عندما لا يكون للإنسانية سلطان

عن الاحتجاز التعسفي خلال الحرب في اليمن
خيوط
July 1, 2020

عندما لا يكون للإنسانية سلطان

عن الاحتجاز التعسفي خلال الحرب في اليمن
خيوط
July 1, 2020

قال صالح إن ثلاثة جنود ملثمين طلبوا منه الاعتراف بصلته بالقاعدة. ضربوه بأعقاب البنادق وركلوه بالبيادات العسكرية، وكهربوه ليعترف بذلك. آثار التعذيب كانت واضحة على ظهره وبطنه، فيما بدا وجهه “متورمًا” و”مزرقًا”.

لم تكن حادثة احتجاز صالح (اسم مستعار) بشكل مفاجئ وهو في أحد شوارع عدن، هي الصدمة الوحيدة التي خلفت أسىً في قلب والدته؛ فالتراجيديا التي حدثت له خلال سنة وثلاثة أشهر تفوق التصور.

تقول الأم التي أمعن الحزن في قلبها طيلة فترة اختفاء ولدها: “أنكروا وجود ابني منذ اختطافه، لم أدرِ ما التهمة المنسوبة إليه، بحثت عنه في أشهر مراكز الاحتجاز وسجون وإدارات الأمن في أبين وعدن، لكنهم أنكروا وجوده!”. رغم كل ذلك، فهي لم تنس لحظة الفرح المباغت الذي انتابها عندما اتصلت بها والدة محتجز آخر تم إطلاق سراحه، لتخبرها بأن لدى الابن المفرج عنه معلومات عن الابن المختفي. كان ذلك بعد سنة وثلاثة أشهر تقريباً من اختفاء صالح. “أحسست وقتها بأني سأطير من الفرح، لكن شاهد عيان حكى لي أن ولدي وجهت له العديد من التهم، من بينها أنه المسؤول المالي للقاعدة”. تضيف.

واقعة احتجاز (صالح) واحدة من 1605 واقعة احتجاز تعسفي، و770 واقعة اختفاء قسري، و344 واقعة تعذيب، منها 66 واقعة وفاة في مكان الاحتجاز لدى مختلف أطراف النزاع بحسب منظمة مواطنة لحقوق الإنسان.

انتهاكات مشتركة

ليست ممارسات الاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب جديدة في اليمن، لكن الحرب التي يعيشها البلد منذ أكثر من خمس سنوات، كشفت القناع عن تسابق أطراف النزاع لممارسة هذه الظاهرة بكثافة وبشاعة.

في معظم الحالات، لم تكن التهم الموجهة للضحايا واضحة، وفي أوقات كان اللقب سبباً كافياً لاحتجاز صاحبه في معتقلات قانونية أو غير قانونية يتم فيها إهانة المحتجزين وتعذيبهم وحتى قتلهم، بطرق يحظرها القانون الدولي الإنساني و القانون الدولي لحقوق الإنسان و القوانين والمعاهدات الدولية والعرفية، بحسب شهادات حصلت عليها منظمة “مواطنة”.

 بحسب شاهد عيان، أخذ الجنود (صالح) إلى غرفة التعذيب حوالي الساعة 10:00 مساء؛ علقوه على خطافات حديدية، وعذبوه بالكهرباء، قُلعت أظافره، ونُتف شعر رأسه، وضُرب بطريقة وحشية، وظل معلقاً حتى بعد التعذيب. ويتابع الشاهد: “كاد قلبي يتمزق حين أمرنا الجنود بإنزاله وحفر قبر له، دفنّاه عند الساعة 04:00 فجرًا، في فناء “قاعة وضاح” (قاعة في مدينة عدن). لم يكن صالح أول من يموت تحت التعذيب، بل هناك مقبرة في فناء قاعة وضاح”.

 توفي صالح في مكان الاحتجاز يوم الثلاثاء، 2 يناير/ كانون الثاني 2018. وأُجبر معتقلون آخرون على دفنه ولم يُسمح لهم بأداء أية طقوس دينية كجزء من الدفن اللائق، وكانت والدة أحد هؤلاء المحتجزين هي التي أبلغت عائلة صالح بوفاته.

