قليلٌ هم رجال الدين الذين يوحّدون اعتقادَهم الديني مع التزامهم بقضايا التحرير وكفاح أممهم وشعوبهم، للخلاص من الاستعمار وتحدي الفساد والطغيان.
كبوتشي، مطران الكنيسة الكاثوليكية في القدس. وكبوتشي، الاسم، يعني: الحارس. وحقاً، أصبح حارسَ القدس، كاسمٍ على مسمى. في مقابلةٍ أجراها معه الروائي حيدر حيدر، وثّق فيها لمختلف مراحل حياة حارس القدس، كما هو اسمه، وكما يطلِقُ عليه الناشط الحقوقي هيثم مناع.
كبوتشي، ابن حلب، المولود في 1922، واليتيم المشاغب في المدرسة والمنزل والشارع، ينصرف للتعلم متنقلاً بين مدارس سوريا ولبنان. يلتحق بالكنيسة، ويتنقل أيضاً في الكنائس في سوريا ولبنان، ليستقرّ أخيراً في القدس، كراعٍ للكنيسة الكاثوليكية في سنٍّ باكرةٍ، كثمرةٍ للانضباط والقدوة.
كبوتشي علَمٌ من أعلام الكفاح القومي، وبطلٌ من أبطال لاهوت التحرير. و"أبطال لاهوت التحرير" توصيفٌ أُطلِقَ في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي على رجال الدين المسيحي في أمريكا اللاتينية، الذين تصدّوا للكفاح ضد الإمبريالية الأمريكية في قارّتهم، وكان لهؤلاء القساوسة دورٌ في الثورة الإثيوبية.
في الوطن العربي، لعب الدعاة المصلحون دوراً ريادياً في التحديث والتجديد: رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني وعبدالرحمن الكواكبي وعلي عبدالرازق، وغيرهم.
في 1974، اعتقلت السلطات الإسرائيلية راعي كنيسة القدس، كبوتشي، بتهمة تهريب الأسلحة إلى الفدائيين. وظل في السجن أكثر من ثلاثة أعوام؛ تعرّض فيها للتعذيب والإساءة البالغة، وأَضرَب عن الطعام والشراب حد الموت. أثيرت ضجةٌ دوليةٌ تضامناً معه، ولعب الفاتيكان دوراً في الدفاع عنه وحمايته، والضغط لإخراجه.
يتحدث حارس القدس عن مسؤول السجن، وقد كان يهودياً يمنياً يدعى "عبودي"، بلغ عنفُه وقسوتُه الذروةَ مع المطران. حدثني الأستاذ يحيى يخلف، الأمين العام لاتحاد الأدباء والكتاب الفلسطينيين، عن قصصٍ مشابهةٍ لدور اليهودي اليمني في السجون الإسرائيلية.
في المقابلة التي أجراها حيدر حيدر، أنه عندما اعتقلتْه إسرائيل أصبح يدعى الفدائيَّ الفلسطيني. يقول حيدر: "عرفتُ المطران الفادي، رجل الدين المسيحي والمثقف الإنسان، العروبي الهوية والانتماء، في روما. يحفظ القرآن الكريم وأجزاءً من نهج البلاغة، ويتقن اللغة العربية أفضل بكثيرٍ من الزعماء العرب والسياسيين، والدعاة الإسلاميين المتنطعين".
في العام 1981، حضرتُ اللقاء الذي دعا إليه اتحاد الصحفيين العرب مع الأحزاب الاشتراكية في أوروبا، تضامناً مع الشعب الفلسطيني، ورتّب له ماجد أبو شرار، أحد أبرز قادة فتح، والذي تربطه علاقاتٌ متينةٌ بالأحزاب الاشتراكية والشيوعية الأوروبية. حضر العديد من قادة فتح، بزعامة أبي عمار. تحدث أبو عمار، الزعيم الفلسطيني، كما تحدث المطران عن قضية العرب الأولى، وعن الاحتلال الإسرائيلي، معززاً خطابه بالآيات القرآنية.
