الدعوةُ المتكررة للسلام تمتدّ وتتّسع في عموم اليمن. الدعوةُ ليست آتيةً من رؤيةٍ سياسيةٍ أو بُعدٍ فكريٍّ، على أهمية ذلك وواقعيته أيضاً؛ وإنما تصْدُر وتتسع بالأساس بسبب معاناة اليمنيين وهول الكارثة المُعاشة.
التهديد بوباء كورونا، المحْدق والمنتشر في أنحاء العالم والمتحفز في الجوار، لن يكون إلا بمثابةِ رصاصة الرحمة؛ فالأرض محروثةٌ بالأوبئة الفتّاكة المقيمة، كالتيفود وحمى الضنك والملاريا والكوليرا والبلهارسيا والرمَد والجُدَري، وأوبئةٍ تبدأ ولا تنتهي، فضلاً عن مجاعةٍ تطال غالبية السكان، وتُميت يومياً المئاتِ، خصوصاً من العجزة والأطفال. قبل ذلك وبعده، حربٌ مستعرةٌ لخمسة أعوامٍ عمّت اليمن -كل اليمن- وقتلت الآلاف، وشردت الملايين داخلَ وطنهم وخارجَه. ويتكرر التشريدُ مرةً تلو أخرى، ومن منطقةٍ لمنطقة؛ بسبب تواصل المعارك البرية، والقصف الجوي السعودي-الإماراتي.
تُجّار هذه الحرب ومُسْعروها، في الداخل والإقليمي والدولي، لم يُبقوا على جريمةٍ من جرائم الحرب إلا ارتكبوها؛ كاستهداف المدنيين وتدمير المنشآت الاقتصادية، وقصف الأحياء السكنية والأسواق الشعبية، وصالات العزاء والأعراس والمناطق الأثرية والمدارس والجسور ودور العبادة والمستشفيات.
تجنيدُ الأطفال، وهو ملفٌّ مليءٌ بجرائمَ ضد الإنسانية، متورطٌ فيه كلُّ أطراف الحرب، بالإضافة إلى الاعتقالات الكيفية والاختفاء القسري والتعذيب. كما أن هناك حديثاً عن الاغتصاب وأحكامٍ جائرةٍ بالإعدام، بدون توفير الحدود الدنيا من شروط المحاكمة العادلة والإنصاف.
القمعُ والترويع لا يقفان عند حدٍّ، وقطعُ المرتبات ومنع تداول العملة، والحصار الجوي والبري والبحري، والحصار داخل البلد بين المدينة والمدينة، وبين القرية والأخرى، قد ألحق أفدحَ الأضرار بالبلد.
مُشعلو الحرب لا يريدون لها أن تنتهي إلا بتحقيق أهدافهم المستحيلة أو شبه المستحيلة. هناك متكسِبون من الحرب يعملون فيها بالأجر اليومي، وهي تدرّ أرباحاً بملايين الدولارات على قادة المليشيات والزعماء والقادة السياسيين.
كارثةُ استمرار الحرب في اليمن أنّ كل أطرافها المدركين صعوبةَ -إن لم يكن استحالةَ- الانتصار بالحرب، يرون ألّا مستقبلَ لهم إلا باستمرار الحرب؛ ففي نهايتها نهايةٌ لهم. ثم إن سكوت المدافع يعني ارتفاع أصوات الضحايا، وهم غالبية الشعب اليمني؛ فسكوت المدافع يعني بداية المساءلة عن الجرائم وعن المفقودين وعن المخفيين قسرياً والمعتقلين، وعن أسباب الدمار الذي ألحقتْه الحربُ باليمن واليمنيين، وعن كل الجرائم. ولن تكون اليمن وحدها من يطرح الأسئلة الحارقة؛ فالمواطن في دول "التحالف" سوف يتساءل عن القتلى من أبنائه، وعن المليارات المُهدَرة في الحرب، وعن كل الخسائر في العدة والعتاد. والمواطن الإيراني سوف يتساءل عن تمويل حروبٍ في غير مكان، وبالأخص في اليمن. ومن المعروف، في كل الاحتجاجات الإيرانية الماضية، أن الإيرانيين كانوا يطرحون قضايا التورط في الصراعات خارج إيران. الأمريكان والبريطانيون والفرنسيون هم الأكثر تضرراً من وقف الحرب في اليمن؛ فمصانع السلاح سوف تفقد الكثير من الأرباح التي تجنيها.
الحرب في اليمن أسوأ جريمةٍ في العصر، كما تسميها الأممُ المتحدة ووكالاتُ الأنباء والرأيُ العام العالمي. وسكوتها سوف يكشف عن جرائمَ مغيبةٍ لمشعلي هذه الحرب، وسيضَعُهم في مصافِّ أسلافهم من الفاشست والنازيين.
وقفُ الحرب في اليمن، التي يتخوف منها صُنّاعُها، سوف يؤكد أنهم الأجدرُ بالوقوف أمام محكمة الجنايات الدولية. وإذا ما تحققت العدالة الدولية، فسيُلزَمون بالتعويض عن كل الخراب والضحايا والمآسي التي طالت الشعبَ اليمني كلَّه.
