منذ بضعة أشهر تشهد الحرب في اليمن حالة تصعيد في أكثر من جبهة، وفي محاور متعددة: مأرب، الجوف، البيضاء، وتعز. لا يقتصر التصعيد على القتال بين الحكومة المعترف بها دولياً، وأنصار الله (الحوثيين) في محافظات الشمال، وإنما يمتد إلى الجنوب بين المجلس الانتقالي والحكومة المعترف بها، وبمستوى معين، بين السعودية والإمارات. هذه الحرب المركبة والمتداخلة بين ما هو أهلي، وإقليمي، ودولي- تعيش وضعاً معقداً، وتشهد حالة مدّ وجزر لأكثر من خمسة أعوام، وكلما طال أمد الحرب، تفاقم الأمر، واشتدت الخطورة، واجتذبت أطرافاً أخرى، واتسعت أكثر فأكثر.
إذا نظرنا في خارطة الحرب بعد سنين خمس، نلاحظ أن الوضع القائم في الشمال يتجسد في الجبهة الرئيسية بين الحكومة المعترف بها دولياً، ومعها “التحالف العربي” -المسكوكة المتداولة إعلامياً؛ ويُقصد به السعودية، والإمارات، مدعومين من أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وفي الطرف الآخر أنصار الله (الحوثيون) مدعومين من إيران.
وفي الجنوب “المحرَّر”، يدور صراع دامٍ بين حكومة عدن والمجلس الانتقالي. وإذا ما فككنا هاتين الجبهتين نجد جبهة الحكومة مكونة بالأساس من حزب التجمع اليمني للإصلاح، وجزء من المؤتمر الشعبي العام القريبين من السعودية، وفي الجانب الآخر، المجلس الانتقالي، المكون من تيار سلفي والحراك الجنوبي المسلح، مدعومين من الإمارات العربية المتحدة.
للصراع في الجنوب أبعاد مناطقية وسياسية ترجع إلى حرب 13 يناير/ كانون الثاني 1986؛ أي بين جماعة “الزمرة”-جماعة علي ناصر محمد حينها، ومنهم الرئيس المعترف به حالياً عبدربه منصور- وبين “الطُغمة” (جماعة علي سالم البيض حينها). وقد اشتركت مجموعة “الزمرة” بفاعلية في حرب صيف 94، ضداً على الجنوب إلى جانب الرئيس السابق علي عبدالله صالح، والتجمع اليمني للإصلاح، ومعهم أعداد كبيرة من الجماعات الإسلامية العائدة من أفغانستان.
ذاكرة حرب يناير 86، وحرب 94، حاضرة بقوة، والسعودية والإمارات تعملان عليها بخبث وعدوانية، لتدمير الكيان اليمني.
ركزت السعودية والإمارات منذ البدء على اقتسام ميدان المعركة: الشمال، والجنوب؛ فتحالفت السعودية مع المؤتمر الشعبي العام -جماعة عبدربه-، ومع التجمع اليمني للإصلاح، في حين تحالفت الإمارات مع الحراك الجنوبي المسلح، والتيار السلفي، وجماعة علي عبدالله صالح، كما انفردت الإمارات بالجنوب، وعملت على تصفية الإصلاح، والسلفيين غير المؤطرين، وكونت أحزمة أمنية، ونخباً عسكرية في محافظات ومناطق الجنوب.
تصارع كل الأطراف وإضعافها هدف رئيس للحليفين الإقليميين؛ فهما يتفقان على تفكيك المجتمع اليمني، وتقسيمه، وزرع الصراع بين مختلف المكونات حتى تلك التابعة لها، وتبدو الخلافات بينهما من حول الحصص والتحالفات، سواء في الداخل، أو مع الإقليم، والأمريكان والبريطانيين والفرنسيين.