تسببت هذه الانتهاكات بعاهات مستديمة على الضحايا مدى الحياة، وبأضرار صحية ونفسية جسيمة، من بينهم ثمان حالات إصابة بالشلل، سبع حالات أصيبت بجلطات، 10 حالات باضطراب نفسي وعقلي

 أعلى عدد من الانتهاكات سجلت على جماعة أنصار الله (الحوثيون)؛ 904 وقائع من الاحتجازات التعسفية أو المسيئة، و353 من وقائع الاختفاء القسري، و138 من وقائع التعذيب منها 27 واقعة وفاة في مكان الاحتجاز، بينما تتحمل الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، المسؤولية عن 282 من الاحتجازات التعسفية أو المسيئة، و90 من وقائع الاختفاء القسري، و65 من وقائع التعذيب منها 14 واقعة وفاة في مكان الاحتجاز، وتتحمل القوات الإماراتية وجماعات مسلحة تابعة لها، المسؤولية عن 419 من الاحتجازات التعسفية أو المسيئة، و327 من وقائع الاختفاء القسري، و141 من وقائع التعذيب منها 25 واقعة وفاة في مكان الاحتجاز.

 تقول أمة السلام الحاج، رئيسة “رابطة أمهات المختطفين”، إن الرابطة استطاعت، بعد محاولات عديدة خلال الأعوام الماضية، إيجاد صدى لقضية المعتقلين، وقام فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة بمناشدة جميع الأطراف إطلاق سراح المحتجزين والمخفيين قسراً. وتستدرك: “لكن هناك تعنت من قبل الجهات المتورطة، خاصة جماعة الحوثي (أنصارالله) والتشكيلات الأمنية في عدن، جعلت من الرهائن المدنيين ورقة لمقايضتهم بعسكريين منخرطين في الحرب”.

وكانت “رابطة أمهات المختطفين” نظمت وقفة احتجاجية في 16 يونيو/ حزيران 2020، أمام مقر قوات التحالف العربي في مديرية البريقة بـ”العاصمة المؤقتة” عدن. طالبت الأمهات “الجهات المعنية” بالكشف عن مصير أبنائهن المخفيين منذ 2016، وإطلاق سراح جميع المخفيين والمعتقلين.

وأوردت الرابطة في بيان، ما يربو عن 40 مخفي قسرياً لدى كل من جماعة أنصار الله (الحوثيين) والتشكيلات العسكرية والأمنية بعدن والحكومة المعترف بها دولياً. توالت أعوام اعتقالهم دون معرفة مصيرهم أو وضعهم الصحي، خاصة في ظل تفشي الأوبئة والحميات منها فيروس كوفيد-19.

وذكر البيان تعرض أكثر من (2070) مختطف ومعتقل، بينهم خمس سيدات، للتعذيب الجسدي والنفسي القاسي، المتمثل بـ”الاعتداء الجنسي، الحرق، الضرب بالأدوات الحادة، الصعق بالكهرباء، التعليق بالأيدي لأيام وأسابيع والتهديد بالقتل”.

  تسببت هذه الانتهاكات بعاهات مستديمة على الضحايا مدى الحياة، وبأضرار صحية ونفسية جسيمة، من بينهم ثمان حالات إصابة بالشلل، سبع حالات أصيبت بجلطات، 10 حالات باضطراب نفسي وعقلي، سبع حالات بأمراض الكلى المزمنة، سبع حالات بضعف في البصر نتيجة سوء الإضاءة والتهوية، وثلاث حالات بضعف السمع.

هذه الأرقام أكدتها منظمة “مواطنة” لحقوق الإنسان، في تقريرها المعنون بـ”في العتمة .. بحثت عن ابني حتى في ثلاجات الموت”، خلال الفترة مايو/ أيار 2016 – أبريل/ نيسان 2020.

تحدث التقرير في جزئه الأول عن وجود 11 مركز غير رسمي مورس فيها احتجاز تعسفي وتعذيب، فيما سلط الجزء الثاني من التقرير الضوء على وقائع الاختفاء القسري في المناطق التي تقع تحت سيطرة ثلاثة أطراف رئيسية: جماعة أنصار الله (الحوثيين)، القوات الموالية للرئيس المعترف به دولياً عبدربه منصور هادي، حزب الإصلاح في مأرب وتعز، وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي والقوات المدعومة إماراتياً.

من جهتها، قالت رئيسة منظمة “مواطنة” رضية المتوكل لـ”خيوط”، إن غياب المساءلة والإنصاف يظهر جلياً في القسوة المفرطة التي تعاملت بها جميع أطراف النزاع مع المعتقلين في اليمن، إذ لم يقتصر الأمر على الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري- وهو بحد ذاته جريمة ضد الإنسانية- لكنه تجاوز ذلك إلى وسائل تعذيب مرعبة أدت إلى وفاة عشرات الحالات.

وأضافت أنه “بالرغم من ثقل وتنوع الانتهاكات المصاحبة لهذه الحرب، إلا أن ملف الاعتقالات التعسفية وما ترتب عليه من إمعان في الأذى، شكل أقسى أنماط الانتهاكات، التي يجب أن تنتهي فوراً”.

