مازال فيروس كورونا يتفشّى في جميع أنحاء العالم؛ فيما توشك حالاتُ الإصابة الوصول إلى ثلاثة ملايين مصاب. وفي اليمن، يأتي الإعلان عن خمس إصابات بكورونا في محافظة عدن، ليسرق طمأنينة الإعلان عن شفاء الحالة المعلَن إصابتُها في 10 أبريل/نيسان الجاري.
غير أن الكارثة الصحية في اليمن لا تقتصر على كورونا؛ إذ هناك أوبئةٌ وأمراضٌ "غريبة" تفشّتْ مؤخراً، وتصيب الجهاز التنفسي للمرضى، في ما يشبه أعراض الإصابة بكورونا، عجز الأطباءُ عن تشخيصها بعد حصدها لأرواح المئات.
خلال الشهور الأخيرة من العام 2019 وبداية العام 2020، وصلت العديد من الحالات المصابة إلى بعض مستشفيات صنعاء، وقف الأطباء حائرين أمام تشخيصها.
الدكتور عبد الله السقاف، طبيب العناية المركزة بمستشفى عبدالقادر المتوكل، يقول لـ"خيوط" إنه منذ نوفمبر/تشرين ثاني 2019، استقبل المستشفى عشرات الحالات كانت تعاني من أمراضٍ تنفسيةٍ والتهاباتٍ حادّةٍ في الصدر تصل إلى فشل الرئتين. أغلب تلك الحالات "كانت تحتاج إلى تركيب جهاز التنفس الصناعي؛ لكن العجيب في الأمر أن أغلب الحالات لم يستطع أطباء التنفسية تشخيصَها، لذا كُنا نُشخّص بعض الحالات بأنفلونزا الخنازير H1N1، وعندما يكون فحص أنفلونزا الخنازير سلبي، يتم تشخيصها حُمى فيروسية وحسب"، يضيف السقاف.
انتشرت تلك الأمراض في أغلب المحافظات اليمنية؛ فيما كان يظنها بعض المصابين "أنفلونزا موسمية"، خصوصاً وأن تلك الأمراض تفشّتْ في فصل الشتاء. وما يثير الحيرة بشأنها، أن الأعراض التي كانت تظهر على المصابين شديدة؛ وهذا ما يُفسر حالات الوفاة التي كانت تتعدى نسبة 25% من المصابين، حسب مصادر طبية متطابقة.
مطلع يناير/كانون الثاني 2020، وأثناء شرحه الدرس لطلابه، أحسّ محمد علي (40 سنة)، وهو معلّمٌ من أهالي محافظة حجة (شمال غرب اليمن)، بصداعٍ شديدٍ في رأسه، فاستعجل في إنهاء الدرس حتى يعود إلى البيت ليرتاح. لكن بعد يومين، بدأت أعراضٌ غريبةٌ تشتدّ عليه، وبدأ يشعر بضيقٍ في التنفس، جراء السعال المتواصل. وعندما تم إسعافه الى أحد المراكز الصحية في المحافظة، اشتبه الأطباء بإصابته بإنفلونزا الخنازير.
أدخله الأطباء غرفة العناية المركزة، وأجريت له الفحوصات الطبية، لكن نتيجة الفحص لم تُظهر إصابته بأنفلونزا الخنازير (H1N1) أو بالدرن (السُل)، فاحتار الأطباء في تشخيص حالته. وبعد يومين فارق الحياة وحددوا سبب الوفاة بـ"حُمى فيروسية"
يقول شقيق المعلم محمد علي لـ"خيوط" إن شقيقه كان، منذ اليوم الأول لشعوره بالأعراض، يشكو من صداعٍ شديدٍ وسعالٍ، إضافةً إلى ألم في مفاصله. "لم تُجْدِ المهدئات والأقراص الفوارة لتهدئة أوجاعه، فأسعفناه الى أحد المراكز الصحية القريبة، فقرر الأطباءُ أنه مصاب بأنفلونزا الخنازير، وأنه يحتاج إلى أُوكسجين وإلى جهاز تنفسٍ اصطناعي"، يضيف الشقيق، موضحاً أنه اضطر لنقل شقيقه إلى صنعاء، بسبب شحّة أجهزة التنفس الصناعي في المرافق الصحية في حجة، بينما ظلت حالة المريض تتدهور بتسارعٍ مخيفٍ طيلة عشرة أيام. في مستشفى المتوكل بصنعاء (مستشفى خاص)، أدخله الأطباء غرفة العناية المركزة، وأجريَتْ له الفحوصاتُ التي قررها الأطباء في ملفه. لم تظهر نتيجة الفحوصات أنه مصاب بإنفلونزا الخنازير (H1N1) أو بالدرن (السُل)، ولم يستطع الأطباء تشخيص حالته. بعد يومين من دخوله غرفة العناية المركزة، فارق محمد علي الحياة، وحدّد الأطباء سبب الوفاة بـ"حُمى فيروسية".
