأس نسرٍ طائر أو رأس ليثٍ من نحاسٍ يزأر
متضمناً في صدره قطارة لحساب أجزاء النهار تقطّر
ونلاحظ في البيت الثاني إشارة إلى وجود ساعة لحساب الزمن واستعمال قدامى اليمنيين لها.
قال وهب بن منبه: “لما بنى غمدان وبلغ غرفته العليا أطبق سقفها برخامة واحدة، وكان يستلقي على فراشه في الغرفة فيمر بها الطائر فيعرف الغراب من الحدأة من تحت الرخامة، وكان على حروفها أربعة تماثيل أسود من نحاس مجوفة فإذا هبت الريح فدخلت أجوافها سُمع لها زئير كزئير الأسد، وكان يصبح فيها بالقناديل فتُرى من رأس عجيب!”. وبصرف النظر عن المبالغة غير المعقولة في ضخامة وارتفاع هذا البناء إلا أن الغرفة العليا أعلى القصر كانت مجلس الملوك، وكان سقفها قطعة من رخام باتفاق الروايات.
وقال عبيد بن شرية: “كان للغرفة أربعة أبواب قبال الصبا والدبور والشمال والجنوب، وعند كل باب منها تمثال أسد من نحاس فإذا هبت الريح من الأرياح زأر ذلك التمثال الذي هو قبالة ذلك الباب، فإذا تناوحت الأرواح زأرت جميعها”.