غُرفةٌ من الطين والحجارة؛ مسكنٌ صغيرٌ مسقوفٌ بـ"طربال" وبقايا بطانياتٍ مهترئةٍ لا تقيهم حرارة الشمس ولا بردَ الشتاء. يتبلل هذا السقف البسيط بزخات المطر، ويهدد المنزلَ سيلٌ جارف. ذاك هو منزل قاسم حمامة، أربعيني العمر، متزوجٌ وله ثمانية أطفال، ترك قريته (نِهْم مَسْوَرَة) عند اشتعال الحرب فيها بين جماعة أنصار الله (الحوثيين) والقوات التابعة للحكومة المعترف بها دولياً، ليعيش حياة الترحال من مكانٍ إلى آخر، ومن قريةٍ إلى أخرى، حيث يجد لقمة العيش له ولأطفاله، يخاطر بنفسه بين المبيدات السامة لرش القات في بعض المزارع المجاورة لمخيم نزوحه، حيث يعمل في سقاية القات ورش أشجاره بالمبيدات الحشرية الخطيرة.
عمله في تلك المخاطرة ليس دائماً، ولكنه يتحملها ليحصل على ألفيْ ريال ليعود إلى أطفاله بوجبةٍ تسد رمقهم. في أحيانٍ كثيرةٍ، لا يجد عملاً في المزارع، فيعود إلى البحث في أزقة الطرقات والشوارع، وبين أكياس القمامة، عن عُلبٍ معدنيةٍ وبلاستيكيةٍ (علب المشروبات الغازية والمياه الفارغة) ليبيعها، ويعود إلى بيته بلقمة العيش. لم تصل إلى بيته يوماً مساعدةٌ من المنظمات الإنسانية، وكأن الطريق إليه مقطوع. يداوي أطفاله إذا مرِضُوا بالدعاء، لأنه لا يجد ثمن الدواء، ويحتضنهم في قسوة البرد لتدفئتهم، لأنه لا يجد لُحُفاً لتغطيتهم .
يقول لـ"خيوط": "الكل يعرف معاناتنا، ولكنهم يتجاهلونها، نحن ضحايا الحرب الذين لا ينظر إليهم أحد، لا نريد شيئاً غير أن نعيش بكرامةٍ وعفة".
هنا، بين الخيام، ترتسم معاناةُ بشرٍ لا يَنظُر إلى حالهم الكثير. يتشابه الجميع في سرد حكايته المؤلمة. لقد تركوا ديارهم للنجاة بأرواحهم، فواجهوا حرباً من نوعٍ آخر: حرب الجوع والمأوى.
قاسم، واحدٌ من بين 4.3 مليون نازح تتقاذفهم ظروف الحرب في اليمن منذ 2015، بحسب تقرير خطة الاستجابة الإنسانية الصادر في 2019، من قبل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. هذا، مقارنةً بعدد السكان البالغ 30.5 مليون، وفقاً للتقرير ذاته .
يعاني ثلث النازحين في اليمن من مشاكلَ متفاقمةٍ ومتعددة الأبعاد، منها انعدام الأمن الغذائي، وضماناتٌ غير كافية للحماية، وغياب الحكومة، وتفشي الأمراض، وافتقاد الخدمات العامة الأساسية.
ولا يزال 3.3 مليون شخصٍ منهم نازحين، ويعيش ما يقارب 300,000 من النازحين المعوزين والضعفاء في 1,228 موقعاً مشتركاً (مخيمات) يفتقر 83% منها إلى الخدمات الصحية، ويعاني 36% من عجز في المياه، و43% لا يوجد فيها حمامات. يعاني ثلث النازحين في 104 مديريات في البلاد من مشاكلَ متفاقمةٍ ومتعددة الأبعاد، منها انعدام الأمن الغذائي، وضماناتٌ غير كافية للحماية، وغياب الحكومة، وتفشي الأمراض، وافتقاد الخدمات العامة الأساسية، كالرعاية الصحية والمياه والصرف الصحي والكهرباء، وفقاً للتقرير الأممي.
