ما يجري في سقطرى ليس مجرد صراع مصالح أو نزاع سلطة ومعارضة، ولا يمثل امتداداً مباشراً لصراع “التحالف العربي” وحكومة هادي مع سلطة الأمر الواقع لجماعة أنصار الله (الحوثيين) في صنعاء. هو بالأحرى، صراع تم خلقه وفق معطيات مستحدثة تدخل ضمن الصراع الجيوسياسي الساعي لتغيير الجغرافيا السياسية في اليمن كما يبدو من مظاهره وتطوراته، ويمكن أن يكون نتيجة تغيير أهداف التحالف بقيادة السعودية، أو كشافاً متأخراً عن حقيقة الأهداف غير المعلنة لتدخل التحالف العربي في اليمن.
هذا ينطبق أيضاً على المهرة أقصى شرقي اليمن، فالمحافظتان بعيدتان كل البعد عن بؤر الصراع المسلح، وسكانهما يميلون إلى السلام والتعايش وعدم التسلح، كما أنهما من أقل مناطق البلاد كثافة سكانية وأغناها وأكثرها تنوعاً بيئياً، ومع هذا كانتا محل اهتمام وتركيز التحالف عسكرياً، تحت شعار إعادة الإعمار والتنمية في اليمن، فتم جرّهما قسراً من واقع مستقر وآمن، إلى بؤرتي صراع عسكري وسياسي يتغير بوتيرة أسرع من تغيره في مناطق جغرافيا النزاع الرئيسية في اليمن.
بعد تطور الصراعات البينية للكيانات المنضوية تحت مظلة “التحالف العربي “في عدن، بين قوات أصبحت مع الوقت تابعة لإدارة المجلس الانتقالي الجنوبي، والقوات الحكومية التابعة للرئيس المعترف به دولياً، في أغسطس/ آب 2019، وبعد رجحان كفة قوات الانتقالي وسيطرتها على عدن، وضعت الرياض خارطة طريق لمعالجة علاقة الطرفين سميت بـ”اتفاق الرياض”. لم ينتج الاتفاق عن مفاوضات مباشرة بين حكومة الرئيس هادي والمجلس الانتقالي، بل ضغطت الرياض عليهما لتوقيع رؤيتها للحل. ومن قراءة بنود الاتفاق، ليس من السهل معرفة ما إذا كان يهدف إلى إعادة هندسة تركيبة الحكومة أم إلى استيعاب المجلس الانتقالي في حكومة جديدة.
خرج أنصار الله (الحوثيون) من عدن في 17 يوليو/ تموز 2015، بعد وصول قوات تابعة للتحالف العربي والإمارات تحديداً. سبق ذلك تسريبات للحدث عن اتفاق جرى لتسليم عدن للحراك الجنوبي حينها، أي أن إعادة المدينة التي أعلنها الرئيس المعترف به دولياً- هادي “عاصمة مؤقتة” لحكومته، وأعلن التحالف تدخله لإعادة السلطة إليها، لم يكن هدفاً للتحالف يومها، وكان تاريخ خروج أنصار الله (الحوثيون) من المدينة ذا رمزية يبدو أنها مقصودة في ذكرى إعلان الرئيس السابق علي عبدالله صالح انتصار قواته في حرب صيف 1994، والتي أدت لاحقاً إلى ظهور ما بات يعرف بـ”القضية الجنوبية”. وبدلاً من ضمّ المقاتلين الذين شاركوا في مواجهة أنصار الله (الحوثيين) إلى قوات الجيش الموالي لهادي، تم تشكيل كيانات عسكرية جديدة كانوا نواة لها، قبل أن يتم التجنيد الموسع فيها وتحويلها إلى قوات الحزام الأمني المدعومة إماراتياً، والمناهضة لهادي وحكومته بشكل واضح، خاصة مع تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بإعادة تأسيس دولة مستقلة في جنوب اليمن.
