لحضرموتَ حضورٌ كبيرٌ في التاريخ منذ مراحلَ باكرةٍ؛ فالحضارة اليمنية امتزجتْ وتداخلتْ مع حضرموت سلباً وإيجاباً. المؤرخ والعلامة الجليل محمد عبد القادر بافقيه يعود بولادة الاسم "يمن" إلى مناطق معينة في حضرموت. ولحضرموت حضورٌ قويٌّ في العهد القديم؛ التوراة. فالأحقاف وعاد وثمود، أسماؤها ومواقعها في حضرموت. وقد لعب الحضارم دوراً ريادياً في الفتوحات الإسلامية، كقادةِ جيوشٍ وأمراء؛ طالب الحق، أو بالأحرى، الإمام الحق، كما يسميه أتباعه، القاضي عبد الله بن يحيى الكندي، خرج منتصفَ القرن الثاني الهجري على الدولة الأموية، واجتاح الجزيرةَ كالإعصار.
لحضرموتَ وأهلِها وجودٌ في كل مراحل التاريخ؛ رغم أن التأريخ للحركة الوطنية اليمنية اقتصر على صنعاء وعدن. وإذا ما أعدْنا البحثَ والتنقيبَ عن جذور نشأة التجديد والحداثة، فيما لو نظرنا إلى اليمن كوحدة وطنية واحدة، فلا بدّ أن يكون البدء من حضرموت؛ فمنذ مطلع القرن العشرين كانت نشأةُ الصحافة في المهاجر الحضرمية في جنوب شرق آسيا، وتحديداً في إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة. وهذه الصحافة، الواصلةُ إلى ما يقرب من أربعين صحيفةً، هي الموثَّقةُ والمعروفة؛ بينما يشير بعض الباحثين إلى إصدار ما يزيد عن ألف صحيفةٍ للمَهاجر الحضرمية في الصين والهند والفلبين وكمبوديا وتايلاند وشرق أفريقيا. وحقاً، فإن الهجرة الحضرمية إلى هذه المناطق ضاربةٌ في أعماق التاريخ. واستطاع الحضرمي، الداعيةُ بالسلوك وضرْب المَثَل والقدوة الحسنة، إقامةَ دولٍ وكياناتٍ حضارية. وأسهم الحضارم بدورٍ فاعلٍ وحيٍّ في نشر الحضارة والفكر والإسلام، واندغموا في هذه المجتمعات؛ ليصبحوا جزءاً من هويتها. ولعب الحضرمي -الداعية والتاجر- في كفاح هذه الشعوب ضد الاستعمار البرتغالي والهولندي والياباني، دوراً مشهوداً. وكان الحضارم صُنّاعَ حضارةٍ، ورُوّادَ فكرٍ وأدب.
تفتَّق وعيُ الحضرمي اليمني العربي في هذه القارة مع ما يسميه لينين "استيقاظ آسيا"؛ فالثورات الروسية والهندية والتركية ودعواتُ التحرر والإصلاح في مصر والبلدان العربية كانت محلَّ اهتمامِ وتتبّعِ الحضرمي.
في قراءة عجلى للصحافة الحضرمية في المهاجر، يلاحَظ اهتمامُ الإنسان الحضرمي المبدع والذكي بأحداث العالم: الحربين العالميتين، والدعوات المشروطة في تركيا وإيران، ودعوات الإصلاح، والاهتمام بالحداثة والتجديد. ولم يغِبِ الحضرميُّ عن النشاط التجاري والتنمية والبناء؛ فقد أسهم في بناء المدارس والجمعيات الخيرية والإحياء الديني، والحفاظ على اللغة العربية، وبناء الجسور مع الوطن العربي والعالم، ومتابعة قضايا فلسطين.
رغم الخلافات بين الإرشاديين والعلويين مطلع القرن العشرين الفائت، إلا أن الحضارم استطاعوا أن يجعلوا منها شكلاً من أشكال التنافس والتباري، لنشر الوعي والمعرفة والعلم، والتسابق على تقديم المساعدة والعون في جوانب معينة. العصبيات المتخلّفة في حضرموت، والصراع اليمني-السعودي، وفي المنطقة العربية، والصراع السني-الشيعي، والمكائد البريطانية، لم تكن بعيدةً عن هذا الصراع.
وقف الحضارم ضد البرتغاليين والبريطانيين في موطنهم حضرموت. والشهداء السبعة، تماثيلهم قائمةٌ حتى اليوم. كما دافعوا عن تحرر واستقلال مهاجرهم في جنوب شرق آسيا، وشرق أفريقيا. والصحافة الحضرمية، وكتابات أحمد عبد الله السقاف ومحمد عبد القادر بامطرف وصلاح البكري والدكتور مسعود عمشوش والدكتور محمد أبو بكر باذيب والدكتور صالح أبو بكر، ابن الشيخ أبو بكر، وعلي أنيس الكاف والدكتور جمال حزام النظاري وحامد القادري والدكتور عبد الله الزين، والباحث المهم سرجنت ودانيال فان والصبان، تؤكد ذلك.