وفي حديثٍ سريع لـ"خيوط" قال اللواء عبد الفتاح المداني، رئيس مصلحة الدفاع المدني ومدير عام الإدارة العامة لمواجهة الكوارث في الحكومة التابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، إن "المخيمات، ومنها مخيم قاع الرقة، تحتاج إلى الغذاء والمستلزمات الإيوائية والماء والدواء"، مشيراً إلى أن هناك منظماتٍ تأتي إلى المخيم؛ ولكن المعونات التي تقدمها لا تغطي احتياجات النازحي في المخيم. وناشد المداني "الجهات المعنية" أن تساهم في توفير الاحتياجات الكاملة للمخيمات.
من جهته، أوضح الشيخ مهدي الضاوي، شيخ مخيم قاع الرقة، أن أوضاع المخيم صعبةٌ جداً ويرثى لها، حيث "لا يحصل النازحون على أية مساعدات".
وأضاف الضاوي: "لا تصل إلا القليل من المنظمات إلى المخيم، كمنظمة الإغاثة الإسلامية التي تساعد 32 حالة شهرياً فقط، وفي المخيم 120 حالةً لا تتم تغطيتها، وهناك قصورٌ كبيرٌ في المخيم، من ناحية التعليم والصحة والمياه، والاحتياجات الإيوائية. كما تنتشر فيه الأمراض دون استجابة من أي منظمات أو دوائر حكومية".
وأشار الضاوي إلى أن الطاقة الاستيعابية للمخيم حوالي120 أسرة، وعدد الأفراد 674 نسمة، وعدد طلاب المخيم 120 طالباً وطالبة.
قائد السويدي، الذي عرّف نفسه بأنه مندوب مخيم قاع الرقة الجديد، والمشرف الاجتماعي لـ"أنصار الله"، وأنه من نازحي المخيم من "نهم مسورة"، قال لـ"خيوط": "هناك ظلم للمستضعفين في المخيم"، واتهم المندوب السابق للمخيم بانتهاك حقوق النازحين، وعدم تسليم المعونات كما تأتي من المنظمات.
وأضاف السويدي: "رفعت تقارير وشكاوى عن الفساد إلى مدير المجلس الأعلى، الأستاذ عبدالمعين الشريف، وإلى اللواء عبدالفتاح المداني، وإلى الجهات المختصة، هنا أشخاص رُفعت أسماؤهم قبل خمس سنوات في المستلزمات الإيوائية والسلال الغذائية، مستحقاتهم تباع في السوق السوداء وهم لا يملكون شيئاً".
ويستمر السويدي في حديثه عن الفساد قائلاً: "كان المندوب السابق للمخيم يعتمد سيارتيْ مياه (وايتات) للمخيم، كان يُدخل واحدة للمخيم ويبيع الأخرى، وعند نزول الكروت الشهرية للغذاء من منظمة الإغاثة الإسلامية يأخذ 1000 ريال من المستفيدين مقابل تسليمهم الكروت، وكذلك عند استلام الحوالات المالية للمستفيدين يدفع كل شخص مبلغاً يتراوح بين عشرة إلى عشرين ألف ريال".
وتحكي لـ"خيوط"، كاميليا صالح، وهي نازحةٌ من صعدة تسكن في مخيم قاع الرقة، مع زوجها الذي يعاني من اضطراب نفسي، وثلاثةٍ من أطفالها، أنها تقيم في المخيم منذ بداية الحرب قبل خمس سنوات. وتضيف: "سجلت اسمي في المنظمة منذ خمس سنين ولا أستلم شيئاً رغم أنهم يعطونني كرتاً؛ عدا مرة واحدة أعطوني 12 ألف ريال لأستخرج بطاقةً شخصية".
وتستمر في حديثها: "نحن مساكين، لا نستطيع دفع رشوة لنأخذ المساعدات التي تخصنا، لكنهم يسجلون أسماءنا ولا نستلم شيئاً، هناك من وعدوني بغرفة خارج المخيم، لكن الذين هنا يمنعونني، فلا أنا استلمت المساعدات، ولا سكنت غرفة تدفئني أنا وأطفالي".
وفي حديث سعدة صالح، وهي أرملةٌ لديها أربعة أولاد، نازحةٌ في المخيم منذ أربع سنوات، وجهت مناشدة عبر "خيوط" للجهات المسؤولة عن النازحين: "لا تدَعوا أحداً يسجل أسماءنا ويستلم المساعدات ويأخذ المواد الغذائية والنقود، كما يفعلون منذ ثلاث وأربع سنين. نحن لا نحصل إلا على وعودٍ كاذبة، دعوا المنظمات التي تقدم المساعدات تأتي وتوزع مساعداتها بنفسها".