بدت التطورات في عدن موجهة في اتجاهين، أحدهما تكريس خطاب مناطقي (جنوبي-شمالي) ضد كل ما ينتمي لشمال اليمن، والآخر مناطقي أيضاً، ولكن بين مناطق الصراع التقليدي على مستوى الجنوب؛ فقوات الحزام الأمني في عدن ولحج والضالع وأبين، يتحدر أغلب منتسبيها، إن لم يكن جميعهم، من (الضالع، يافع، ردفان)، وهذه المناطق مثلت طرفاً في صراعات القوى الجنوبية التي بلغت ذروتها في أحداث يناير/ كانون الثاني 1986، ويمثلها اليوم عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي، وكان الطرف الآخر، القوى المتحدرة من محافظتي أبين وشبوة، وهي المناطق التي شكل هادي منها ألوية الحماية الرئاسية. ومعروف أن هادي كان أحد القيادات العسكرية التي شاركت في أحداث يناير 86، ونزحت بعد هزيمتها إلى صنعاء، ثم شاركت إلى جانب قوات علي عبدالله صالح في حرب 1994، أي أنه تم إعداد عدن والجنوب عموماً، لمرحلة صراع وتصفيات بين القوى الجنوبية، وليس لعملية مصالحة وطنية وسلام، لا على المستوى الوطني ولا على مستوى الجنوب.
بشكل عام، أدى صراع أغسطس/ آب 2019، وهو إحدى التمظهرات الخشنة لصراع الطرفين الجنوبيين، إلى وضع الرياض صيغة اتفاق بين الطرفين قضى بتشكيل حكومة جديدة من الطرفين تشكل مناصفة بين الشمال والجنوب، على أساس أن يحظى “الانتقالي” بحقائب وزارية فيها دون توضيح آلية توزيع الحقائب بين القوى الجنوبية أو الشمالية، مع تعيين محافظ لعدن ومدير للأمن العام فيها، بقرار من الرئيس المعترف به هادي، ولكن “بعد التشاور” غير الواضح أطرافه ولا مدى إلزاميتها به. أدى ذلك لموجات صراع جديدة عند تنفيذ تفاصيل الاتفاق غير المفصل، وكان الشقّ الثاني من الاتفاق أمنياً/عسكرياً يقضي بدمج قوات المجلس الانتقالي الخارجة عن سيطرة الحكومة المعترف بها، في القوات الحكومية بإشراف السعودية وقواتها التي تتواجد في عدن خلفاً للقوات الإماراتية التي انسحبت من المدينة. غير أن وزيري الدفاع والداخلية في الحكومة القائمة حالياً، غير مقبولين من المجلس الانتقالي.
تغيرت ذريعة الرياض من “محاربة الشيوعية” إلى “محاربة الشيعية” في اليمن، وتحولت من مسار السعي للقيادة القومية إلى مسار السعي للقيادة الطائفية لـ”المحور السنّي” في العالم الإسلامي، وهو نفس المسار الذي تسعى فيه إيران لقيادة “المحور الشيعي”.
منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، واتفاق الرياض مجرد وثيقة نظرية لم تتحول إلى واقع، بل حدثت تطورات على الأرض قد تجعلها وثيقة نظرية إلى وقت غير معلوم. ففي أبريل/ نيسان 2020، صعّد الانتقالي ممارساته وأعلن ما وصفه بـ”الإدارة الذاتية للجنوب” أي السيطرة على المؤسسات الحكومية في المحافظات الجنوبية، ودشّن ذلك عملياً في عدن، ثم انتقل لاحقاً إلى سقطرى التي سيطر عليها رغم تواجد القوات السعودية، بينما كانت المعارك بين الطرفين تدور رحاها بمحافظة أبين، رغم تدخل التحالف كوسيط بين الطرفين.