في شخصية كبوتشي، يتوحّد السيد المسيح الفادي بكل الفادين المدافعين عن حرياتهم وأوطانهم وقضايا أمتهم وشعوبهم. يتوحد الفادي بالوطن والحرية، بالحق والعدالة، بالثورة والكرامة، وبالإنسان.
يوم وصولنا إلى إيطاليا، سمعنا بمقتل السادات، 6 أكتوبر 1980. وفي مساء الـ7 من أكتوبر، طلب مني يحيى يخلف أن ينام محمود درويش في غرفتي، للخوف عليه من اغتيالٍ إسرائيليٍّ، وأنا في غرفةٍ أخرى. في الفجر، صحونا على اغتيال ماجد أبو شرار
بكى المطران الفادي العظيم عندما عرف أنه سيخرج من السجن إلى خارج فلسطين؛ فقد كان هذا هو الاتفاق الذي تم بين إسرائيل والفاتيكان. وقال حينها إنه يخرج من سجنٍ إلى سجن. وكم تكون فرحته غامرةً عندما يلتقي بأفراد شعبه الفلسطيني، كما كررها أكثر من مرة.
في أكتوبر 1980، كُلِّفتُ والزميلة رشيدة النيفر، نقيبة الصحفيين التونسيين وعضو الأمانة العامة لاتحاد الصحفيين العرب، بزيارة مصر، وإعداد تقريرٍ عن اعتقالات سبتمبر للصحفيين المصريين لاتحاد الصحفيين العرب؛ ليطرح على الحوار العربي-الأوروبي، المنعقد في إيطاليا بحضور القيادة الفلسطينية، واتحاد الصحفيين العرب، وقياداتٍ أوروبيةٍ اشتراكيةٍ وشيوعية. في يوم وصولنا إلى إيطاليا، سمعنا بمقتل السادات، 6 أكتوبر 1980. وفي مساء الـ7 من أكتوبر، طلب مني يحيى يخلف أن ينام محمود درويش في غرفتي، للخوف عليه من اغتيالٍ إسرائيليٍّ، وأنا في غرفةٍ أخرى. في الفجر، صحونا على اغتيال ماجد أبو شرار، الرجل القوي في فتح وزعيم اليسار الفلسطيني، والداعي للحوار. حزمنا حقائبنا للعودة إلى لبنان، وقال لي يحيى يخلف: مقتل ماجد سيحوّل الاتجاه داخل المنظمة. وهذا ما حدث بالفعل".
في المعتقل الذي استمر ثلاثَ سنواتٍ، كان المطران الفادي يرسل الرسائل إلى أبي عمار وقادة الثورة، وإلى صدام، والبكر، وإلى بعض الزعماء والملوك العرب، داعياً إلى نصرة المقاومة الفلسطينية، ولا مِن مجيب.
عندما ذهب السادات إلى القدس، بكى المطران؛ في حين رفض البابا شنودا دعوة السادات لزيارة القدس. قال له: "لن أكون خائن القضية العربية"؛ فعرض عليه الإقامة الجبرية، وقال: "بيجن يطعن في الوجه، أما شنودا فيطعن من الخلف".
ظل موقفُ حارس القدس كما هو؛ لم يهادن الاحتلال الإسرائيلي. كما ظل على ولائه ووفائه للقضية العربية الأولى -قضية فلسطين- وهو الفدائي الصادق. وفي نفس الوقت، كان مع حرية وإرادة وثورة شعبه السوري السلمية.
يحكي هيثم مناع، في شهادةٍ موثقةٍ ومهمةٍ عن دور حارس القدس الفادي، أنه "قبل سنوات ست، وصلني على هاتفي المحمول الرسالة التالية:
"الأخ العزيز هيثم، تحية.. لقد اتصل سيدنا كبوجي سائلاً عنكم. هل لديكم الرغبة بفتح حوار جدي للعمل على إخراج سوريا من هذه الكارثة؟ إن سيدنا يرغب في لقائكم في باريس أو روما؛ لوضع مسودة عمل. مع فائق احترامي لكم. أخوكم عزيز سليمان".
