“ادفع 115 ألف ريال للسهم تستعيدها بعد ثلاثة أشهر، ومن ثم أرباح تصلك كل ثلاثة أشهر بنحو 300 ريال سعودي دون عناء وبكل سهوله ويُسر”. هكذا تسللت عشرات من الشركات يعتبر كثيرون أن بعضها “وهمية”، للعمل تحت مسمى “شركات لتوظيف الأموال” أو شركات لبيع الأسهم مع عائدات مالية عالية.
بعض هذه الشركات تعمل تحت مسميات مختلفة وتدعي ممارسة أنشطة استثمارية وتجارية متعددة، لكن، حسب ما تأكدت “خيوط” من قبل السلطات المختصة في صنعاء، وخصوصاً ما يتعلق بالمكاتب والشركات التي يتداول أسمائها بكثرة مؤخراً، هي شركات حاصلة على سجل تجاري فردي، أي “نشاط فردي”، وليس شركة مساهمة أو شركات أشـخاص أو غيرها من المسميات ذات الطابع التجاري الاستثماري.
كان أول ظهور لهذه الشركات وهذه الأسواق التي تتغذى على الحروب وبؤر الصراعات في اليمن، بعد حرب صيف 1994، حيث برزت شركات تعمل في توظيف الأموال وكانت كوارثها المالية مدوية.
وقامت مجموعة من الشركات مؤخراً، بالأخص التي كان بعضها ينشط في هذا السوق منذ ما قبل الحرب الدائرة حالياً، بتصحيح وضعها القانوني على مراحل متعددة، لكن رغم ذلك تحولت هذه “المضاربة” إلى ظاهرة ومن ثم إلى جائحة خلال الفترة الماضية، أكثر انتشاراً من جائحة كورونا، واستحوذت على اهتمامات اليمنيين ممن وقعوا ضحايا لها، أو مودعين حديثي عهد منتظرين مصير أموالهم، أو مودعين قدماء استفادوا من أولى العمليات عند ظهور هذه الشركات بشكل علني قبل سنوات، وبعضها ظهرت بعد الحرب وانتشرت بشكل كبير منذ نحو ثلاثة أعوام.
اطلعت “خيوط”، إلى جانب عديد العينات من المضاربين الذين أودعوا أموالاً في هذه الشركات، على آراء مسؤولين وقانونين وخبراء، وكان أهم توضيح لهذه الظاهرة التي أصبحت طاغية على المشهد في صنعاء، شمال اليمن تحديداً، ومحافظات يمنية أخرى، هو أن المساهم الجديد يتم استلام نقوده وإيداعها للمساهم القديم… وهكذا، إلى أن تختفي هذه الشركة فجأة ومعها تصبح أموال المساهمين في علم المجهول.
رصدت “خيوط” نحو 10 شركات للمضاربة بالأموال معظمها لا تقدم أي ضمانات للمساهمين، ومنها الوهمية التي تتعامل مع “المضارب” عبر حساب مشترك، وبعضها أصبحت رسمية وقامت بتسوية وضعها القانوني، إضافة إلى مكاتب تقدم نفسها كجهات استثمارية
وبالرغم من عدم وجود أي شكاوي من قبل متضررين، كما تؤكد الجهات المختصة مثل وزارة الصناعة والتجارة وجمعية حماية المستهلك وبعض المراكز المتخصصة مثل المركز اليمني الدولي للتحكيم التجاري، تبقى الوضعية القانونية لمن يمارسون هذه الأعمال غير واضحة ومثار جدل تجعل كثير منها في موضع الشبهة، في ظل علاقة مختلة تسود الوضع التجاري والاقتصادي والاستثماري في اليمن منذ بداية الحرب بين الحكومة المعترف بها وأنصار الله (الحوثيين)، منذ ما يزيد على خمس سنوات، وطغيان الاقتصاد الموازي والسوق السوداء على المشهد بصورة عامة.