من هذه المعطيات، يمكن استنتاج وجود رغبة للتحالف العربي، بجناحيه السعودي والإماراتي، للسيطرة المباشرة أو عبر قوى محلية، على الجزيرة اليمنية الاستراتيجية (سقطرى)، كهدف تقول المعطيات المتعددة إن الإمارات تسعى إليه منذ وقت طويل، وسبق للحكومة المعترف بها دولياً رفع شكوى إلى مجلس الأمن بهذا الخصوص. كما يسعى التحالف للسيطرة على محافظة المهرة ذات الأهمية البالغة للسعودية في حال قررت الشروع المعلن في مدّ أنبوب النفط إلى البحر العربي عبر أراضيها. وإذا كانت هذه مصالح يمكن تحقيقها وفق ضوابط العلاقات الدولية بإيجاد معادلة واضحة مع الدولة اليمنية، إلا أن أنشطة الدولتين في البلد توحي بتعمد تجاوز الحكومة المعترف بها، إلى العمل المباشر مع قوى غير رسمية تم تخليقها على الأرض.
يقع اليمن ضمن المجال الحيوي لكل من دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية معاً، لكنه العمق الاستراتيجي الأكثر أهمية للمملكة، والذي تريده أن يمثل لها ملاذاً آمنا والعكس بدلاً من تحول أي منهما إلى مصدر خطر على الآخر. فإذا أغلقت ممرات التجارة النفطية في مضيق هرمز مثلاً، فإن الموانئ والشواطئ اليمنية يمكن أن تقدم البديل الذي يقلل خسائر المملكة، كما أنه عنصر مباشر وجوهري من عناصر أمنها القومي، والحدود المفتوحة بين البلدين بطول 2400 كيلومتر تقريباً، تجعل كلاً منهما مصدر حماية إجباري لا يمكن للآخر تجاوزه، وقد سهلت هذه الحدود توحيد تنظيمي القاعدة في البلدين في تنظيم واحد عام 2009، وانتقال عناصر التنظيم بين البلدين بسهولة. وبينما كانت مشكلة الحدود بين البلدين تفسيراً اعتيادياً لمخاوف الرياض من صنعاء، وبعد ترسيم الحدود بين البلدين عام 2000، بدأت الرياض ببناء جدار عازل على حدودها مع اليمن عام 2003، ثم توقفت لأن ذلك مخالف لاتفاقية الحدود، لكنها عادت لبنائه في 2013، قبل أن تتغير الأوضاع في اليمن والمنطقة لتتجاوز الجدار وأشياء أخرى.
عندما سيطرت جماعة أنصار الله (الحوثيون) على صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014، لم تتدخل الرياض عسكرياً، وقبل ذلك زارها هادي عند سيطرة الجماعة على عمران، بالتزامن مع زيارة وزير دفاعه محمد ناصر أحمد إلى أبوظبي، ما أعطى مؤشراً على الارتباط المباشر للدولتين بأحداث اليمن منذ المبادرة الخليجية التي تبناها مجلس التعاون الخليجي. وتتمتع سفارتا الرياض وأبوظبي، بنفوذ واسع داخل اليمن خاصة الأولى، وهما أقرب سفارتين إلى دار الرئاسة اليمني جنوبي العاصمة صنعاء، كما أنهما محاذيتان لبعضهما ويفصل بينهما جدار واحد، وهذا يستدعي إلى الأذهان موقع السفارة المصرية المحاذية للقصر الجمهوري بصنعاء عندما كان مقر الحكم الرئيسي عقب ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، التي قامت بدعم مصري مباشر. يومها كانت مصر الخصم التقليدي للرياض في المنطقة، ومثّل دعمها للثورة الجمهورية، ذريعة للسعودية لدعم الملكيين ضد الثورة الجمهورية في شمال اليمن، وهو نفس الأمر الذي تمثله إيران اليوم في مبررات التدخل السعودي، مع فارق بين أشكال التدخل المصري والإيراني والسعودي اليوم، وبين أشكال التدخل خلال ستينات القرن العشرين.
