بشغف لا ينقطع، يمارس العم صلاح سالم مهنته في بيع الفلّ (الياسمين) منذ ثمانينيات القرن العشرين، إذ يسافر كل يوم من منطقة “الحسيني” في لحج إلى عدن لبيع أزهاره الثمينة بهمَّة ونشاط، وعلى مدار ما يربو على 40 سنة، أصبح العم صلاح “سفيراً للفلّ” كما يصف نفسه.
لا يشعر صلاح سالم بالتعب أبداً من قطعه كل هذه المسافة بشكل يومي إلى مفرشه في أحد أرصفة “الشيخ عثمان”. وحسب حديثه لـ”خيوط”، فقد بات ينتظره زبائنه ليصل بكميات كبيرة من الفل غير المنظوم في “أجراز”. يبدأ بعد ذلك العاملون صغار السن بعملية “شكّ الفل” (صنع العقود) بأناملهم الساعية لرصّ حباته بعقود وتشكيلات بديعة وعناية فائقة -وكأنها حبات لؤلؤ- في عقود وتيجان مختلفة الأحجام.
يعدّ الفل زهرة الزينة الأولى في اليمن بلا منازع، وإحدى هبات الطبيعة التي أثراها الخالق بلون ورائحة يبعثان الراحة والطمأنينة في النفوس، حتى صار ارتباطه وثيقاً بثقافة اليمنيين، أغنياء كانوا أم فقراء، نساء ورجالاً.
هذه الزهرة البيضاء زينة الأفراح ورفيقة الأغاني والجمال، تجدها بين الممرات الضيقة على يمينك ويسارك في مدينة كريتر، وسط عدن، وفي منطقة “الشيخ عثمان”، شمال المدينة، حيث تنتشر “بسطات” بائعي الفل في مشهد يومي متجدد. وأنت تأخذ طريقك صوبها، تداعب نفسك عبق رائحة الفلّ الساحر يحمله باعة جائلون، ناشرين معهم روائح لا يمكن تجاهل عطرها الأخّاذ.
يقول العم صلاح إن الفل قدّم له الكثير، فقد حسّن مستوى معيشته لأنه يعود بدخل مناسب أيام الشتاء، ودخل وفير أيام الصيف. ففي الصيف تكثر الأعراس والمناسبات التي يزداد بسببها الطلب على الفل بمختلف أشكاله. حينها يصل سعر “جرز” الفل العرائسي أيام الصيف إلى 10 آلاف ريال، بينما يرتفع سعره في فصل الشتاء بين 20-25 ألف ريال (قرابة 40 دولاراً).
ويزهر الفل اللحجي الأكثر شهرة -ذو الرائحة الأقوى مقارنة بالفل الحُديدي (نسبة لمحافظة الحديدة) في فصل الصيف، ويتميز بغزارة الإنتاج في هذا الفصل.
ظلّت مكانة الفل كبيرة في عدن حتى مع تدهور الظروف الاقتصادية لدى غالبية فئات المجتمع، ومع ذلك، لا غنى عن عقد فُل يتدلى على أعناق النساء
رفيق المناسبات
الفُل هو الضيف الدائم في الأعراس اليمنية بشكل عام، والعرس العدني بشكل خاص، حيث تقتضي التقاليد وضع عقود الفل الكبيرة على أعناق كل عريس وعروس. طول العقد الواحد يتجاوز أحياناً المتر، في حين تضع العروس على شعرها تشكيلات بديعة من الفل تسمى “شردخة” ليضفي على مظهرها جمالاً وجاذبية. كما تُنثر حبات الفل على العريسين في وقت “الزفّة” مع ترديد الأغاني والأهازيج العدنية الشعبية التي توارثتها الأجيال جيلاً بعد آخر.
لا يُذكر يوم الخميس إلا ويرادفه ذكر الفل، ولا توجد روايات محددة حول أسباب تخصيص سكان عدن يوم الخميس كمناسبة لشراء الفُل وإهدائه لمن يحبون أكثر من غيره من الأيام، لكن جاء اختــيارهم هــذا اليوم على الأرجح لكونه آخــر أيام العمل في الأسبوع ومناسبة للتجمعات الأسرية.
وظلّت مكانة الفل في عدن التي تحظى، إلى جانب محافظة أبين، بأسواق كبيرة للفل حتى مع تدهور الظروف الاقتصادية لدى غالبية فئات المجتمع، لأن الفل لا غنى عنه، فهو رديف للمناسبات السعيدة التي لا تخلو من عقد يتدلى على أعناق النساء، أو خيوط من الفل تتفنن بتشكيلها بطرق جميلة.
