تسببت الحرب المشتعلة منذ أكثر من خمس سنوات بين قوات الحكومة المعترف بها دولياً وجماعة أنصار الله (الحوثيين)، بتشريد أكثر من أربعة مليون يمني وفق آخر إحصائية لمنظمة الأمم المتحدة.
يعاني النازحون في جميع مخيمات البلاد من الفقر والبطالة بسبب شحّة المساعدات التي تصلهم من المنظمات الإغاثية، الأمر الذي يدفع بعض الأسر إلى تزويج بناتها القاصرات في سن مبكرة جداً، وهي ظاهرة تفشت في مخيمات النزوح مؤخراً بشكل لافت، ما ألقى بظلاله على مستقبل جيل بأكمله من الفتيات النازحات.
تحدث الزيجات غالباً في الظل، بعيداً عن أعين السلطات الرسمية، وعن اهتمام المنظمات التي يقتصر دعمها للنازحين على الجانب الإغاثي دون التوعوي، فيما تُترك هؤلاء القاصرات وحيدات في مواجهة مصير قاسٍ ومستقبل مجهول.
تركت عتاب المدرسة وما تزال في الصف الرابع الأساسي. لم تفصح عن حلمها المستقبلي قبل أن تتزوج، لكن أكبر أحلامها الآن، أن تصبح “كوافيرة”.
نزوح
في منطقة “البيرين” بمديرية المعافر، (30 كم غرب مدينة تعز)، تعيش مئات العائلات النازحة في مخيم “البيرين” ومخيم “الملكة”. نزحت غالبية هذه العائلات من منطقة “الكَدَحة” (60 كم غرب مدينة تعز)، حيث لا تزال منطقة مواجهات بين قوات الحكومة المعترف بها دولياً والفصائل الموالية لها، وبين جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وذلك لقربها من باب المندب. وإلى ذلك، هناك عائلات من المنطقة فضلت النزوح إلى مدينة تعز، لكن ظروف حياتها ليست بأفضل حالاً من ظروف العيش في مخيمي “البيرين” و”الملكة”. سوء الأوضاع المعيشية والشتات الذي تعيشه هذه العائلات، جعل مخيمات النزوح بيئة خصبة لانتشار ظاهرة الزواج المبكر. وتجد الفتيات القاصرات أنفسهن أمام مهام وواجبات تفوق أعمارهن، ويجبرن على الأمومة في سن أقل من الثامنة عشرة، وبالمثل، الأطفال الذكور الذين يتحملون مسؤولية الأبوة وتأسيس عائلة.
زواج اضطراري
في مخيم “البيرين”، اضطرت عتاب سالم (14 سنة)، لترك دراستها بعد أن قبلت بالزواج من طفل في مثل عمرها. تقول عتاب لـ”خيوط”، إنها نزحت مع أسرتها من منطقة “الكدحة” إلى هذا المخيم، وعند مقابلتها مطلع أبريل/ نيسان 2020، لم يكن مضى على زواجها أكثر من 20 يوماً.
تركت عتاب المدرسة وما تزال في الصف الرابع الأساسي. لم تفصح عن حلمها المستقبلي قبل أن تتزوج، لكن أكبر أحلامها الآن، أن تصبح “كوافيرة”.
مسؤولية كبيرة باتت اليوم ملقاة على عتاب الطفلة، التي صارت معنية بمهام ومسؤوليات أكبر من عمرها، ابتداءً بالواجبات المنزلية، من طهي، وتنظيف، وغسيل، وليس انتهاءً بمسؤولياتها الاجتماعية كزوجة وربة بيت.
لحرب تفاقم الظاهرة
يندب النازحون حظهم العاثر الذي دفعهم إلى النزوح جراء حرب شردتهم وألقت بهم في مخيمات تفتقر لأبسط الإمكانيات ووسائل الحماية، إلى جانب افتقارهم للمواد الغذائية الأساسية للحياة، ما دفع البعض منهم لتزويج بناتهم في سن مبكرة، لتخفيف عبء الواجبات الأسرية.
في حديثها لـ”خيوط”، تختصر فاطمة، وهي أم لإحدى القاصرات اللاتي تزوجن في مخيم “البيرين”، الأسباب التي دفعتها لتزويج ابنتها في سن مبكرة، بـ”الحرب”.
وتضيف فاطمة: “لا شيء يسندنا هنا في هذه الخيام، نحن نعتمد كلياً على المعونات التي تأتينا من المنظمات الإغاثية بشكل غير منتظم”. كما تؤكد أن العائلات النازحة تضطر إلى تزويج بناتها في سن مبكرة للتخفيف من أعبائها المعيشية، لافتة إلى أن أغلب الفتيات الصغيرات في مخيم “البيرين”، حيث تقيم، إما مخطوبات أو متزوجات.
زوجتُ ابنتي في عمر الرابعة عشرة، وعندما تعسر مخاضها أسعفناها إلى عيادة طبيب في المنطقة المجاورة لنا، حيث قام بتوليدها بعد عناء وتعسّر شديد كادت لا تنجو منه
هروب من المسؤوليات
رياض إبراهيم، والد طفلة متزوجة، يسرد لـ”خيوط”، عدة أسباب دفعته للقيام بذلك، وجميعها متعلقة بالوضع المادي وحالة العوز التي يعيشها كنازح.