رهاب الاشتباه
في يناير/كانون الثاني 2020 أيضاً، وفي أوقاتٍ متفاوتةٍ، وصلتْ إلى طوارئ مستشفى الثورة بصنعاء أكثرُ من 6 حالاتٍ تُعاني من التهاباتٍ حادّةٍ في الرئتين، وسعالٍ متواصلٍ وضيقٍ في التنفس. لكن الأطباء والممرضين في قسم الطوارئ لم يستطيعوا الاقتراب من هذه الحالات، خوفاً من أن تكون مصابةً بفيروس كورونا ((covid-19. تم إبلاغُ مسؤول الترصّد الوبائي في المستشفى، والذي بدوره أبلغ فريق مكافحة الأوبئة في وزارة الصحة، التابعة لحكومة صنعاء. حضر الفريق، واشتَبَه بإحدى الحالات، وتم نقلها الى مستشفى زايد، الذي خصّصتْه وزارة الصحة مركزاً للعزل الطبّي للمشتبهين بالإصابة بكورونا. وفي بعض الأوقات، كان يصل الفريق الى المستشفى متأخراً، بعد أن تُتَوفّى الحالة. وحسب أطباء في المستشفى، فقد نقل فريق مكافحة الأوبئة حالتين فقط، من الحالات الستّ، إلى مستشفى زايد، دون أن يُعرف مصيرهما.
في هذا الصدد، يتحدث لـ"خيوط" عبد الله عمارة، طبيب الإنعاش القلبي والرئوي بطوارئ مستشفى الثورة العام بصنعاء، مؤكداً أن قسم الطوارئ في المستشفى يرفض استقبال أيّ حالةٍ تظهر عليها أعراضُ كورونا، خوفاً من التعرض للإصابة بالفيروس: "نحن، كأطباء طوارئ، لا نجد أبسط أدوات الوقاية التي نستطيع أن نحمي بها أنفسنا، بل إن أكثر الممرضين والعاملين في الطوارئ لا يعرفون كيفية التعامل مع مثل هذه الإصابات. القليل منا تلقّى دورات في مكافحة العدوى، من قبل بعض المنظمات، لكننا في الوقت نفسه نتواصل مع مسؤول الترصد الوبائي، وهو بدوره يبلغ وزارة الصحة لإرسال فريق مكافحة الأوبئة في حال تطلب الأمر". هذا كل ما يستطيع أطباء الطوارئ فعله في مستشفى الثورة؛ ما يعني أنه غيرُ مخصّصٍ لاستقبال الحالات المصابة أو المشتبه إصابتها بكورونا.
غموض التشخيص
لم يُسجّل البرنامج الوطني لمكافحة الأوبئة في وزارة الصحة، التابعة لحكومة صنعاء، أيَّ مرضٍ أو وباءٍ جديدٍ؛ حيث تُشير إحصائياتُ البرنامج إلى أن حالات الاشتباه، المسجلة للعام 2019، بلغت 3082 حالة التهابٍ رئويٍّ حادٍّ، منها 601 حالة أنفلونزا و200 حالة أنفلونزا خنازير ((H1N1.