حرب الخمس سنوات تعيش حالة مد وجزر؛ فهي لا تهمد في جبهة، حتى تنفجر في جبهة أخرى؛ الحليفان حريصان على توازن الضعف، وأن تصل الحرب إلى أن يكون الكل في مواجهة الكل.
إن تدمير الكيان والمجتمع اليمني يأتي في سياق تدمير الكيانات العربية في العراق، وسوريا، ولبنان، والسودان، والجزائر، وليبيا، وتحجيم مصر وإشغالها بالإرهاب في سينا، وبالتدخل التركي في ليبيا، وبسدّ النهضة في إثيوبيا؛ فالمنطقة تُهيأ لإعادة الصياغة؛ وتحويلها إلى كنتونات هشة ومتصارعة مع مكوناتها الأولى، ومع جوارها.
التصعيد في اليمن راجع إلى عدم رضا اليمنيين عن نهج وسياسات الحلفاء، وانكشاف نهج التفكيك، والاستيلاء على الثروة والجُزر والموانئ، وأيضاً لضعف الحكومة المعترف بها دولياً وتلاشي وجودها، كما أنه عائد إلى الصراع المكشوف بين حلفاء السعودية: الإصلاح، ومؤتمر هادي، وبين حلفاء الإمارات: السلفيين، والانتقالي المسلح، ومؤتمر علي عبدالله صالح، والأخطر هو تخلي السعودية عن التمردات القبلية هنا وهناك، العاملة لصالح التحالف العربي والحكومة المعترف بها دولياً.
الأهم في نظر التحالف العربي، هو استمرار المواجهات بين كل المكونات اليمنية كمناطق، وجهات، وأحزاب، وطوائف، وقبائل، ونُخب، وحتى كأفراد
العجز عن الحسم العسكري، وتزايد كلفة استمرار الحرب، وانكشاف النوايا السوداء لاقتسام الكعكة قبل إنضاجها، أو فلنقل الاختلاف على اقتسام جلد الدب قبل اصطياده، له علاقة بالتصعيد الحالي.
القتال في الجنوب تعبير عن خلاف تكتيكي بين طرفي التحالف العربي بمقدار ما هو اجترار لصراعات الماضي. فهل نقل الصراع إلى الجنوب “المحرر” بين المجلس الانتقالي، والحكومة المعترف بها دولياً، يعني أنه مظهر من مظاهر فشل الحسم العسكري في الجبهة الرئيسية ضد أنصار الله (الحوثيين) المدعومين من إيران، والتي تواجه بدورها متاعب تبدأ ولا تنتهي؛ فالتذمر الشعبي يصل حد الغضب، والتحول في المزاج الشعبي في العراق ضد ممارسة إيران القمعية هناك، وما تمر به سوريا ولبنان من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ينعكس سلباً على أنصار الله (الحوثيين)؛ فأطراف الحرب كلهم يعيشون مأزق تبعاتها، وإن كانت الشعوب العربية هي الضحية، إلا أن صناع الحرب موعودون بدفع الثمن أيضاً.
الصراع في الجنوب بين الحكومة والانتقالي له علاقة بالترتيبات الإماراتية- السعودية للانفصال، وفرض الأمر الواقع، وليس من خلاف بين الحليفين حول انفصال الجنوب وتفكيكه، أما الأحزاب الحليفة، فقد تكتفي بالنقد الناعم والخجول.
أما الشمال، فيتصاعد الصراع فيه، ويصل إلى المملكة نفسها، وقد يستمر الصراع لفترة في انتظار الوصول إلى اتفاق مع أنصار الله (الحوثيين)، والمفاوضات لم تنقطع حسب تسريبات الطرفين.
والأهم في نظر التحالف العربي، هو استمرار المواجهات بين كل المكونات اليمنية كمناطق، وجهات، وأحزاب، وطوائف، وقبائل، ونُخب، وحتى كأفراد؛ فتفكيك اليمن، وتمزيق نسيجها المجتمعي هدف أثير للإقليم والصراع الإقليمي.