ويضيف: “زوجتُ ابنتي في عمر الرابعة عشر، وقبل أسبوع تعسر مخاضها فأسعفناها إلى عيادة طبيب في المنطقة المجاورة لنا، حيث قام بتوليدها بعد عناء وتعسّر شديد كادت لا تنجو منه”.
أسباب أخرى تقف خلف ظاهرة زواج القاصرات، منها العادات والتقاليد، والضغط الأسري الكبير الذي يتعامل مع البنت -وإن كانت قاصراً- من منظور صون الشرف وحفظ العرض، وذلك نتيجة لغياب الوعي والنضج الثقافي وتدني مستوى التعليم، والتشدد القبلي الذي يسنده التشدد الديني، لتمرير الكثير من القضايا المتعارضة مع الدين والعقل والمنطق، والذي غالباً ما يذهب ضحيته الحلقة الأضعف في المجتمع، وفي مقدمتها النساء، القاصرات منهن على وجه التحديد، والأطفال.
آثار سلبية
يتحدث الناشط الاجتماعي، موسى حسن لـ”خيوط”، عن الآثار السلبية التي تلحق بالفتيات القاصرات، اجتماعياً وتعليمياً ونفسياً، بسبب تزويجهن، لافتاً إلى أن الطفلة تحرم بعد أن تتزوج من إكمال تعليمها، وتنقطع علاقاتها مع زميلاتها، وتحرم من ممارسة حقها في الحياة كطفلة. أما فيما يتعلق بالأثر الصحي، فيقول الطبيب عبدالله الفهيدي، إن الطفلة التي لا يتجاوز عمرها الـ18، لا تكون مهيئة جسدياً ونفسياً للزواج، ولا يكون باستطاعتها أن تكون ربة بيت أو تنجب وترعى أطفالاً كما ينبغي، إذ إن جسمها لم يكتمل نموه بعد.
ظاهرة تزويج القاصرات ليست جديدة في اليمن، لكنها تزايدت بصورة مقلقة اجتماعياً خلال سنوات الحرب. وفي حين يرى الناشط موسى حسن أن الحل لهذه الظاهرة، يكمن في توفير مصادر دخل كافية لتلك الأسر الفقيرة، وتفعيل قوانين منع الزواج المبكر، ترى فاطمة أن الحل “بيد الدولة”. فمن وجهة نظر هذه الأم التي لجأت لتزويج ابنتها في سن الـ13، فإن الأسر النازحة تحتاج إلى رعاية من قبل الدولة، مطالبة بضرورة توفير المواد الغذائية والخيام للنازحين، إلى جانب الاهتمام بمواصلة التعليم لأولادهم.
معضلة قانونية
تستخدم الأسر أساليب الترغيب والترهيب لإجبار بناتها على القبول بفكرة الزواج، الأمر الذي يدفع الصغيرات إلى الإذعان في نهاية المطاف.
لم يحدد قانون الأحوال الشخصية المعدل بعد العام 1990، سن الزواج، لكن الكثير من المدافعين عن حقوق الإنسان، كانوا دفعوا باتجاه تحديد سنّ الزواج بـ18 عاماً، وقد تم تضمين هذا التحديد في مسودة الدستور الذي تمت مناقشته أثناء مؤتمر الحوار الوطني الشامل عام 2014. لكن الدستور الجديد لم ير النور، على إثر الحرب التي بدأت بسيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) على العاصمة صنعاء ومدن أخرى، مروراً بالتدخل العسكري من قبل السعودية والإمارات على رأس تحالف ضم دولاً أخرى، وهي الحرب التي لم تنته حتى اليوم.
المحامي والناشط الحقوقي ياسر المليكي، ذكّر في حديثه لـ”خيوط”، بكون ظاهرة زواج القاصرات ليست جديدة على المجتمع اليمني، خصوصاً في المناطق التي تفتقر إلى التنمية المجتمعية والتعليم، مثل الحديدة، حجة، لحج وصعدة.
غير أن المليكي يؤكد تنامي الظاهر نتيجة الحرب، التي أحدثت الكثير من الأزمات، خصوصاً في أوساط النازحين، الذين لجأ كثيرون منهم لتزويج فتياتهم الصغيرات، للتخفيف من الأعباء المالية وتكاليف نفقاتهن.
ويستطرد المليكي في حديثه: “على الرغم من أن الزواج المبكر غالباً ما ينتهي إلى الطلاق نتيجة مشاكل مادية وأحياناً مشاكل متعلقة بانعدام التكافؤ العمري، إلا أنه يحدث وبتنامٍ ملحوظ، وهناك العديد من الأمثلة على ذلك، منها زواج طفلة بعمر الـ12 سنة قبل ثلاثة أشهر، كانت ما تزال في الصف الخامس الابتدائي”.
وتجدر الإشارة إلى أن تفشي ظاهرة تزويج القاصرات على هذا النحو المفزع، يأتي في ظل غياب شبه تام لدور المنظمات والجمعيات المعنية بحقوق الأطفال، سواء كانت هذه المنظمات داخلية أو خارجية.