الدكتور وليد الثجيري، أخصائي طب الطوارئ والكوارث في مستشفى الثورة بصنعاء، قال لـ"خيوط" إن "بعض الحالات" التي استقبلها قسمُ الطوارئ في العام 2019، أيْ قبل ظهور فيروس كورونا، "لم يُظهر فحصُها المخبريُّ أيَّ تشخيصٍ معروفٍ، ولكن الأعراض كانت تظهر شديدةً على المصابين، وبعضهم كانوا بحاجةٍ إلى عنايةٍ مركزةٍ وجهاز تنفسٍ صناعيٍّ. وعند وفاة أي من هذه الحالات، كان يتم تسجيل سببها أنفلونزا الخنازير". يؤكد الدكتور الثجيري، معتبراً الغموض الذي كان يكتنف تشخيص تلك الحالات سبباً في عدم تمكن البرنامج الوطني لمكافحة الأوبئة بصنعاء من رصْدِ أيِّ وباءٍ غير "الأنفلونزا أو الالتهابات الرئوية الحادة الوخيمة".
انتشرت في المحافظات الساحلية اليمنية، خصوصاً في محافظة الحديدة وعدن وحجة، أمراضٌ تُشبه المرض الذي ظهر في صنعاء أواخر 2019 وبداية 2020، بالإضافة إلى أعراضٍ كالسعال الشديد والصداع وآلام المفاصل والحمى المرتفعة
أثناء حديث "خيوط" مع أحد المتعافين من تلك الأعراض، يقول عامر السامعي (27 سنة): "أصبتُ في شهر نوفمبر 2019، بزكامٍ وسعالٍ وأعراض أنفلونزا. صادف ذلك في فصل الشتاء؛ إذ كان الجو في تعز متقلباً، فأخذتُ مسكناتِ حرارةٍ ومهدئاتٍ، أملاً في الشفاء بعد أيام قليلة".
كان عامر، حينها، يظن بأنه مصابٌ بأعراض الأنفلونزا الموسمية التي اعتاد الإصابة بها كل شتاء، حسبما أفاد. غير أن الصداع كان يشتدّ عليه يوماً بعد آخر. كما تشتد، بالتزامن معه، نوباتُ سعالٍ وآلامٌ في الرئتين. بعد عدة أيام من الألم المستمر، زار أحد مستشفيات مدينة تعز، فأخبره الطبيب، بناءً على الفحوصات التي أجريتْ له، بأنه مصابٌ بـ"حمى فيروسية". وصَفَ له الطبيب بعض الأدوية، لكنها لم تُجْدِ نفعاً، فقرر حينها زيارةَ طبيبٍ آخر. وبعد فحوصاتٍ جديدةٍ، شُخّصت حالته بـ"أنفلونزا الخنازير" (H1N1)، ووصف له الطبيب دواءً آخر، لكن حالته لم تتحسّن رغم ذلك. "كنت لا أستطيع الأكل أو النوم بسبب شدة الألم الذي كنت أشعر به عندما أتنفس، لدرجة أني كنت أنام مقرفصاً، وعندما أجريتُ فحصاً طبياً مرةً أخرى، أظهرت الأشعة السينية الرئتين كما لو أنهما مثقوبتان ومليئتان بالسوائل. عدت حينها لآخر طبيبٍ زُرْتُه، فوصف لي دواءُ للسُّلّ، وبدأت حالتي تتحسن بعد استخدامه، وما إن تعافيتُ حتى بدأتْ أعراضُ المرض تظهر على من كانوا معي في المنزل، ولكن حالاتهم كانت مستقرةً، وأعراضها كانت أقل، وتم تشخيصها بحمى فيروسية"، يضيف السامعي، متذكراً أن هناك "حالاتٍ كثيرةً" كانت تعاني من نفس الأعراض في فترة مرضه وتداويه، وكان تشخيصُها يتنوّع بين الحمى الفيروسية وأنفلونزا الخنازير وحُمّى غرب النيل أو "المكرفس" -حسب التسمية المحلية في اليمن.
