في فبراير الماضي، ماتت مريم أحمد سليمان بجلطةٍ دماغيةٍ، بعد أن ظل أبناؤها أياماً يبحثون عن سريرٍ تستريح عليه داخل غرف العناية المركزة، في مستشفيات الحديدة وصنعاء.
اعتذرتْ جميعُ المستشفيات الحكومية والخاصة عن استقبالها، بسبب وضعها الصحي الحرج الذي يستوجب عنايةً خاصةً، بعد أن أدخلتْها الجلطةُ المباغتة في غيبوبةٍ تسببت في نزيفٍ داخليٍّ أسفل الجمجمة، حسبما يفيد ابنها علي.
يقول علي إن والدته، التي كانت في عمر الـ60 عاماً، انتقلت إلى رحمة الله بعد أسبوعين من طَرْق أبواب المستشفيات في صنعاء. ويتساءل: "ليس والدتي فقط هي من كان يستدعي وضعُها الصحيُّ الخضوعَ لعنايةٍ طبيةٍ مكثفة؛ هناك عشراتُ الحالات مثلها، وجدناهم مكدّسين في طوارئ المستشفيات". السبب في ذلك، حسب علي، هو ازدحام المرضى الذين لا تستطيع هذه المستشفيات استيعابهم جميعاً، نظراً لمحدودية طاقتها الاستيعابية.
ويضيف علي أنه، وإخوته، بعد البحث المضني وجدوا سريراً لأمهم في مستشفىً خاصٍّ، لكنهم عندما أدخلوها تفاجؤوا بأن الغرفة، التي تم استيعابها فيها، ليست غرفةَ عنايةٍ مركزة؛ كانت غرفةً أشبه بـ"ديوان طويل"، يرقد فيها حوالى تسعة مرضى، مرتبطين بأسطوانة أكسجين واحدة، "وبعض أجهزة الإنعاش"، وبتكاليف باهظة جداً.
هكذا استسلم أولادُ الحاجّة مريم سليمان وقبلوا بالوضع المتاح، تشبثاً بأملِ تماثُل والدتهم للشفاء. يقول عبده، نجلها الأكبر: "طلب المستشفى منا أن نوقّع على عمليةٍ جراحيةٍ داخل الجمجمة، من أجل زرع جهازٍ لسحب السوائل. وكَلّفتنا رسومُ العملية وتوابعُها أكثرَ من مليون وخمسمائة ألف ريال". كان ذلك المبلغ أكبرَ من قدرة الأبناء على توفيره، وبالكاد استطاعوا اقتراضَه من معارفَ وأقاربَ لهم، وانتظروا إفاقةَ والدتهم، دون جدوى. "بدلاً من تحسُّن صحة الوالدة، زادت حالتها سوءاً، وكان الأطباء يطلبون كل ثلاثة أيام كشافةً مقطعيةً للتأكد من جدوى العملية"، يضيف عبده.
جهاز الكشافة المقطعية لم يكن متوفراً لدى المستشفى الذي رقدتْ فيه مريم، حسب إفادات أبنائها. لذلك، كانوا مضطرّين لحملها من الطابق الثالث إلى فناء المستشفى؛ حيث تنقلها سيارة الإسعاف الخاصة بذات المستشفى لإجراء الكشافة في مكانٍ آخر. كلفة إجراء الجهاز 30 ألف ريال، وأجرة سيارة الإسعاف 20 ألف ريال، وكان على أبناء الحاجة مريم دفعها كل ثلاثة أيام.
تعيش هذه الأسرة في قريةٍ نائيةٍ بريف محافظة رَيْمَة. حِرْفتُهم الأساسية التي يعيشون منها رعيُ الأغنام والزراعة. وعندما سقطتْ والدتُهم فجأةً على سجّادتها، وجدوها في غيبوبة، وارتعبوا.
في المستشفى الخاص الذي رقدتْ فيه الحاجة مريم مدةَ أسبوعين، تراكمت الديون، وفواتير المعالجة والرقود بما يفوق قدرة أولادها على تحملها
يقول علي: "كنت وحدي في البيت، وكان الوقت ليلاً، ولا توجد سيارة في القرية. ذهبت أبحث عن سيارة إسعافٍ من قريةٍ بعيدة، ونقلناها إلى مستشفى في مدينة باجل".
تبعد باجل عن قرية علي قرابة 100 كم. وفي المستشفى، لم يستطع الأطباء فعل شيء لوالدته، لكنهم نصحوا بنقلها إلى صنعاء بسرعة. بالكاد وجد الأبناءُ سيارة إسعافٍ نقلوا فيها والدتهم إلى مستشفى الثورة بصنعاء، حيث تفاجؤوا باكتظاظ قسم الطوارئ بعشرات المرضى، وبردود الأطباء: "لا نستطيع فعل شيء لوالدتكم. انقلوها إلى عنايةٍ مركزةٍ في مستشفى خاص".
في المستشفى الخاص، الذي رقدت فيه الحاجة مريم مدة أسبوعين، تراكمت الديون، وفواتير المعالجة والرقود التي تفوق قدرة أولادها على تحملها. عندما فقد الأبناءُ الأمل في تحسُّن حالتها، قرروا نقلها إلى البيت؛ حيث "الموت مسألة وقت فقط"، حسب علي. غير أن إدارة المستشفى رفضت إخراج المريضة، مبررة ذلك بأن جهاز الإنعاش هو الذي يؤجل توقف القلب، وفي حال تم نزعه ستموت. "لا نريد تحمل إثم موتها بنزع الجهاز. هكذا أخبرتنا إدارة المستشفى"، حسب علي.
أمام تلك المعضلة، قرّر علي وإخوته الانتظار ثلاثة أيامٍ أخرى، فتضاعفتْ فواتير المستشفى؛ فيما رفضت الإدارة إخراج الجثة إلا بعد دفع متأخرات التكاليف. حينها، تدخل "وسطاء ومعارف" مع الأسرة وسددوا المتأخرات. "حتى الآن مازلنا نسدد الديون التي لم نعرفها طوال حياتنا. ديونٌ طائلةٌ كبّدتْنا بيعَ المواشي وذهبَ النساء وكلَّ شيءٍ ثمينٍ في بيوتنا"، يقول علي.
كان باستطاعة علي نقل والدته إلى القاهرة بتلك التكاليف المالية الباهظة، لو كان مطار صنعاء مفتوحاً؛ بينما يصف شعوره حينها تجاه المطار المغلق: "كنا نشعر أن أبواب السماوات والأرض أيضا مغلقة".
هكذا ماتت أم علي، التي ضاقت عليها الدنيا، وأظلمت بعد رحيل فلذة كبدها محمد، ابنها الأصغر، (23 عاما)، بسبعة أشهر؛ حيث وجده والده منتحراً على مسافة كيلومترٍ من البيت. انتحر بجرعةٍ قاتلةٍ من السم، بد أن دخل في حالةٍ نفسيةٍ مريعةٍ بسبب البطالة وعدم توفر ما يَعُول به نفسَه.
توترت الأم بعد انتحار ابنها، ودخلت، بدورها، في صدمةٍ نفسيةٍ طويلةٍ، جعلتْها تتذكره ليلَ نهارَ، وتبكي. "كانت أمي تقول لي إنها تشعر بأنها ستموت بعد محمد؛ إذ إنها تحلم به كل ليلة". يتذكر علي كلام والدته: "كانت تقول لي باستمرار إنها تشعر بدوخة ودوار، وكنت أتساهل. ليتني عرضتُها على طبيبٍ حينَها".