هناك جرائمُ حربٍ تبدأ ولا تنتهي؛ فالحصار شامل: خارجيٌّ وداخليٌّ، قبل "كوفيد 19". وهناك مجاعةٌ تطال غالبية السكان، واستهدافٌ للمدنيين، وقتلى بعشرات الآلاف، وهناك إصرارٌ إقليميٌّ سعودي-إماراتي مستجيبٌ لمخططٍ دوليٍّ على تقسيم اليمن، والعودة به إلى ما قبل الـ22 من مايو 1990، وربما أبعد من ذلك
الطمعُ في تحقيق ما عجز السلاح عن تحقيقه، والخوف من المساءلة، هما سببان من أهم أسباب استمرار الحرب. كما أن غياب رصد الجرائم يغيّب المساءلة ويتيح للمليشيات ودول الصراع الإقليمي أن تقترف من جرائم الحرب وضد الإنسانية ما تشاء.
قدم المستقلون لـ"مركز دعم الحوار" قراءةً عن جرائم النزوح. وفي قراءةٍ غير استقصائيةٍ، تناولتْ بعضُ تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية هذه الجرائم، والمصيرَ المجهول الذي يتهدد ما يزيد عن أربعة ملايين ممن يتكرر تهجيرهم بسبب تجدُّد الاشتباكات هنا وهناك؛ فاليمن كلها ساحة حرب للمليشيات الداخلية، كما أنها عرضةٌ لقصف الطيران الإماراتي-السعودي المتواصل منذ بدء الحرب.
الباحثة بشرى المقطري دوّنتْ في كتابها "ماذا تركت وراءك؟" مآسي النزوح، وما يتعرض له النازحون من إكراهات وحرمان، وتعرضهم للقتل، إما بسبب الحرب الأهلية أو القصف الجوي؛ في حين يفتقرون للبيئة الآمنة وأماكن الإيواء، بعد تهديم منازلهم وفقدان ثرواتهم وموارد عيشهم. كما أنهم يعانون من نقص الغذاء وغياب الرعاية الصحية والحرمان من فرص تعليم أطفالهم، أو حصولهم على ما يكفُل حياتهم. وفي تدوين الباحثة والناشطة الحقوقية المقطري، وفي ورقة الفريق المستقل في برنامج دعم الحوار، شكاوى مريرةٌ للنساء النازحات اللاتي يتحمّلْن فوق طاقتهن في إعالة أسَرهنّ، وتحمُّل مسؤوليات جلب الحطب والماء من أماكنَ بعيدةٍ، ورعاية الأطفال والمسنين.
هناك جرائمُ حربٍ تبدأ ولا تنتهي؛ فالحصار شامل: خارجيٌّ وداخليٌّ، قبل "كوفيد 19". وهناك مجاعةٌ تطال غالبية السكان، وهناك استهدافٌ للمدنيين، وقتلى بعشرات الآلاف. وهناك إصرارٌ إقليميٌّ سعودي-إماراتي مستجيبٌ لمخططٍ دوليٍّ على تقسيم اليمن، والعودة باليمن إلى ما قبل الـ22 من مايو 1990، وربما أبعد من ذلك.
دعواتُ السلام، المعبّرة عن إرادة غالبية أفراد الشعب اليمني، لا تلقى الاستجابة الكافية، وتُقابَل بالمزيد من الإيغال في الاحتراب.
في مسعى السلام، لا ينبغي التقليلُ من أهمية دور المجتمع الدولي، ودور الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الدولية. وبالقدر نفسه، لا يمكن التعويل 100% على هذا الدور.
جليٌّ أن للصراع الإقليمي دوراً فاعلاً ومؤثراً، وهو -ربما للأسف الشديد- أكبر من الدور الوطني. ورغم كل ذلك، يبقى الأمر الأهم العمل على تزكية الدور اليمني، وحث اليمنيين على أخذ قرارهم بأنفسهم، والقبول ببعضهم، وإدراك أنه ليس بإمكان أيّ طرفٍ أن يحكم اليمن بمفرده، وأن الوطن يتسع للجميع، ولا مَخرجَ ولا منجى إلا بالعودة للحوار والتوافق على حلٍّ سياسيٍّ يكفُل أمن اليمن وسلامها واستقرارها. والأهم من كل ذلك، نزع قناع الخوف، والدأب لتقوية الإرادة السلامية الرافضة للحرب، والمنكوبة بها، ورفع صوت الاحتجاج ضدها.
اليمنيون، ضحايا الحرب الذين يُستلَب وطنُهم ويُدمَّر ويُحتَلّ، هم المعنيون بالأساس برفض الحرب، والنهوض للمقاومة، ولو بالاحتجاجات السلمية ضدها .
لا يحتاج المرء إلى ذكاءٍ ليدرك أن غايةَ هذه الحرب وضْعُ الكل في مواجهة الكل، وتمزيقُ اليمن، وتهديمُ كيانه، ليتحول إلى لقمةٍ سائغةٍ لإعادة رسم خارطته، في مسار رسم خارطة المنطقة كلها.