تحوّل الغموض إلى حيرة
وبالتزامن مع تفشي فيروس كورونا في الصين أواخر العام 2019، انتشرت في المحافظات الساحلية اليمنية، خصوصاً محافظات الحديدة وعدن وحجة، أمراضٌ أخرى تُشبه المرض الذي ظهر في صنعاء بنفس التوقيت. كانت أعراضه سعالاً وصداعاً شديدين وآلاماً في المفاصل وارتفاعَ درجة الحرارة. لم يتمكن الأطباء من تشخيص هذا المرض بدقة أيضاً، فكانت تتم إحالة الحالات بوصفها "مكرفس" أو "حمى المكرفس"، نظراً لكون المصابين لا يستطيعون الوقوف أو التحرك بسبب الألم الشديد الذي يشعر المصابُ به في كل مفاصل جسمه. أعراض ذلك المرض تكاد تتطابق مع أعراض مرض "شيكونغونيا" -عدوى فيروسية تنتقل بواسطة البعوض؛ وهذا ما أكده الدكتور صادق المقطري، أخصائي الرعاية التنفسية بمستشفى الثورة العام بصنعاء. يقول المقطري: "لا نعرف ما هي طبيعة هذا المرض الذي ربما يكون "شيكونغونيا"، ولكن ليس من أعراضه السعال وضيق التنفس، وهذا يضعنا أمام تقديرين: إما أن يكون المريض قد اُصيب بأنفلونزا الخنازير و"الشيكونغونيا" معاً، وهذا ما يزيد المرض تعقيداً من ناحية علاجه والشفاء منه، أو أن هناك فيروساً جديداً لا نعرف عنه شيئاً، خاصةً في ظل انتشار فيروس كورونا في جميع أنحاء العالم".
من ناحية أخرى، يورد الدكتور المقطري احتمالاً آخر للمرض، الذي انتشر في اليمن خلال الأشهر الماضية من أواخر العام 2019 وبدايات 2020، كأن يكون "ربما طفرةً جينيةً جديدةً من الطفرات التي يمر بها فيروس كورونا، لأن الأعراض التي كانت تظهر على المصابين غريبةٌ، وكانت تطابق إلى حدٍّ كبيرٍ مع أعراض كورونا حالياً". ولأن المنظومة الصحية، التي دفعتْها الحربُ إلى الانهيار على مدى خمس سنوات، لم تكن تمتلك في ذلك الوقت فحوصات الـ"BCR"، ولأن نتائج الفحوصات كانت تظهرُ إيجابيةً من جهة إصابة المرضى بأنفلونزا الخنازير، فقد بلغتْ وفيّاتُ أغلب الحالات المصابة في تلك الفترة، بنسبة تصل إلى 15% من أجمالي الحالات المصابة.
أكرم الشوافي (35 سنة)، ناشطٌ حقوقيٌّ ورئيس مؤسسة "رَصْد" للحقوق، أطْلع "خيوط" على تجربته الشخصية مع مرض "المكرفس". يقول أكرم: "طبيعة عملي، كناشط حقوقي، أن أختلط بالناس، وواردٌ جداً أن أكون قد اختلطتُ بشخصٍ مصابٍ بهذا المرض. عانيتُ في البداية من حمّى شديدةٍ وصداعٍ، ثم سرعان ما بدأ الألمُ يسيطر على كلّ جسدي، وبدأت نوباتُ السعال". ونتيجةً للتوتر والخوف من أن يكون مصاباً بكورونا، ذهب أكرم إلى مستشفى صابر في عدن؛ لكن الأطباء هناك أخبروه بأنه مصاب بـ"المكرفس". كان ذلك "تشخيصاً أولياً" كما وصفه أكرم، فالأدوية التي وصفها له الطبيب لم تُزل أعراض المرض وآلامه؛ ما دفعه لزيارة أطباء آخرين في عياداتهم. لكنهم جميعاً لم يتعرفوا على سبب العلّة التي أصابته، حسب تعبيره.
هكذا تستمر معاناة المواطن اليمني، الذي تنهشُ جسدَه أمراضٌ مختلفة؛ بينما لا يملك حتى إمكانية معرفة تشخيصَ مرَضه. وفيما يتحول غموضُ التشخيص إلى حيرةٍ لدى الأطباء، فإنه يتحول لدى المرضى إلى خوفٍ وهلعٍ قاتليْن؛ ليس بسبب جدّة هذا المرض أو ذاك، وإنما لأسبابٍ عدةٍ ليس آخرها انهيار المنظومة الصحية جراء استمرار الحرب، واستهلاكها لمقدّرات البلاد وطاقات سكانها.