شواطئ عدن المزهرة بالفل
ما إن تصل إلى مشارف مدينة عدن حتى تأسرك روائح الفل والبخور. لا يختلف اثنان على أن هذه المدينة العريقة تستقبل الوافدين إليها بكل الروائح الطيبة المميزة، حيث هناك علاقة وطيدة تجمع أهالي المدينة بهذه اللآلئ البيضاء، علاقة بنيت على مشاركة أسس ومعتقدات وتقاليد لتعبّر عن الحب والتقدير عبر عقود وحبات الفل حتى وإن غلى ثمنه.
يقول بائع الفل مطيع منصور لـ”خيوط” إن الفل صار يجري في دمه. هكذا لخّص شغفه بهذه الزهرة ناصعة البياض، ويضيف: “منذ أكثر من 35 سنة وأنا أبيع الفل في كريتر”. يتفاخر مطيع أن خاله سعيد أحمد قيرة كان المورد الوحيد للفل من لحج إلى عدن وأبين في حقبة نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين، وهو الذي أورثه حب هذه المهنة التي يقول إنه ترك دراسته لأجلها.
بين عدن والفل علاقة متينة منذ الأزل. تمر السنين وتتعاقب المتغيرات ويتلبّد هواء المدينة بدخان البارود، بينما تظل عقود الفل متدلية على بوابة عدن، كبوصلة ترشد القادمين إلى الروح الأصيلة للمدينة.
وفي الوقت الذي يبقى فيه الفل مهنة وهواية وذوقاً وميزة لمدينة عدن، والحديدة (غرب) بشكل خاص، تتنوع الأشكال وتبتكر النساء تشكيلات خاصة بهن من العقود والتيجان البيضاء. وهناك عدة أشكال تُصنع من الفل مثل “الجُرز”، والذي يزين صدر المرأة ويكون طوله من متر إلى مترين، بينما يتخذ “الشردخة” شكل الطرحة، ويوضع على شعر العروس، أما “التعقيدة”، فيلفّ بها الشعر المضفور، حيث يلفّ الفل على الضفيرة بشكل حلزوني، وهناك ما يأخذ شكل التاج بشكل متقن وبعناية خاصة تشبه فن التطريز.
فُل القمندان
لا يخلو الشعر الغنائي اليمني من ذكر الفل؛ فقد تغنى به كثير من الشعراء، ومن أشهر الأغاني أغنية شائعة في منطقة لحج، من كلماتها “يا ورد يا كاذي (أحمر)، ألا يا فُل الوادي”، أما الأغنية الأكثر شهرة، فهي للفنان محمد مرشد ناجي: “الفل والورد”، وفيها حوارية ظريفة وتنافسية بين الفل والورد.
ترجع الروايات الشعبية أن الفضل في زراعة الفل في لحج، يعود إلى الأمير أحمد فضل القمندان، الذي أتى بأول أشجاره من الهند وغرسها في بستان الحسيني، ثم انتشرت زراعته بمجيء السلطان فضل بن علي وأخوه السلطان عبدالله بن علي، اللذين سهّلا للمزارعين لاحقاً زراعته.
وربما تفسّر هذه الرواية سبب تواجد أشجار الفل في لحج بكثرة، كما أن الفل اللحجي أكثر جودة من نظيره الذي يُزرع في مناطق أخرى من اليمن.
وقد تغنى الأمير أحمد فضل القمندان بالفل اللحجي بأبياته الشعرية، مثل القصيدة المغناة التي يقول مطلعها “يا فل ياعود يا ماء وردي.. يا فل يا ناد من غرس الخداد.. عرفك ينسنس يردّ الفؤاد”، وغيره الكثير من الشعراء الذين تغنوا بالفل اللحجي.
ويعتبر الفل من النباتات العطرية ذات الرائحة الزكية المتفردة، التي اكتسبت في العقود الأخيرة شهرة واسعة في جميع المحافظات اليمنية بعد أن كانت تقتصر شهرته على المدن الساحلية من الحديدة حتى أبين. ويظل للفل اللحجي شهرة ومكانة مميزة، إذ يزداد الطلب عليه في محافظتي لحج وعدن بالذات، فأصبح تجارة وحرفة تجذب العشرات من الأيادي العاملة التي وجدت فيه مصدر دخل جيد.