دور الحضارم حاضرٌ بقوةٍ في تأسيس الكيانات الحديثة، وفي التقنين والتشريع، وتأسيس الكيان السعودي وبنيته التحتية ومعالمه الحضارية وثروته وثرائه، كما كانوا شوكة الميزان والعقل الراجح في مسار الحياة السياسية، والمبادرين لتحقيق السلام منذ ثلاثينيات القرن الماضي
كان المبدع الرائد علي أحمد باكثير سَبّاقاً في نسج العلاقات مع العصر ومع التيارات الحديثة. وريادته امتدت إلى الشعر الحديث، والمسرح الشعري. وأبو بكر بن شهاب كان رائداً في الإحياء الشعري، وتربطه علاقاتٌ وصِلاتٌ بشوقي وحافظ إبراهيم. وحداد الكاف كان رائداً في الشعر الغنائي. والحامد والبار من رُوّاد التجربة الشعرية الحديثة. وأحمد عبد الله السقاف كاتبَ أول رواية يمنية "فتاة قاروت" 1927. ومن ينسى محمد جمعة خان، وحسين المحضار، الشاعر والفنان الكبير، ورفيقه الشاعر والفنان المبدع أبو بكر سالم بلفقيه؟
المؤرخون للحركة الوطنية، منذ منتصف القرن العشرين، يقفون عند تُخوم "حزب الأحرار"، و"الجمعية اليمنية الكبرى"، وحزب "رابطة أبناء الجنوب". وفي الصحافة، تكون البداية: "صنعاء" و"الحكمة" و"فتاة الجزيرة" و"الإيمان"، متجاهلين عشرات الصحف الحضرمية المهاجرة. كما يقفزون على دور الحضارم في دورهم في السعي لإرسال أول بعثةٍ عسكريةٍ إلى العراق: السلال ورفاقه الذين لعبوا دوراً حاسماً في الحركة الدستورية 48، وحضورهم في الحركة الوطنية الأم "حركة الأحرار"، أو "الرابطة" من خلال الرموز: علي عقيل وشيخان الحبشي، والصحفي القدير أحمد عمر بافقيه. وكانت حضرموت بداية الانطلاق لتأسيس أول وجودٍ حزبيٍّ عربيٍّ قوميٍّ، "حزب البعث العربي الاشتراكي" فيما بعد، وكان العلامة والقومي البارز علي عقيل عضوَ القيادة القومية منذ التكوين.
دور الحضارم حاضرٌ بقوةٍ في التأسيس للكيانات الحديثة، وفي التقنين والتشريع. وكانت حضرموتُ حاضرةً في تأسيس الكيان السعودي وبُنيته التحتية ومعالمه الحضارية، وثروته وثرائه وحداثته. وكان الحضارم شوكة الميزان والعقل الراجح في مسار الحياة السياسية، وكانوا المبادرين لتحقيق السلام منذ ثلاثينيات القرن الماضي .
تنأى حضرموتُ بنفسها عن الصراع القاتل الذي انخرط فيه مختلفُ مناطق اليمنيين. وقف أهلُها في منطقة أعرافٍ، محافظين على الاستقلال، وداعين وحامين للأمن والسلام والاستقرار. أفشلوا دعوة علي عبد الله صالح غيرَ البريئة لتقسيم حضرموت إلى محافظتين، وكانوا أول من قاد "هَبّة حضرموت" في العام 1997، وهي الهَبّة الأولى التي زعزعتْ أركانَ حُكْمِ صالح، وأسستْ للمقاومة الشعبية السلمية، ولاحقاً لاحتجاجات "الربيع" التي غمرت اليمن كلها. وكانت تلك الهبة الاحتجاجية أولَ ردٍّ على حرب 1994 الجائرة؛ فحضرموتُ، اليمنيةُ العربيةُ، حاضرةٌ بقوةٍ في التحديث والتطوير والتنمية والبناء في الجزيرة كلها، بل وفي مناطق آسيا وأفريقيا. وكانوا في قلب التأسيس للحركة الوطنية في الشمال والجنوب؛ فالتاجر العائد من "جاوة" إلى صنعاء، حسين الحبشي، هو مَنْ نصح الإمام يحيى بإرسال بعثةٍ طلابيةٍ للدراسة العسكرية في العراق، وقام بالوساطة. وكان الضباط العائدون من العراق هم نواة التغيير ونواة الثورتين: 1948 و1955. أما ثورة الـ26 من سبتمبر 1962، فإن المحامي صالح الحبشي، أحد المبعوثين للعراق والزعيم البعثي، هو من ترأّسَ خلية الضباط الأحرار، ليُصْدروا قرار الحدث العظيم؛ قيام الثورة.