قبل أسابيع، نشر الزميل والصديق الأستاذ محمود الحاج قصة "التاء الساجنة"، التي حصلتْ معنا في صحيفة الثورة. محمود الحاج أديبٌ وكاتبٌ وإعلاميٌّ كبيرٌ متعددُ المواهب، وهو شاعرٌ وناثرٌ، ورئيس تحرير لمجلات وعدة صحف. رأَس المؤسسةَ العامة "سبأ"، ورأس تحريرَ صحيفتيْ الثورة و"التصحيح"، ومجلة اليمن الجديد. عمِلْنا معاً، وتصادقْنا وتزاملْنا في "الثورة" و"اليمن الجديد"، ونقابة الصحفيين، واتحاد الأدباء والكتاب، الذي كان في طليعة التأسيس له منذ التكوين. وقصة خروجه والأديبيْن الكبيريْن محمد سعيد جرادة وفضل النقيب، من عدن إلى صنعاء عام 1973، مشهورةٌ؛ وعندما عاد جرادة إلى عدن وحْدَه، سُئِل عن محمود والنقيب، فرد: التقدميون تقدموا، والرجعيُّ رجع. كانوا في مهمة التأسيس لاتحاد الأدباء والكتاب، وكنتُ برفقتهم، أنا والعزيز الشاعر الفقيد أبو القصب الشلال.
عندما عُيّن الأستاذ محمود في "الثورة" كقائمٍ بأعمال رئيس تحريرٍ، كنتُ قد تعينتُ فيها، بطلبٍ من الأستاذ محمد ردمان الزُّرْقة، كمسؤولٍ عن الشؤون العربية، وتحديداً بعد حركة الـ13 من يونيو 1974. وكتاب الباحث عبدالحليم سيف "أربعون سنة صحافة.. الثورة: النشأة والتطور" يوثّق ذلك.
العزيز محمود يروي القصة كما حصلتْ، بدون قراءة البعد السياسي الذي يعرفه ولا يحبّ الخوضَ فيه. أستميحه عذراً لتناول طبيعة الحركة. طبيعة حركة 13 يونيو مزدوجةٌ؛ فهي تهدف إلى التغيير وإزاحة ما سَمّتْهُم مراكزَ القوى، وهم كبار المشايخ وكبار الضباط، وترمي للتصحيح المالي والإداري وتحديث جهاز الدولة، وبناء جش وطني حديث. والأهم، الاهتمامُ بالتعاونيات ومدُّها إلى مختلف المناطق والقرى اليمنية، وربط مختلف المناطق بالدولة، وإلغاء هيمنة المشايخ والنافذين، وفي نفس الوقت المزيد من التضييق على الأحزاب اليسارية، السرّية والقومية، واعتقال رموزها، والاستئثار بالعمل السياسي.
كان في أحزاب اليسار الخمسة، وداخل النظام في الجنوب، اتجاهان: اتجاهٌ يرى أهمية التعاون مع الحركة، مشدداً على مركزية الدولة وسيطرتها على مختلف المناطق وإزاحة المشايخ، وأهمية الإصلاحات وبناء جهاز مؤسسات الدولة الحديثة والجيش، واتجاهٌ أيديولوجيٌّ متشدّدٌ يُدين الحركة، ويعتبرها رجعية.
لقد انخرط شبابُ أحزاب اليسار والقوميين في التعاونيات في مختلف المناطق، وفي لجان التصحيح. وكان جانبٌ في التنظيم السياسي، بزعامة الرئيس سالمين، يدعم هذا الاتجاه. أما التيار الناصري، فمنذ بيان الحركة، رمى بكل ثِقَلِه إليها، ووظّف وجودَه في الحركة الطلابية وفي الجيش لصالح الحركة. واعتُبرت الحركةُ ناصريةً؛ في حين كان الحمدي، الطَّموحُ للزعامة، ينسج علاقاتٍ مع سالم رُبيّع علي، وفي نفس الوقت مع السعودية، ليتمكن من إزالة رجالاتها. والسعودية -هي الأخرى- كانت ترى في المشايخ عبئاً ثقيلاً، بعد أن فشلوا في الحرب ضد الجمهورية، كما خسروا حرب العام 1972 ضد الجنوب، وكانت قلقةً أيضاً من تنامي القوى القومية واليسارية في اليمن، خصوصاً بعد انتصار التنظيم السياسي، وبروز أحزاب اليسار، وانتشار الكفاح المسلح في المناطق الوسطى.
كان جانبٌ في النظام السعودي مع العسكر في مواجهة المشايخ، وبناء قوةٍ تواجه التيارات اليسارية والقومية والنظامَ في الجنوب، الجانحَ أكثر فأكثر نحو الاتحاد السوفيتي واليسار الماركسي. وكان الحمدي، بذكاءٍ مدهشٍ، يتعامل مع الحالة القائمة، وله مشروعه الذي لا يتوافق مع الإرادة السعودية؛ فهو طامحٌ لبناء قوةٍ يمنيةٍ في مستوىً دوليٍّ، وكانت له علاقاتٌ مع شخصياتٍ عامةٍ مُهمةٍ: محمد عبده نعمان وأحمد قاسم دماج، والأخوين: محمد وعبد الحميد حنيبر، وعبد الله الوصابي، وعبد الله حُمران، والعَرَشي، وآخرين من كل الاتجاهات.
عواملُ عديدةٌ دفعتْ بالسعودية لتغيير موقفها والعودة إلى أدواتها القديمة (المشايخ)، ومجموعتها في النظام، المقربين من الحمدي: الغَشْمي وصالح، ومجموعتهما .
حركة 13 يونيو 1974 لم تُدْرس، وجوانبُ مهمةٌ من طبيعة الحركة والأطراف السياسيين المشاركين فيها لم تُقرأ أيضاً، كما لم تُقرأ إنجازاتها المختلفة.
حينما أُبعدنا من صحيفة الثورة بتلك الطريقة، نشرتْ صحيفة الخليج الإماراتية أن إبعادنا مؤشرُ احتدام الصراع داخل النظام. ومعروفٌ أن الأستاذ يحيى العَرَشي كان يمثل خط الإصلاح في النظام؛ فقد بدأ في تأسيس المراكز الثقافية، وأسس مؤسسة سبأ العامة للصحافة، التي صارت لاحقاً مؤسسة الثورة للصحافة، وعَيَّن وكيليْن من اليسار: زَيْن السقّاف، وحسن اللَّوْزي. وبدأ النشاط في المراكز الثقافية، والنشاط المسرحي، ونشطت الحياة الأدبية والثقافية. وبدأ النشاط الحزبي السري لأحزاب اليسار في التصاعد. ومَثّل حضورُ الرئيس إبراهيم الحمدي إلى مؤتمر عدم الانحياز الخامس في كوالالمبور، عام 1976، بدايةَ ظهورٍ دوليٍّ، وخطابه السياسي بدا يتخذ منحىً تقدمياً. كما أن "لقاء تعز"، لزعماء ودول البحر الأحمر 1977، أيضاً كان خروجاً عن النهج السعودي المرتهن للإدارة الأمريكية.
لقاء الحمدي في تعز وقَعْطَبة مع الزعيم الوطني سالم رُبيّع علي، والاتفاق على تحقيق الوحدة، دفع بالسعودية وأدواتها إلى التسريع بالقضاء عليه.
موقف الأستاذ الجليل يحيى العرشي، ورفضُه ممارسةَ عمله، كوزيرٍ للثقافة والإعلام، هو ما سرّع بخروجنا من المعتقل. عندما استدعانا محمد خميس، رئيس جهاز الأمن الوطني حينها، ليبلغنا بالخروج، قالي لي: "وأنا موجود لن تعود إلى الصحيفة". ولم أعد إليها حتى بعد رحيله؛ فإبعادُنا لم يكن سببُه الخلافَ وحْدَهُ مع الفقيد محمد الزرقة؛ وإنما كان تعبيراً عن صراعٍ مكتومٍ داخل الحلَقة الضيقة المُحْدِقة بالشهيد إبراهيم الحمدي، ولمعرفتهم بدورنا في الثورة.
في الأخير، أود الإشارة إلى أمريْن مهمّيْن: بعد الحركة التصحيحية مباشرةً، أصدر حزب العمل اليمني بياناً يقيّم الحركة ويعتبرها خطوةً مهمةً لبناء دولة المؤسسات -دولة النظام والقانون- وإزاحة مراكز القوى (المشايخ)، ومن أجل إجراء إصلاحات مالية وإدارية، منتقداً المنحى غيرَ الديمقراطي فيها كانقلابٍ عسكريٍّ لا يختلف كثيراً عن الانقلابات العسكرية. صاغ البيان الفقيد سيف أحمد حيدر، وردَّ النظامُ بإرسال برقيةٍ مزيفةٍ، باسم سيف أحمد حيدر وغالب راجح، تؤيد الحركة، وتدعو إلى تجريم الحزبية والمطالبة بحظرها. وتلقّى الجناحُ المتشدد في اليسار البرقية، وشنواً هجوماً قاسياً ضد سيف أحمد حيدر، وحزبِ العمل، ثم عرفنا فيما بعد أن من أرسل البرقية المزيفة، التي أذيعت ونشرت في كل وسائل الإعلام، هو محمد جُبران، مدير مكتب إبراهيم الحمدي.
الأمر الثاني: الحزب الديمقراطي الثوري كان عارفاً بالانقلاب. وليلةَ الحركة، كان عبد الحميد حنيبر، القيادي في الحزب الديمقراطي، والمختفي حينها، يزور الحمدي في منزله.
حركة 13 يونيو 1974 لم تُدرس، وجوانبُ مهمةٌ من طبيعة الحركة والأطراف السياسيين المشاركين فيها لم تُقرأ أيضاً، كما لم تُقرأ إنجازاتُها المختلفة.
الشكر الجزيل والامتنان للصديق العزيز والأستاذ الصحفي القدير والأديب محمود الحاج، الذي ذكّرني بما لا يُنسى.