أحمد الزنعي، من المنخرطين في هذه السوق منذ 2012، أطلع “خيوط”، على مساهمته في إحدى شركات العقارات قبل ثماني سنوات، والتي توسعت وأصبحت تعمل في التجارة وترتبط بشبكة من المساهمين مع بعض شركات الاتصالات في اليمن، إذ قام بوضع مبلغ مالي في الشركة وظل حتى العام 2016، يستلم أرباحه سنوياً. ومع تفكك هذه الشركة وعدم قدرتها على مواصلة العمل منذ 2016، تم فسخ العقود مع المساهمين بدون ما يترتب على ذلك أية التزامات مالية أو قانونية بناءً على العقود الموقعة، لكن بعد عام من توقف الشركة، عادت للعمل وبشكل أوسع وأكثر انتشاراً.
هناك من لا يزال يستلم أرباحاً من شركات أخرى، ولا تخلو السوق، مع عودة انتشار الظاهرة مؤخراً، من تعثرات وأعمال غير قانونية، ومنهم من لا يزال مصير أموالهم غامضاً مثل (س.أ) الذي قام بشراء أسهم من شركة يمنية تعمل من خارج اليمن قبل نحو خمسة أشهر ولم يحدث أي شيء بحسب الاتفاق المبرم مع هذه الجهة التي تمت إحالتها، مؤخراً، إلى المساءلة القانونية من قبل السفارة اليمنية في الدولة التي تعمل في أراضيها، بالتنسيق مع الجهات الحكومية المختصة في الدولة نفسها.
ما بين القانون والحقيقة
بعد بحث متواصل في هذه السوق المالية التي أصبحت رائجة وحديث الناس في كل مكان، رصدت “خيوط” نحو 10 شركات للمضاربة بالأموال، منها الوهمية التي تتعامل مع “المضارب” عبر حساب مشترك مع الجهة المحددة في شركات صرافة محلية، خصوصاً الشبكات المتخصصة بالحوالات المالية، ليضع المبلغ الذي قرر المضاربة أو المساهمة به مع هذه الجهة، وانتظار الأرباح الشهرية، إضافة إلى أن بعض الشركات أصبحت رسمية وتركز عملها في مجال العقارات والاستيراد والتصدير، وبعضها تعمل منذ ما قبل الحرب، وهناك مكاتب تقدم نفسها كجهات استثمارية في “أعمال حرة” تمارس نشاط رأس أموال المضاربين في أعمال تقول إنها شرعية في مجالات كالخياطة وتجارة الفضة والهواتف والعقارات وغيرها، وتتم مختلف هذه العمليات بموجب عقد يربط “المضارب” الذي يقوم بشراء أسهم في هذه الجهات، يحدد قيمة الأسهم والأرباح والخسائر.
في هذا السياق، اتضح أن بعض الشركات والمكاتب تتجاهل قواعد وأنظمة ممارسة الأعمال وتوظيف الأموال في اليمن. بالمقابل، حصلت بعض هذه الشركات، نحو أربعة مكاتب أو شركات، على سجل تجاري فردي لممارسة أعمالها، فيما المشرع اليمني ربطها بقانون الشركات العامة التي تخضع لسلسلة من الأنظمة والقوانين التي تنظم وتحدد ممارسة أنشطتها في توظيف الأموال في إطار شركات مساهمة عامة.
قانون الاستثمار في اليمن الذي يهدف إلى تشجيع وتنظيم استثمار الأموال اليمنية والعربية والأجنبية الخاضعة لأحكام هذا القانون في إطار السياسة العامة للدولة، لا تسري أحكامة على شركات توظيف الأموال، وربط أحكامه في أهداف وأولويات الخطة الوطنية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية. واستثنى القانون عدداً من القطاعات مثل صناعة الأسلحة وتجارة الأموال.
بينما حدد القانون اليمني شركات توظيف الأموال، أعمال مؤسسية جماعية في إطار شركات مساهمة موثقة بعقود في الجهات الرسمية تخضع لعديد الأحكام التي تنظم عملها في إطار قانوني مؤسسي، وأن لا يقل عدد مؤسسيها عن خمسة أفراد، وتخضع أعمالها ومشاريعها التي تستقطب فيها أموال المساهمين، إلى اكتتاب عام ومعلن، وتخضع حساباتها لتدقيق مباشر من قبل الجهات الحكومية الرقابية.