وأفادت أن منظمة “مواطنة”، عملت “عبر وحدة الدعم القانوني، وبالتعاون مع جهات أخرى، على الإسهام في إطلاق عدد من المعتقلين وتوصيل عدد آخر بأهاليهم، ومع ذلك ما تزال أعداد المحتجزين والمخفيين كبيرة وبحاجة لتكاتف الجهود لإنهاء المعاناة اليومية عنهم من قبل جميع أطراف النزاع.”

أفرج أنصار الله (الحوثيون) عن حسام بعد سنة ونصف من الاختفاء القسري وسوء المعاملة في “مدينة الصالح”، وبدا في حالة مزرية تظهر عليه آثار سوء معاملة أودت بحياته يوم الأربعاء 3 أكتوبر/تشرين الأول 2018

ممارسات خارج القانون

“أتوا بعد منتصف الليل لاحتجاز فهيم الذي كان يعمل حارسًا لمستودع، ثم اعتقلوا حسام من القرية المجاورة في ذات الوقت، دون أن نعرف السبب، ولأننا من المهمشين ولا أحد يحمينا، زُجّ بالشابين في سجن مدينة الصالح” قال عمُّ فهيم، ضمن الشهادات التي جمعتها منظمة مواطنة.

فهيم وحسام مواطنان من محافظة تعز، مديرية الصلو. تم اعتقالهما بعد منتصف ليلة الثلاثاء 4 أبريل/ نيسان2017، حيث أقدم خمسة مسلحين يرتدون ملابس مدنية تابعين لجماعة أنصار الله (الحوثيين) بقيادة مشرف المنطقة، على احتجاز شابين من فئة المهمشين من منزليهما في مديرية الصلو، محافظة تعز، واقتيدا معًا على متن سيارة تويوتا “بيك أب” إلى إحدى إدارات الأمن الخاضعة لسيطرة الجماعة، ليتم نقلهما صباحاً إلى مركز الاحتجاز الشهير: “مدينة الصالح”.

ويضيف العمّ: “قمنا برفع شكاوى إلى إدارة أمن المديرية وإلى إدارة أمن المحافظة، لكنها قوبلت بالرفض والإهمال، ثم تابعنا القضية لدى مسؤولي ومشرفي أنصار الله (الحوثيين)، لكنهم أكدوا لنا، بعد أربعة أشهر من المتابعة، عدم إمكانية الإفراج عنهما”. لم تثمر جهود أقارب المعتقلين ولا الأموال التي قال العمّ إنهم دفعوها، “بل إنه لم يُسمح لنا بزيارتهما طيلة مدة الاحتجاز، وفي النهاية وجهت لفهيم تهمة سرقة مواد كانت في المستودع الذي كان يعمل فيه، دون دليل أو شكوى من الجهة التي عمل لديها”. ينهي عم فهيم كلامه.

أفرج مشرفو أنصار الله (الحوثيون) في تعز، عن حسام بعد سنة ونصف من الاختفاء القسري وسوء المعاملة في “مدينة الصالح”، وبدا في حالة مزرية، وتظهر عليه آثار سوء معاملة، أودت بحياته يوم الأربعاء 3 أكتوبر/تشرين الأول 2018.

يقول قريب له زاره بعد خروجه من مركز الاحتجاز: “كان هزيل الجسم وشاحبًا، ولا يستطيع التحدث أو الحركة، ولم نستطع معرفة ما الذي تعرض له في “مدينة الصالح”؟ يبدو أنه عاش أيامًا عصيبة وتعرض للتعذيب”.

 يعمل فريق وحدة الدعم القانوني (محاميات ومحامون) في منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، “بشكل حثيث” من أجل الإفراج عن المحتجزين في مختلف المناطق اليمنية لدى جميع الأطراف، بحسب سماح سبيع -مديرة وحدة الدعم القانوني في المنظمة لـ”لخيوط”. وتؤكد أن “هذه الجهود ساهمت في الإفراج عن مئات المحتجزين، في حين لا يزال الفريق يعمل من أجل الإفراج عن عدد آخر من المحتجزين لدى مختلف الأطراف في 17 محافظة يمنية من أصل 22 محافظة”.

 بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن لجميع المتهمين الحق في محاكمة عادلة، يراعى فيها كل ما من شأنه حفظ كرامة وإنسانية المحتجز بمقتضى الميثاق الدولي للحقوق الإنسان، وبموجب المادة (55) من القانون الدولي لحقوق الإنسان، التي تعزز قيم احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ومراعاتها على مستوى العالم. كما تنص كلّ من المادة (5) من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة (7) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، على عدم جواز تعريض أحد للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وهو ما يتم انتهاكه خاصة في ظروف الحروب والنزاعات.

•••
خيوط

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English