منذ ستينيات القرن الماضي، تعامل المجتمع الدولي، خاصة المعسكر الغربي حتى 1990، مع صنعاء عبر الرياض، باعتبار الأخيرة عدسة ونافذة وفلتر، وقد استوعبت بعض القيادات الجنوبية التي غادرت اليمن بعد حرب صيف 1994، كما استوعبت القوى الملكية بعد حروب الجمهورية في الستينات، والأسر السلاطينية الجنوبية بعد تولي الجبهة القومية في الستينات أيضاً. وبالتالي، كانت كل القوى اليمنية المعارضة في الخارج تقريباً تحظى برعاية الرياض بشكل كامل، فحتى الشخصيات السياسية الجنوبية من جبهة التحرير التي غادرت عدن إلى صنعاء في الستينات، كانت تحصل على معونات مالية سعودية منتظمة، وهذا الأمر ليس بدوافع إنسانية بالتأكيد.
اليوم تغيرت ذريعة الرياض من “محاربة الشيوعية” إلى “محاربة الشيعية” في اليمن، وتحولت من مسار السعي للقيادة القومية إلى مسار السعي للقيادة الطائفية لـ”المحور السنّي” في العالم الإسلامي، وهو نفس المسار الذي تسعى فيه إيران لقيادة “المحور الشيعي”.
هناك أوجه شبه بين التغيرات الداخلية التي جرت في الرياض عند تدخلها في اليمن خلال الستينات، والتغيرات التي تزامنت مع تدخلها الحالي في اليمن؛ فبعد قيام الثورة اليمنية، تمت إزاحة الملك سعود من الحكم على يد أخيه فيصل، وهو إجراء لم يتكرر في المملكة، إلى أن قام الملك سلمان وولي عهده، بتصرف مشابه مع ولي العهد الأسبق- مقرن بن عبدالعزيز، وولي العهد السابق محمد بن نايف، وربما كانت التغيرات اليوم أكثر عمقاً في أجهزة الدولة السعودية، وهي تشمل بالتأكيد الشخصيات والأجهزة والمؤسسات السعودية التي تدير الملف اليمني.
قد يكون هناك فارق جوهري في تدخل السعودية خلال الستينات وتدخلها اليوم، فالحرب في اليمن اليوم يراها كثيرون بؤرة استنزاف لأموال المملكة، بينما كانت المملكة في الستينات ضمن المحور الهادف إلى استنزاف مصر عبدالناصر في اليمن، وجعلها مستنقعاً لفرقتين من الجيش المصري أرسلهما ناصر لدعم ثورة اليمن في الشمال. وبعد اغتيال جون كنيدي، الداعم لحركات التحرر في العالم، والذي اعترفت واشنطن في عهده بالجمهورية العربية اليمنية، وأخذ ثوّار صنعاء مقعد اليمن في الأمم المتحدة يومها بفضل ذلك الاعتراف، كانت مخابرات واشنطن ولندن، تديران حرب الثمان سنوات في الشمال، بالتنسيق مع إسرائيل والسعودية وإيران وتركيا والأردن. وكان الرئيس الأمريكي ليندون جونسون يسمي حرب اليمن بـ”حرب كومر الخاصة”، إشارة إلى مستشاره للأمن القومي روبرت كومر، الذي أدار عملية استنزاف مصر في اليمن بالتنسيق مع حلفاء واشنطن، حسب الصحفي محمد حسنين هيكل في كتابه “حرب الثلاثين سنة، الانفجار 1967“.
تغيرت سياسة واشنطن في المنطقة بعد كنيدي بصعود الرئيس جونسون- شديد العداوة لناصر وشديد الولاء لإسرائيل- وكان من ضمن ملفاتها الساخنة يومها الحرب في اليمن، ثم حرب الأيام الستة في يونيو/ حزيران 1967 “النكسة”، بين مصر وإسرائيل، وهي الحرب التي كانت سبباً رئيسياً لانسحاب القوات المصرية من اليمن. بعد الانسحاب المصري، انتقل الملف اليمني كلياً إلى يد الرياض بعد انقلاب الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، ضد المشير عبدالله السلال، وصعود القوى الجمهورية التي وقّعت اتفاق المصالحة بين الجمهوريين والملكيين برعاية الرياض عام 1970، وبعدها فقط، حصلت دولة صنعاء الجمهورية على اعتراف لندن وباريس وطهران والرياض.