المستشار القانوني محمد المحبشي رئيس المركز اليمني الدولي للتحكيم التجاري وأستاذ القانون في جامعة صنعاء، يوضح في حديث لـ”خيوط”، أن القانون يجيز “المضاربة” متى ما استندت إلى اُسس واقعية وإلى القوانين المنظمة للأعمال، “مثل أن تأخذ مبلغ مالي من “مضارب” وتوظفه في مشاريع حقيقية وفقاً للاعتبارات والمعايير المتبعة في ممارسة الأعمال التجارية والاستثمارية”. وحسب المحبشي، الذي اطلع على عقود بعض هذه الشركات ومساهمين ووجد أن ظاهر العقد “شرعي وقانوني” لأنه تم تحديد نسبة مشاعة من ربح مجهول، أبدى استعداد المركز للنظر في شكاوي من يرون أنفسهم متضررين أو تعرضوا لأعمال تندرج في جوانب الاحتيال والنصب.
لكن هناك من يضع مقاربة تبدو مختلفة مع التفسير السابق، منهم الباحث الاقتصادي كمال ناشر، وهو مختص أيضاً في التدقيق المالي والمحاسبي. ويرى ناشر أن هناك معايير متبعة لممارسة أي عمل تجاري أو استثماري تتضمن أهدافه أن يكون شركات مساهمة تجمع أموال من مساهمين وتقوم ببيع أسهم.
وفي ظل عدم وجود سوق للأوراق المالية في اليمن، وهو مشروع متعثر منذ سنوات في وزارة المالية، تقتضي الضرورة وفق حديث ناشر لـ”خيوط”، أن تستند مثل هذه الأعمال للأسس والمعايير المصرفية والاستثمارية المتبعة في اليمن، وتتضمن وجود كيان إداري ومؤسسي حقيقي لها، ودراسات جدوى تفصيلية وتوقعات بمستويات التشغيل والأرباح، وتقارير مالية مدققة تفصيلية توضح التمويل وحجم رأس المال والاستثمارات التي تمت، وعائداتها، وتكون مبينة يطلع عليها الجميع من القائمين على الشركة والمساهمين فيها.
مؤخراً أصدر البنك المركزي في عدن، تعميماً بموجبه تم إيقاف شركات وشبكات تحويلات مالية محلية، واعتبرها التعميم غير حاصلة على تراخيص تخولها مزاولة عملها، وألزمها بسرعة تصحيح أنظمتها المالية وربطها بالنظام المحاسبي للبنك في عدن
تحرك قادم للتحري
تحوم شبهات حول هذا النوع من الأعمال والشركات التي تعد “المضارب” بأرباح كبيرة، في دولة تشهد حرباً وتردٍّ اقتصادي ومعيشي وتوقف رواتب القطاع العام وتراجع دخل مختلف الشرائح الاجتماعية في اليمن، وبالتالي تضييق المساحة التي يمكن أن تتحرك فيها مثل هذه الأموال والاستثمارات.
هذا النوع من الشركات والأعمال ارتبط اسمها وازدهارها بالحروب منذ أول ظهور لها عالمياً بعد الحرب العالمية الثانية، وتجد في الحروب ومناطق النزاع بيئة خصبة للنمو والانتشار.
وفي ظل هذه الوضعية، ومع نمو أسواق موازية كونتها تجارة الحرب والسوق السوداء في المشتقات النفطية والعملة والطاقة الكهربائية وحتى في التعليم والصحة وتشكُل فئات ثرية من اقتصاد الحرب، هناك من يعتبر مثل هذه الشركات والأعمال ومنهم كمال ناشر، نوع من أنواع “غسيل الأموال” المتفشية في اليمن بسبب الحرب وعبارة عن حلقة أموال متضخمة تدور في الأسواق الموازية التي ظهرت منذ بداية الحرب وتصب في الأخير في قنوات محددة لصالح تجار الحرب والفئات التي كونتها هذه الأسواق الموازية، مع استخدامها في “تسييل” أموال غير مشروعة في نظام اقتصادي ومالي موازي كونته الحرب.