يواصل مناع: "أجبتُ على الفور: أنا في باريس هاليومين؛ فرد عليّ: لأجل ذلك الشمسُ ساطعة. هل أطلب من سيدنا أن يحضر إلى باريس؟ اتصلتُ بالرقم، وقلتُ لمرسل الرسالة: أنا على استعدادٍ للذهاب إلى روما. ما بحب أن نعذب أبونا بالسفر؛ فأجابني: سيدنا كبوجي لا يقبل. هو من سيأتي لعندك عندما تستطيع. قلت لأبي مهند، الذي كان معي في مكتبي: هامَةٌ عظيمةٌ يزيد عمرها عن عمر المرحوم والدي خمسَ سنواتٍ، لا تقبل إلا أن تأتي من روما إلى باريس من أجل حوارٍ لإخراج سوريا من كارثتها. هل ينتمي هذا الشخص إلى عالمنا أم إلى كوكبٍ أخلاقيٍّ آخر؟!".
ويضيف: "فشلتْ محاولتي إقناع المطران بالسفر إلى روما، وأصرّ حارس القدس على المجيء إلى فرنسا. كان اللقاء وجدانياً وإنسانياً بكل معاني الكلمة. أخرج المطران ورقةً كتبها بخط يده للحوار بين الحكومة والمعارضة الوطنية. تُوقّع الورقة منه، ومن هيثم، ومن بشار؛ ليبدأ الحوار. توجه المطران إلى بيروت، ومنها إلى دمشق. التقى بشار، وطرح عليه ضرورةَ إلزاميةِ الحوار لكل أنصار الحل السياسي. اتصل بهيثم من سوريا ليجهزوا أنفسهم، وأن بشار استحسن الفكرة، وعندما وصل إلى لبنان، اتصلَ مرةً أخرى قائلاً: اتصَلوا من القصر الجمهوري، وقالوا: اِنسَ الموضوع!".
حرصتُ على نشر رسالة الناشط الحقوقي في الجوانب الأهم؛ ففيها ردٌّ على من يعتبر "الربيع العربي" في سوريا مؤامرةً، ويربط الاحتجاجات السلمية في سوريا بالتحالف التركي- الإسرائيلي- الخليجي ضد سوريا، بينما كان هدف "التحالف" تدمير سوريا عملياً لصالح إسرائيل وتركيا، وسُفحتْ في ذلك مليارات، بينما هدف السلطة البقاء في الحكم، ولو أدى إلى تدمير الشعب السوري.
اشترك "التحالف العسكري" ضد الشعب السوري، واشتركت السلطة والتحالف الثلاثي: التركي–الإسرائيلي-الخليجي في الحرب على سوريا، ولكل منهما غايته الخاصة. ورغم أن الحرب، المدعومة من الأمريكان وبعض الدول الأوروبية، إرادتُها إسقاطُ النظام، إلا أن النظام قد أفاد من الحرب؛ لأنها حققتْ غايتَه في قمع الاحتجاجات السلمية، وحوّلتْه إلى حامي وحْدَة سوريا.
المطران حريصٌ على تحقيق المصالحة الوطنية وإحلال السلام؛ بينما النظام حريصٌ على وأد الاحتجاجات السلمية وجرّها للعنف. وكان "التحالف الدولي"، والإرهابيون المجندون من أوروبا، حريصين على تدمير سوريا وتفكيك بنيتها وإطاحة النظام؛ ولكن حرصهم أكثر على تمزيق وحدة سوريا وإخماد الاحتجاجات السلمية. فإخماد ثورة "الربيع العربي" هدفٌ مشتركٌ بين الجميع؛ فهم يَقبلون ببقاء النظام، ولا يقبلون بالربيع بحال.