"ما تقدمه المنظمات الدولية والمحلية لا يعتبر دعماً إنسانياً كافياً لاحتياجات النازحين بحجم الترويج الإعلامي الذي نسمعه من بعض المنظمات".
وثاق القدسي، وهي موظفةٌ في منظمة الإغاثة الإسلامية، ومتطوعةٌ في أكثر من منظمة أخرى، منها اليونيسف، ونازحةٌ في أحد مخيمات النازحين في مأرب – الجُفينة. أشارت وثاق إلى دور المنظمات الإغاثية للنازحين بالقول: "توفر المنظمات بعض الاحتياجات لمساعدة النازحين على العيش، بعد خروجهم من أماكن معيشتهم هرباً من القمع الجسدي والنفسي أو التهديد بالقتل لبعضهم، وهم محرومون من كل مقومات الحياة والبنية التحتية، لا سكن ولا ستر ولا أثاث، فيبدأ النازح حياته من الصفر ويرضى بأي شيء".
وقالت القدسي عن دور المنظمات: "بعضها يقدم الفتات، والبعض يقدم ما يسد الجوع أو احتياجات البيت، وبعضها يقوم فقط بالحصر والتوثيق إلى أجلٍ غير مسمى. فتقريباً، المنظمات التي مرت بنازحي الجفينة في مأرب هي منظمات الهجرة واليونيسف والهلال الأحمر والإغاثة الدولية و"سماء اليمن"، ولكن منهم من يقدم القمح والزيت، ومنهم من يقدم البطانيات وأغراضاً للمطبخ"، موضحةً أن فترة الدعم تعتمد على نوعية المساعدات؛ فالمنظمات التي تقدم أغراضاً دائمة، كالبطانيات وأواني الماء الكبيرة وأغراض المطبخ، تقدمها للنازحين الجدد مرةً واحدةً فقط، وهناك منظماتٌ تقدم الصابون كل 6 أشهر، ومنظماتٌ تقدم تغذيةً لحالات سوء التغذية والأمهات الحوامل كل 3 أشهر، ومنظماتٌ تقدم موادّ غذائيةً، كالطحين والزيت، شهرياً.
وتؤكد القدسي أن "دعم المنظمات لا يسد كل احتياجات المخيم، وأحيانا يوزع على البعض، ويهمل البعض الآخر في أكثر الأوقات"، بسبب عدم كفاية المعونات على جميع النازحين.
وأوضحت (م. س) وهي موظفة في منظمة الإغاثة الإسلامية واليونيسف -طلبت عدم ذكر اسمها- أن "هناك مشاكل تواجه المنظمات، مثل عدم مصداقية بعض النازحين في تسجيل بياناتٍ صحيحةٍ وسليمة، وكذلك من مندوبي المخيمات، لكي يتسنى للمنظمة الوصول إلى كل النازحين لمساعدتهم، ولكن لا يمكننا القول بأن هذه المشكلة أو غيرها تعوق مسار العمل الإنساني للمنظمة".
وقالت إن "ما تقدمه المنظمات الدولية والمحلية لا يعتبر دعماً إنسانياً كافياً لاحتياجات النازحين بحجم الترويج الإعلامي الذي نسمعه من بعض المنظمات". وترى أن على المنظمات أن تقوم بدورها الإنساني وليس تغطية الأحداث والترويج لخدماتها، مضيفةً: "يجب على المنظمات وضع خطة أو القيام بجولةٍ على كل المخيمات، ورسم خارطةٍ سليمةٍ وصحيحة، وتثبيت قاعدة بياناتٍ موثوقٍ بها، وتسجيل كل نازحٍ جديدٍ وافدٍ للمخيم عن طريق مندوبهم الخاص، وسد احتياجات المخيمات بالشكل المطلوب".
وكانت مديرة مكتب الأمم المتحدة في اليمن، ليزا غراندي، قالت، في تصريح سابق لوسائل الإعلام، إن "ما يقارب 14 مليون شخص في اليمن يعيشون على المساعدات الإنسانية شهرياً، غير أنه سيتم خفض أو إغلاق 31 برنامجاً من أصل 41 برنامجاً إنسانياً رئيسياً تابعاً للأمم المتحدة خلال شهر أبريل، ما لم تتلقّ هذه البرامج التمويل بشكل عاجل".
تحرير "خيوط"