ورصدت “خيوط”، توسع دائرة تجار العملة الدائرة التي تستند عليها أسواق وشركات توظيف الأموال، وانتشار مكثف ومتواصل لمحال الصرافة التي زادت بنحو خمسة أضعاف، خصوصاً في صنعاء وعدن- المراكز المالية لطرفي الحرب: الحكومة المعترف بها دولياً وأنصار الله (الحوثيين). ففي صنعاء مثلاً، يرجح معد هذا التحقيق، ارتفاع عددها إلى 1200 شركة ومحل عاملة في مجال الصرافة، من 400 شركة مرخصة بمزاولة العمل، وفق آخر بيانات صادرة عن البنك المركزي اليمني قبل الحرب.
مؤخراً أصدر البنك المركزي في عدن، التابع للحكومة المعترف بها دولياً، تعميماً- اطلعت عليه “خيوط”- بموجبه تم إيقاف شركات وشبكات التحويلات المالية المحلية، واعتبرها التعميم غير حاصلة على تراخيص تخولها مزاولة عملها، وألزمها بسرعة تصحيح أنظمتها المالية وربطها بالنظام المحاسبي للبنك في عدن.
ومع تزايد الحديث والحملات المكثفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن شركات تُمارس بيع الأسهم في السوق اليمنية، وأنها تقوم بعمليات “نصب واحتيال” على المواطن، وهو ما دفع بالجمعية اليمنية لحماية المستهلك للتدخل وتوضيح موقفها إزاء ما يدور، وهل هناك بالفعل ظاهرة منتشرة وضحايا بأعداد كبيرة لهذه الشركات؟
يجيب رئيس الجمعية فضل منصور في حديث لـ”خيوط”، مؤكداً عدم تلقي الجمعية أي شكوى من أي شخص تعرض للنصب من قبل هذه الشركات، وتم التواصل مع الجهات الحكومية المعنية، والحديث لرئيس جمعية المستهلك، وأفادوا بأن بعض أسماء الشركات التي تم تداولها، حاصلة على سجل تجاري فردي أي “نشاط فردي”، وليست شركات مساهمة أو شركات أشـخاص.
وبينما تقوم الإدارات المختصة في وزارة الصناعة والتجارة التابعة لسلطة أنصار الله (الحوثيين) بـ”التحريات اللازمة”، وفق ما أفاد به “خيوط”، مسؤول في الوزارة فضل عدم ذكر اسمه، بالتنسيق مع الأجهزة المعنية للتأكد من الوضعية القانونية لعديد الشركات المتداولة أسماؤها بكثافة مؤخراً، لكن حجر الزاوية التي يكررها أيضاً هذا المسؤول، تتمثل في عدم تلقي شكوى من أي مواطن.
ويقول منصور أن هناك شركات تعمل في السوق منذ سنوات، وقامت بتصحيح وضعها القانوني ولديها استثمارات من عقارات ومحلات تجارية وغيرها، ولديها عناوين معروفة.
و”مع الأسف الشديد”، حسب رئيس جمعية المستهلك، فإن الأخبار كلها تتم عبر “الفيسبوك” و”الواتساب”، لكن “هل هؤلاء الأشخاص الذين تم النصب عليهم أبلغوا الأجهزة الأمنية، أو الأجهزة المختصة، أم اكتفوا بالنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي؟ يتسائل منصور، لأن كل من نشر، كما يوضح، لم يُبين اسمه وإنما اسم الشركة أو الشخص الذي تعاقد معه فقط، “وكيف تريد من الأجهزة المعنية أن تقوم نيابة عنك وأنت تخفي اسمك وهويتك ورقم تلفوناتك وعنوان الشركة التي تقول أنها نصبت عليك”؟
وتدعو جمعية حماية المستهلك “الجميع إلى التعاون مع الأجهزة المختصة في تقديم الشكاوي والمعلومات إليها لتقوم بواجبها بما فيها الجمعية”. وبخصوص اتهام الجمعية بالتهاون من قبل البعض، يقول منصور، “من أين لنا أو لغيرنا معرفة معلومات يحتفظ بها الأشخاص لديهم ولم يبلغوا الجمعية أو غيرها من الجهات ذات العلاقة، لتحد من مثل هذه الأمور، ومن الشركات الوهمية التي تُمارس النصب والاحتيال على الناس”.