كانت السعودية يومها تعدّ نفسها قائداً للدول العربية الموالية للمحور الغربي خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. وبهذا فقد كانت مصر خصمها التقليدي، كقائد للدول المناهضة للغرب والأقرب لموسكو، وكانت عدن تقترب من كونها الدولة الاشتراكية الوحيدة في المنطقة بعد مغادرة الاحتلال البريطاني. كانت الرياض تخشى دعم عبدالناصر للدولة الاشتراكية الوحيدة في المنطقة، وبالتالي قالت إنها تحارب الشيوعية في اليمن، واتخذت من نظام الحكم الجمهوري في شمال اليمن حائطاً لصدّ المدّ الاشتراكي لنظام عدن، منذ أواخر الستينات حتى توحيد الشطرين في مايو/ أيار 1990. غير أنها، في تغير مفاجئ لتحالفاتها، دعمت الحزب الاشتراكي اليمني- خصمها التقليدي في اليمن- وحلفائه في حرب صيف 1994، ضد مثلث حلفائها التقليديين في صنعاء: الرئيس السابق صالح والشيخ عبدالله الأحمر وعلي محسن الأحمر.
اليوم تغيرت ذريعة الرياض من “محاربة الشيوعية” إلى “محاربة الشيعية” في اليمن، وتحولت من مسار السعي للقيادة القومية إلى مسار السعي للقيادة الطائفية لـ”المحور السنّي” في العالم الإسلامي، وهو نفس المسار الذي تسعى فيه إيران لقيادة “المحور الشيعي”. وبما أن إيران قائد المحور الإسلامي الشيعي، فإن الرياض تقول إنها تحارب جماعة أنصار الله (الحوثيين) باعتبارها ذراع إيران الشيعية، رغم أن الجذور الفكرية الزيدية لجماعة أنصار الله (الحوثيين) هي ذات الجذور الفكرية الزيدية للدولة الملكية التي دعمتها ضد الثوار الجمهوريين في الستينات، ورعت، بشكل مباشر، أسرهم التي عاش أغلبها في مدينة الطائف السعودية بعد مصالحة 1970.
تفتقد الرياض إلى رؤية جديدة لليمن كعمق استراتيجي لها، يمكن أن يمثل فرصاً حقيقية للتعاون القائم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل بين البلدين، وتتعامل معه كمصدر للمخاطر، بل إن سياساتها ذاتها تساعد على تحويله من فرصة إلى خطر
باستثناء شيوخ القبائل الذين ربطتهم بالرياض علاقات دائمة حتى بداية الصراع الراهن، فإن الرياض تتخلى عن حلفائها اليمنيين بتغير المعطيات التي ربطتها بهم؛ فقد دعمت ضمنياً انقلاب الجمهوريين المعتدلين بقيادة القاضي عبدالرحمن الإرياني على المشير السلال، المتشدد في ولائه لمصر وفي خصومته للسعودية، وهو الرئيس الوحيد الذي حكم شمال اليمن دون علاقة ولاء للسعودية، ولاحقاً تخلّت الرياض عن القاضي الإرياني عندما وجدت أنه لا ينفذ إملاءاتها بشكل كامل، ودعمت انقلاب إبراهيم الحمدي والشيخ عبدالله الأحمر على الإرياني، وبعد تغير مسار علاقتها بالحمدي، تورّطت في اغتياله مع نفس القوى التي كانت معه عند انقلابه على الإرياني.
