خمسة أعوام مرّتْ، والحرب في اليمن وعليها لا تزال مشتعلة. إن العالم كلَّه يصرخ، مدركاً خطورة الوضع الذي حوَّل اليمنَ إلى أسوأ كارثةٍ يشهدها العصر؛ فتقارير الأمم المتحدة، وتقارير وكالات الأنباء، والصحف والأبحاث والدراسات الموثوقة، تؤكد أن اليمن يعيش خراباً غيرَ مسبوقٍ، وأن وجوده، كوحدةٍ وكيانٍ وشعبٍ، مُعرَّضٌ للتفكك؛ فنسيجه المجتمعي يتمزق، وإنسانه عُرضةٌ للهلاك.
ليس هناك أرقامٌ دقيقةٌ لعدد قتلى الحرب؛ فمنذ عامٍ أو عامين والإعلام يتحدث عن عشرة آلاف قتيل. والحقيقة أنه، ومنذ العام الأول، كان القتل في صفوف المليشيات، وقتلى القصف الجوي، يفوق هذا العدد. أما قتلى المدنيين فأعلى بكثير.
للأسف الشديد، ليس هناك رصدٌ دقيقٌ وموثَّقٌ للقتلى من الجانبين، أو لكل أطراف الحرب. والمأساة أن كل طرَفٍ يُخفي قتلاه، ويبالغ في قتلى الطرف الآخر؛ ما يجعل البلاغاتِ كاذبةً ودعائية. أما المنظمات المدنية فقد أُقصيتْ وغُيبت، وجُرِّم نشاطُها منذ البدء. وكذلك المنظمات الدولية، لم يُسمح لها بالتواجد، لرصد الجرائم والتأكد من عدد القتلى.
جرائم الحرب في اليمن، وضد الإنسانية، تبدأ ولا تنتهي. والمأساة أن هذه الجرائم تمرّ ولا يوثَّق لها، وليس عليها من شهودٍ موثوقين؛ فقد حرصت كل أطراف الحرب على رفض وجود لجنةٍ دوليةٍ مستقلةٍ توثّق للحرب، وترصد الجرائم؛ إذ كل طرف من هذه الأطراف لا يريد المساءلة، ويريد أن تبقى يدُه طليقةً في اقتراف الجرائم، دون رقيبٍ أو حسيب.
ندرك أنه لا مُكاثرةَ في القتل؛ فقتل إنسانٍ واحدٍ كقتل الناس جميعاً بنص التوراة والقرآن. (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) [المائدة:32]. فالقتل هو القتل؛ لكنا نفرّق بين مدى قدرة كل طرفٍ من أطراف الحرب على التخريب والأضرار التي يرتكبها. فالطيران فائق القدرة، والصواريخ العابرة للقارات، والقذائف فائقةُ التدمير، هي الأقدر على التهديم، وقد طالت الطرقات والبيوت والأسواق والأحياء الشعبية، والقرى والمدارس والمساجد وصالات العزاء والأعراس، والمستشفيات والآثار والمتاجر والمصانع ومخيمات اللجوء، والمكتبات العامة والإدارات والوزارات والمؤسسات الحكومية.
كل أطراف الحرب ضالعون في جرائم الحرب، وضد الإنسانية، وهم شديدو الحرص على عدم المساءلة أو التوثيق أو كشف هذه الجرائم. ويواجه الجميع، الآن، الوافدَ الجديد: وباء كورونا. وتأثيره الكوني البالغ الأثر لن تنجو منه المنطقة العربية ومحيطها، كإيران التي كانت مرتعاً خصبا لهذه الجائحة العالمية. تأثير هذا الوباء في الدول الصناعية الكبرى مُزلزلٌ؛ ولكن تأثيره على بعض بلدان "العالم الثالث"، خصوصاً إيران، قويٌّ أيضاً. "لن يعود العالم كما كان"؛ هي الجملة الأثيرة التي يطلقها الباحثون والمحللون السياسيون وكبار الأطباء، وتلُوكها الألسن، وتلهج بها القنوات والإذاعات ووكالات الأنباء.