في ذات السياق، فإن السعودية بعد دعمها لعلي عبدالله صالح مقابل وقوفه معها ضد النظام الاشتراكي في عدن، وتبني موقفها تجاه ملفات المنطقة الساخنة كالحرب العراقية الإيرانية وحشد “المجاهدين العرب” إلى أفغانستان خلال الثمانينات، فقد دعمت خصومه/خصومهما المشتركين سابقاً في قيادة الحزب الاشتراكي اليمني ضده في حرب صيف 1994، وبعدما فرضت منحه حصانة ضد الملاحقة القانونية على خلفية ممارساته كرئيس لليمن عام 2011، تركته خاضعاً للعقوبات الأممية حتى مقتله على يد خصومها أنصار الله (الحوثيين) في ديسمبر/ كانون الأول 2017. وبعد تحالفها التقليدي مع قيادات القوى الدينية اليمنية التي ينتمي بعضهم إلى الإخوان المسلمين، منذ الستينات، مروراً بحرب المناطق الوسطى في اليمن، فقد صنفت الإخوان المسلمين كـ”جماعة إرهابية”، رغم تصنيف الإمارات لحزب الإصلاح اليمني الذي تقيم قيادته بالرياض منذ 2015، كفرع محلي لتنظيم الإخوان في اليمن، وبهذه النقلات في رقعة الشطرنج اليمنية، تخسر السعودية تحالفاتها في البلاد، وتغيرها بين فترة وأخرى، مع ثبات نسبي في علاقتها غير الرسمية مع الشخصيات القبلية.
إن النفط هو سلاح السعودية الأهم، وتدابير استمرار تدفقه للأسواق العالمية تحتل أولوية قصوى لديها. ومع تطورات الإقليم وصراعاته الأخيرة، وتمدد إيران، الخصم التقليدي لها، في العراق وسوريا ولبنان واليمن، يجعلها أكثر قابلية من أي وقت مضى، للاحتواء الجغرافي الذي يمكن أن يتحول إلى حصار لا يحتاج لأكثر من إغلاق إيران لمضيق هرمز في وجه ناقلات النفط السعودي المتدفق من المنطقة الشرقية المحاذية للشاطئ الإيراني على الضفة الأخرى من الخليج، ومن ثم الحصول على منفذ مطل على المحيط الهندي. هو مشروع سعودي قديم أصبح أكثر إلحاحاً مع الوقت، وربما دفعته السياسة الخارجية المغايرة في عهد الملك سلمان إلى الواجهة، بعد أن تخلّت عن الطابع الناعم لها وتحولت إلى الفعل المباشر والخشن عسكرياً في سياساتها الخارجية في اليمن تحديداً. ولهذا، فحصول الرياض على ممر لأنابيب نفطها وشريان حياتها الأهم على البحر العربي والمحيط الهندي، أصبح هدفاً أكثر وضوحاً وحضوراً، ونشر قواتها في المهرة، التي يفترض أن تكون أراضيها مساراً لهذا الأنبوب، يأتي في هذا السياق. والسؤال: لماذا تحدث السعودية كل هذا الدمار من أجل مشروعها القديم الجديد، رغم أن الأمر ممكن باتفاقية واضحة بين البلدين، ولا يحتاج لممارسات فرض واستعراض القوة التي تنتهجها الرياض ضد اليمن.
تفتقد الرياض إلى رؤية جديدة لليمن كعمق استراتيجي لها، يمكن أن يمثل فرصاً حقيقية للتعاون القائم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل بين البلدين، وتتعامل معه كمصدر للمخاطر، بل إن سياساتها ذاتها تساعد على تحويله من فرصة إلى خطر. وبينما تعد مانحاً أول لليمن، فإن مساعداتها المالية تلك، لم تنجح في تغيير الانطباعات السلبية عن دورها في البلد حتى اليوم. وليس من الواضح إن كانت نتائج تعامل السعودية مع اليمن تتم وفق سياسة مقصودة أو أنها تحدث كنتائج غير مقصودة أو كآثار جانبية للتدخلات السعودية التي تعلن دائماً عن أهداف إيجابية، وتقوم على الأرض بممارسات نقيضة لتلك الأهداف! وفي الحالتين، فإن ذلك لا يخدم استقرار البلدين حاضراً ومستقبلاً، ويقفز على حقائق الجغرافيا والتاريخ ويستعصي على التفسير المنطقي.