لن تنجو من هذه الكارثة البلدان العربية؛ وإن كان نصيبها -شأن البلدان ضعيفة النمو- قليلاً. اليمن، البلد الذي تدخله الكوليراً، مرشحٌ نِصْفُه للفناء، حسب تحذيراتٍ طبية. لقد أصبح هذا البلد الفقير مرتعاً خصباً للأوبئة الفتاكة، كالكوليرا وحمى الضنك والتيفود والملاريا، وغيرها، وتغطي نيرانُ الحرب سماءه على مدى خمسة أعوام؛ فالناجي من القتل لن ينجو من المجاعة التي تصل إلى 80%، والناجون من المجاعة والقتل -وهم الأقل- لن ينجوا من الأوبئة الفتاكة. ورغم الموت المضاعف والمكرور، إلا أن الحياة تظل الأبقى والأقوى.
اليمن الآن مهددٌ في وجوده ككيانٍ وشعبٍ ووطنٍ، وتتغوّل فيه مليشياتٌ فاشيةٌ تنكر حضارته وتاريخه وكيانه الواحد، وتُفرض فيه كانتوناتٌ تصادر حقه في الحياة والحرية والكرامة
الحرب هي السلاح الأمضى الذي يشهره الطغاة والفاسدون في مواجهة الشعوب، والجهل والأوبئة الفتاكة أسلحةٌ يوظفها أعداء الحياة ضد الحياة. ففي المنطقة العربية كانت الأمة، من أقصى الغرب إلى البحرين، تنتفض وتنهض للخلاص من الحكام الفاسدين المؤبدين. فنثر الحكام كنانتهم، وأخرجوا الجيوش المزودة بالأسلحة الفتاكة والمدعومة بـ"الشبّيحة" و"البلطجية" ومليشيات الحرب والإرهاب؛ فكانت الحرب وسيلتهم المثلى والوحيدة لقهر إرادة الأمة في التحرر والخلاص. وبعد سنواتٍ ملأى بالكوارث وضحاياها بمئات الآلاف، ينتفض طائر العنقاء من رماد الحرب في سوريا والعراق والسودان وليبيا واليمن؛ فالنيران المسعرة، وإن أعاقت الاحتجاجات المدنية السلمية وغطّت عليها، إلا أن إرادة الحياة تظل أقوى من مدافع الموت وتفشي الأوبئة ومآسي الجوع وفداحة الظلم.
اليمن، الآن، مهددٌ في وجوده ككيانٍ وشعبٍ ووطنٍ، وتتغوّل فيه مليشياتٌ فاشيةٌ تنكر حضارة اليمن وتاريخه وكيانه الواحد، ويُفرض -عبر أزيز الرصاص وهدير المدافع وقصف الطيران وسفح أموال النفط - كانتوناتٌ هنا وهناك تصادر على اليمن حقه في الحياة والحرية والكرامة، وتدمر كيانه الحضاري الممتد لآلاف السنين.
خرافة "استعادة الشرعية"، أو ادعاء "الحق الإلهي"، أو إنكار يمنية الأرض اليمنية الممتدة لآلاف السنين، محاولةٌ لن يُكتب لها النجاح. فزُعران المليشيات المرتهنة للصراع الإقليمي، وقادة الصراع الإقليمي والداعمون الدوليون، يجهلون الإرثَ العربيَّ، واليمنيَّ تحديداً. هذا البلد الصغير والفقير، والمنكوب بحكامه، في مواجهة الأجنبي يتوحد؛ فهل أدرك العربي واليمني مقولة الشاعر القطامي التغلبي، قبل مئات السنين، ومقولات "ماو"؛ فالشاعر العربي يقول:
وأحياناً على بكرٍ أخينا إذا ما لم نجِدْ إلا أخانا
والمثل اليمني يقول: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب". أما "ماو"، ففي كُتيّبٍ له صغيرٍ "التناقضات في صفوف الشعب"، يعتبر فيه التناقضات في صفوف الشعب ثانويةً؛ بينما التناقض مع الاستعمار رئيسي. ولكن العصر الحاضر يثبت أن الطغيان هو الطغيان، وأن هناك ترابطاً بين الداخلي والخارجي، وأن الاستبداد الداخلي قد يكون أقوى وأقسى من الاستعمار؛ وهو ما أدركه باكراً الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد.